في المدن البعيدة عن المركز حكايات مختلفة وهموم تتراوح بين العيش القليل والحنين الجارف. انها اللاذقية المدينة الساحلية في سورية، منفذ السوريين على البحر. ولكن للاذقية حياتها الداخلية وهموم اهل اصابتهم طرفيتها بشيء من الحياد. لا يختلف شبان اللاذقية كثيراً عن نظرائهم في بقية المحافظات السورية في توجهاتهم وتطلعاتهم على رغم اختلاف بيئتهم المحيطة. لكن الى جانب احلام الشباب المعروفة في السفر والبحث عن عمل في الخارج والوقوف على أبواب السفارات في العاصمة استجداء للهجرة، ينفرد معظم الشبان اللاذقيين بتعلقهم الشديد بالبحر وميلهم الى احتراف مهنة "القبطان" ربان السفينة او البحار او صائد السمك تبعاً للطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها كل منهم. وترتفع نسبة التعليم بين الشبان والشابات في اللاذقية. ويشكل تحصيل العلم في الجامعات الخاصة والأجنبية في الخارج هاجس العدد الأكبر منهم. وينتقل الكثيرون من الميسورين الى الجامعة الأميركية الى بيروت بشكل اساس. وإلى لندن والعواصم الأوروبية الأخرى في الدرجة الثانية. لكن غالبيتهم تتعلق بالبحر باعتباره جزءاً من الحياة اليومية. يقول سلام الزين 23 سنة: "سافرت الى لندن لأدرس الهندسة. لكنني لم أطق الغربة والابتعاد عن منبتي وأهلي. وكنت أستغل فرصة اي عطلة لأعود لرؤية اصدقائي والتمتع بالبحر. وأنا اعد الأيام لأنتهي من الدراسة وأعود الى اللاذقية". القباطنة ويحلم الشاب في اللاذقية منذ صغره بأن يصبح قبطاناً إذ يشكل البحر ملاذه وموقع عمله المستقبلي. وازدهرت مهنة قيادة السفن منذ القديم وازداد الإقبال عليها منذ نحو عشر سنوات. وكان الشبان سابقاً يقصدون مصر لدراسة الملاحة البحرية والتدرب عليها. اما الآن، وبعد ان افتتحت مدرسة بحرية في اللاذقية، فعادت المهنة الى مجدها الأول وأصبح الكثير من الشبان يعملون فيها. وتعاني زوجة القبطان أو البحار من غياب زوجها عنها لفترة طويلة تتراوح بين ستة اشهر وسنة يعود بعدها في اجازة تقل عن الشهر. تروي فدوى سليمان معاناتها قائلة: "تزوجت منذ سنتين ونصف السنة من قبطان، ولم أنجب حتى الآن. يضايقني الأهل والأقارب بأسئلتهم عن السبب على رغم انني لم أر زوجي طوال هذه الفترة سوى خمسة اشهر. إذ يغيب ستة اشهر في البحر ثم يعود في اجازة قصيرة وهكذا...". اما ميساء بيطار فتتحدث كاتمة دمعها "تزوجت من قبطان وسافرت معه في البحر لمدة سنة ونصف السنة، وعدت بعد ان حملت بطفلتي الى منزل اهلي حيث وضعت الطفلة، وما زلت اقيم عندهم انتظر عودة زوجي شهراً كل سنة. وتنتظر ابنتي التي اصبح عمرها أربعة اشهر رؤيته للمرة الأولى". وتنقسم مهنة القبطان الى فرعين: القبطان الأرضي وهو الذي يعمل في احد الميناءات كدبي او الاسكندرية او غيرهما ويبقى في الميناء. والقبطان البحري الذي يظل مسافراً في البحر لفترة قد تصل الى ستة اشهر. الصيادون وتختلف مهنة الصياد التي يمتهنها بعض الشبان عن مهنة القبطان إذ لا يضطر صاحبها الى مغادرة البلد. لكنها لا تخلو من المتاعب والمشقات كتأثرها بالأحوال الجوية، وخصوصاً العواصف وارتفاع الموج. وشهد فصل الشتاء المنصرم حادثة جنوح احد قوارب الصيد بعد تعطل محركه الى المياه الإقليمية المصرية وكان يحمل ثلاثة شبان عثرت عليهم سفينة تركية في عرض البحر ونقلتهم الى مدينة مرسين وعادوا منها الى ديارهم بعد ان بقوا ثمانية ايام من دون طعام أو شراب. كما يعاني الصيادون الشبان من تجار السمك "الكبار" على حد تعبير احدهم الذين يمنعون التجار الصغار من الخروج للصيد احياناً ويحتكرون الربح لأنفسهم. ويقول الصياد سامر عبود: "قمنا منذ فترة بالتجمع امام مركز المحافظة للاحتجاج على منعنا من الصيد والسماح لغيرنا بالخروج لكن من دون فائدة". مصاعب ويشكل تعاطي المخدرات والإدمان المنتشر بين الصيادين الشبان ظاهرة خطرة تؤثر في صحتهم وعملهم ومستقبلهم. يقول سليم محفوظ: "يغيب الصياد يومين او ثلاثة في عرض البحر ويتعرض لمصاعب ومشكلات كثيرة منها المادية، فالرزق ليس دوماً متوافراً وهو يلجأ احياناً الى المخدرات لانقطاعه عن الناس أولاً وهرباً من المشكلات التي يواجهها ثانياً، لكنه يفاقمها بالإدمان وانعكاس ذلك على صحته وحياته وعائلته". وفيما يفتقد الشبان والشابات في اللاذقية للأنشطة الثقافية لعدم وجود مراكز ثقافية وغياب المسارح وندرة دور السينما يلجأ الشبان للترويح عن انفسهم الى ثلاث شوارع شهيرة هي "الأميركان" و"شارع بغداد" و"المشروع" للتسكع و"تلطيش" الفتيات. كما يقصدون المطاعم والمقاهي و"السناكات" التي تتجمع فيها الفتيات. لكن كون المجتمع في اللاذقية ضيقاً ومحصوراً جداً حيث تعرف جميع العائلات بعضها بعضاً. جعل الشبان يخشون من ان تتناقل ألسن الناس قصصهم وبخاصة العاطفية منها. إذ ان اي خبر يصبح حديث الجميع. لذا من الصعب ان يتعرف الشاب الى فتاة ويلتقيها بسهولة من دون ان تطاله الألسن. يقول اكثم الخير: "أتحدث مع صديقتي عبر الهاتف فقط وبخاصة الخليوي. ولا أستطيع رؤيتها في اللاذقية لأن الجميع يعرفنا. ولكنني اواعدها احياناً في دمشق أو في بيروت عندما نذهب الى هناك". وتكاد النشاطات الترفيهية لبعض الشبان تقتصر على تشجيع فريقي "حطين" و"تشرين" لكرة القدم. ويتنافسون في ما بينهم، وقد يبلغ بهم الأمر حد الاقتتال اثناء المباريات وبعدها على رغم كونهم اصدقاء. وترى شوارع اللاذقية شبه فارغة في وقت المباراة. وتكتظ بالسيارات والشباب بعد الخروج منها.