لم تكن المفاجأة في استقالة هنري كيسنجر من رئاسة "الهيئة المستقلة" للتحقيق في عملية 11 أيلول سبتمبر، بقدر ما كانت المفاجأة في إنشاء هذه "الهيئة"، بعد تردد طال أكثر من سنة بحجة ان ما قد يتسرب من معلومات حساسة في مجرى التحقيق يعرقل الجهود في مكافحة الإرهاب. ولعل أحد أهم أسباب حسم الرئيس الأميركي هذا التردد، اختياره كيسنجر لرئاسة هذه "الهيئة" التي يُفترض ان تبدّد الشكوك حول عملية 11 أيلول التي ساد الانطباع، ولا يزال، بأنها مؤامرة. لكن اختيار كيسنجر زاد في الشكوك، على رغم ان الرئيس الأميركي أشاد بنزاهته، متجاهلاً ان هذه الصفة مدعاة للنقاش، حتى لا نقول للسخرية، ولا يخفف من ذلك ان يذكّر جورج بوش بأن كيسنجر حائز جائزة "نوبل للسلام" 1973، متجاهلاً، أو الأصح جاهلاً، أن شريكه في الجائزة، الفيتنامي لي داك تو، كان رفضها بسبب شراكة كيسنجر. كما ان الرئيس الأميركي يجهل بالتأكيد ان الشخص الذي اختاره له أعوانه لرئاسة "هيئة التحقيق" في تفجيرات نيويورك وواشنطن، ملاحق من منظمات دولية لحقوق الانسان بتهمة ارتكاب "جرائم ضد الانسانية" اكثر فظاعة من "الجريمة" المكلّف التحقيق فيها. لعل "المؤهلات" التي رشّحت هنري كيسنجر لرئاسة هيئة التحقيق جعلته ايضاً يتقدم باستقالته، عندما طالبته لجنة الاخلاقيات في "الكونغرس" بالإفصاح عن علاقاته المالية، على رغم ان البيت الأبيض اعتبر ان لا ضرورة لذلك، وكان كيسنجر محقاً في الخطاب الذي وجهه الى الرئيس بوش مبرراً استقالته بتخوّفه "من إقحام مكتبه في هذه القضية". ومن الواضح ان الرئيس بوش، بعد تورطه في القبول بانشاء "هيئة التحقيق"، لم يعد بوسعه الا ان يستمر، حتى لو اضطر الى اختيار شخص أقل كفاية من كيسنجر في طمأنة أهالي ضحايا 11 أيلول، ومناصريهم الكثر الذين يحتاج الى اصواتهم لتجديد ولايته بأن العدل أخذ مجراه، وان الحديث عن مؤامرة حديث أشرار. عدا ان استمرار التشكيك يهدد صدقية "الحرب على الإرهاب"، التي نشهد اليوم التحضير للحلقة الثانية من مسلسلها الذي قد لا ينتهي الا مع نهاية الهيمنة الأحادية للامبراطورية الأميركية. وكان التشكيك في الرواية الرسمية لأحداث أيلول قد طاول الرئيس نفسه عندما اتّهمه نواب في "الحزب الديموقراطي" في أميركا، بأنه كان مطّلعاً على ما سمي لاحقاً "الثغرات الأمنية" المثيرة للشكوك، ما يعني اتهامه بالتواطؤ، الامر الذي جعل مستشارته للأمن القومي، كونداليسا رايس، تنفي التهمة، وهي محقّة في نفيها، ليس لأن الرئيس كان سيرفض المشاركة في "المؤامرة"، اذا صحّ ان ثمة مؤامرة ولها "المردود الإيجابي" الكبير على ادارته، بل لأن المتآمرين أنفسهم ما كانوا ليشركونه فيها خشية ان يُفسدها ب"زلاّت لسانه". فهل كانت عملية 11 أيلول مؤامرة حقاً؟ مؤامرة 11 أيلول؟ بعد سنة على التحقيقات القضائية في عملية 11 أيلول، وبعدما انكشف من وقائع حتى الآن، ولمتابعتي الدقيقة لتداعيات هذا الحدث الذي غيّر مجرى السياسة العالمية لمصلحة الحلف الأميركي - الاسرائىلي، سأحاول ان أضع القارئ في الصورة الأكثر ايجازاً والأكثر وضوحاً لهذا الحدث: منذ اليوم التالي للعملية وصفها رئيس تحرير مجلة "انتلجنس ريفيو" بأنها "مؤامرة"، معتبراً ان عملية بهذه الضخامة وهذه الدقة يستحيل نجاحها، من دون مساعدة داخلية، الا في المسلسل التلفزيوني الأميركي الشهير "مهمة مستحيلة". ثم توالت الوقائع التي تسرّبت من التحقيقات القضائية لتعزز هذا الانطباع. ففي مطلع العام 2000، أي قبل نحو سنتين من العملية، تلقّت الأجهزة الأمنية الأميركية تقريراً من الفيليبين، إثر اعتقال أحد اعضاء تنظيم "القاعدة" البارزين، يكشف عن خطة يعدها التنظيم لضرب أماكن بارزة في الولاياتالمتحدة الأميركية بواسطة... الطائرات. ومذذاك، وبالتنسيق مع مختلف الاجهزة الأمنية والاستخباراتية للدول الحليفة لأميركا بما في ذلك بعض الدول العربية كانت التقارير تشير الى استمرار التحضير لهذه العملية، خصوصاً بعد ان أعلن أسامة بن لادن، زعيم التنظيم، أنه سينقل معركته الى قلب أميركا. وسنكتشف لاحقاً، عبر التحقيقات ان "الانتحاريين" التسعة عشرة كانوا تحت المراقبة قبل وبعد دخولهم الى اميركا، فقد صرحت رئيسة اللجنة الاستخبارية في "الكونغرس"، التي تشرف على التحقيقات، ان ثلاثة من الانتحاريين المحذار ونواف الحازمي وشقيقه كانوا موضع مراقبة "وكالة الاستخبارات الاميركية" منذ حضورهم اجتماعاً لتنظيم "القاعدة" في ماليزيا، في آذار العام 2000، اي قبل انتقالهم الى كاليفورنيا بزمن طويل. وفي التحقيق المصور الذي اعده التلفزيون البريطاني، وبثته مختلف الفضائيات، سمعنا احد رجال الامن في دولة الامارات العربية، يقول إن ثلاثة من "الانتحاريين"، وكانوا مطلوبين من السلطات الامنية الاميركية للاشتباه بعلاقتهم بتنظيم "القاعدة" ابلغت عنهم مديريته بأنهم في طريقهم الى نيويورك، عبر مطار دبي، وذلك قبل اشهر من العملية، فلم يُعتقلوا او يُستجوبوا، وهذا يعني انهم وُضعوا تحت الرقابة المشددة. واما الواقعة الاكثر لفتاً فهي التي تتعلق ب"الانتحاري" هاني حنجور، الذي افاد عنه احد عملاء "مكتب التحقيقات الفيديرالي" بأنه كان موضوعاً تحت المراقبة، تبين لاحقاً انه هو الذي ادخل مشارط وسكاكين الى الطائرة التي ستصدم "البنتاغون"، كما اظهرت التحقيقات، فلم يفتش في المطار، وعندما سئل رجل الامن، المكلف بجهاز كشف المعادن، عن السبب في عدم تفتيش الحنجور في التحقيق المصور الذي بثته قناة "الجزيرة" عن عملية 11 ايلول لمناسبة ذكراها السنوية الاولى رد رجل الامن الاميركي ضاحكاً: "لقد صادف مرور فتاة جميلة فانشغلت بها عنه". ويعلق رمزي بن الشيبة المتهم بتنسيق العملية، وقد اعتقل اخيراً يعلق، في التحقيق نفسه، على كلام رجل الامن في المطار، فيقول: "أرأيت كم إن العدو غبي!". ويتوالى "غباء العدو"، ولا يسمح المجال هنا لذكر كل وقائع "الغباء"، لذلك اكتفي بواقعتين لافتتين، الاولى تتعلق بمذكرة ارسلها احد ضباط الأمن في فرع "مكتب التحقيقات الفيديرالي" في اريزونا، تحذر من شبان عرب، يُشتبه بعلاقتهم بتنظيم "القاعدة"، يتدربون على الطيران، وذلك قبل شهرين من العملية الارهابية، فأُهملت المذكرة، على رغم ان كل التقارير الامنية في شأن العملية المتوقعة كانت تشير الى احتمال استخدام الطائرات في العملية الارهابية المتوقعة، وستكشف التحقيقات، بعد العملية، ان الشبان المذكورين في المذكرة كانوا من انتحاريي العملية. وفي تبريره لهذا "الاهمال"، امام لجنة التحقيق، يقول احد المسؤولين في المكتب الفيديرالي: "لقد قدرنا بأنهم انما يتدربون للعمل في الطيران التجاري داخل افغانستان". ويبلغ "الغباء" الاستخباراتي ذروته في الواقعة الثانية، عندما تتهم مستشارة "مكتب التحقيقات الفيديرالي"، في فرع مينابوليس ولاية مينيسوتا تتهم مسؤولي المكتب الرئيسي بعرقلة التحقيق في نشاط تنظيم "القاعدة"، وذلك إثر اعتقال زكريا الموسوي مصادفة لمخالفته قانون الهجرة، قبل شهرين من عملية 11 ايلول. وفي اطار التنسيق الامني الدولي يتلقى المكتب الفرعي معلومات من فرنسا الموسوي فرنسي الجنسية، من اصل مغربي تفيد بالاشتباه بعلاقته بتنظيم "القاعدة"، فيطلب المكتب الفرعي من المكتب الرئىسي التحقيق مع الموسوي في هذا الشأن، فيأتي الجواب سلباً. ثم تكشف التحقيقات اللاحقة ان الموسوي كان الانتحاري رقم عشرين. وحتى الآن ترفض القاضية المكلفة بمحاكمته السماح للمحكمة بسماع الاشرطة الصوتية التي تدينه، بحجة اتاحة الوقت للدفاع عن نفسه. كان في الإمكان ان تُعزى هذه "الثغرات الامنية" الى الاهمال او التقصير في احوال طبيعية وليس في مناخ حرب معلنة بين اميركا وتنظيم "القاعدة"، كما صرّح رامسفيلد، وزير الدفاع، منذ نيسان ابريل فهل يعقل ان تكون الادارة المدنية مستنفرة من دون الاجهزة المعنية بالموضوع، والتي تتوقع عملية "ارهابية" باتت حديث الاوساط السياسية، ففي محاضرة ألقاها، في نادي القوات الجوية الاميركية، نائب مدير "مركز راند كوربوريشين"، بروس هوفمان، يقول: "تأكدوا بأنه سيكون من السهل على تنظيم "القاعدة" اسقاط البرج الشمالي على البرج الجنوبي في "مركز التجارة العالمي"، وقتل ستين ألف شخص... بواسطة الطائرات". كان ذلك قبل ستة اشهر من عملية 11 ايلول. وفي اليوم التالي للعملية طرح الجنرال ويسلي كلارك الى شبكة "سي ان ان" بأن الهجمة على "البنتاغون" كانت "متوقعة". وسيصعب اكثر احتمال "الاهمال" كتبرير عندما نقرأ شهادة الضابط المتقاعد ستان غوف، مدرّس العلوم السياسية في قاعدة "ويست بونت" العسكرية، في مقال بعنوان "الدليل المزعوم"، حيث نكتشف ان اي طائرة تنحرف عن خطها يُفترض ان تلاحقها الطائرات الاعتراضية المقاتلة، للتحري عن اسباب الانحراف بحسب القوانين الداخلية فور التبلغ بذلك، ومن دون الاضطرار لأخذ اذن رئاسي. لكن هذا لم يحدث في 11 ايلول إلا بعد ساعة وعشرين دقيقة. ويتساءل غوف عما منع سلاح الطيران من ذلك؟ أو "من الذي منع ذلك"؟ قد يعترض البعض، مستغرباً ان تعمل الاجهزة الاستخباراتية ضد دولتها. لكن اذا راجعنا حساب الأرباح والخسائر سنجد ان الأرباح هي الأثقل بما لا يقاس، الا اذا حسبنا الأرواح البريئة، ومتى كان للأرواح البريئة حساب في دفاتر الاجهزة؟ عدا ان الضحايا، في غالبيتهم، من غير الاميركيين، ومن مختلف الجنسيات، مما يسهم في تحريض الرأي العام العالمي ضد "الارهابيين"، في حين ان ارواح السياسيين والعسكريين لم تُصب بأذى، فالطائرة المتوجهة الى "الكونغرس" أُسقطت، وأما الطائرة التي استهدفت "البنتاغون" فقد صدمت بوابة الجهة شبه الخالية التي كانت في حالة ترميم، وبعيدة من مقر القيادة العسكرية. ولا تبرير لهذا "الخطأ" إلا في حالتين: ان يكون الطيار "الارهابي" غشيماً في القيادة، وهذه الصفة تصح في هؤلاء الشبان الذين تعلموا الطيران في مدرسة للهواة لولا ان شهادات خبراء الطيران، وفي الأخص شهادة ستان غوف، تقول عكس ذلك، فقد انحدرت الطائرة التي صدمت "البنتاغون" انحداراً حلزونياً بارعاً ومحسوباً بدقة وانخفضت عن سبعة آلاف قدم في دقيقتين ونصف لتصبح في محاذاة مبنى "البنتاغون" على مستوى البوابة الأرضية في تلك الجهة شبه الخالية من المبنى، الأمر الذي لا يستطيعه سوى طيار متفوق. وأما الحالة الثانية التي تبرِّر "الخطأ"، ان يكون الطيار جاهلاً بالخريطة الداخلية لمبنى "البنتاغون" الواسع، لكن هذا التبرير ينقضه ما نُسب الى "الارهابيين" من قدرات استخبارية فائقة، ومنها انهم استطاعوا، في ذلك اليوم المشهود، اختراق شيفرة الاتصال بالطائرة الرئاسية، وتهديد الرئيس بإسقاط طائرته. وكان في الامكان اعتبار هذا الخبر الذي نشرته كبريات الصحف الاميركية مدسوساً، لولا ان نائب الرئيس، ديك تشيني، أكده في حديثه الى شبكة "ان بي سي"، في السادس عشر من أيلول، فإذا كان الخبر صادقاً ينتفي العذر بجهل الارهابيين لتركيبة البنتاغون، وإذا كان كاذباً، فهذا يعني ان تهديد الرئيس جاء من داخل الوكالة الاستخبارية التي اذاعت الخبر، ربما لضمان رد الفعل الرئاسي المطلوب، مما يؤكد تهمة المؤامرة، بخاصة اذا عطفنا على ذلك اخبار "الجمرة الخبيثة" لاحقاً. ولو راجعنا تصريحات وأحاديث ومقالات بعض الذين سيصبحون من اركان الادارة الاميركية الراهنة، وبينهم ريتشارد بيرل، الذي كان اتهم بالتجسس لحساب اسرائيل في عهد الرئيس كارتر، سنجد ان الرد على عملية 11 ايلول كان جاهزاً قبل العملية بزمن طويل، وبالتفصيل، بدءاً بأفغانستان، وصولاً الى فلسطينولبنان، مروراً بكل "الدول المارقة" وبخاصة العراق. وهذا لا يعني ان ثمة تنسيقاً كان بين الاجهزة الأمنية والاستخبارية وبين الانتحاريين، او ان اسامة بن لادن كان عميلاً للأميركيين والصهاينة، كما يتهمه الفرنسي تيري ميسان في كتابه عن عملية 11 ايلول، مستنداً الى بعض ما جاء من اخبار في وسائل الاعلام، ومنها ما نشرته صحيفة "الفيغارو" عن دخول اسامة بن لادن الى "المستشفى الاميركي" في دبي، العام 1998، حين كان مطلوباً من الاميركيين، وان مندوب "وكالة الاستخبارات الاميركية" شوهد زائراً في المستشفى، بحسب رواية مراسل الصحيفة، فقد يكون المريض أحد أخوة اسامة فالتبس الأمر على المراسل، لكن حتى لو كان الخبر صحيحاً، وكانت "وكالة الاستخبارات" تخطط لمؤامرة، بطلها بن لادن، فأي مصلحة لها في اعتقاله قبل تنفيذ "المؤامرة"، وقطف ثمارها؟ كان يكفي استغلال تهديدات بن لادن لأميركا، وتجنيد بعض افراد تنظيمه لحسابها، وكانت قادرة على ذلك بعد تغلغلها السابق في هذا التنظيم ليس فقط للاستخبار عن نيات وتحركات وخطط زعيم التنظيم، بل أيضاً في حال كان هذا البعض ممن يحظى بثقة الزعيم للمشاركة في وضع الخطط. وسيذكر اسامة بن لادن، في الوصية المنسوبة اليه نشرتها احدى المجلات العربية أخيراً والمكتوبة بعد شهرين من عملية 11 ايلول، انه "تعرّض للغدر والخيانة". ومع انه لم يشرح تفاصيل ذلك، الا ان اعترافه هذا يكشف عن هشاشة في هذه التركيبة الفضفاضة للتنظيم، ما يجعل اختراقه سهلاً، للتآمر عليه من الداخل. وهذا الاسلوب اشتهر به العقل الصهيوني، وعمّمه على حلفائه. وسبق ان استأنس الرئيس العراقي، قبل اجتياح الكويت، برأي الصديقة غلاسبي، السفيرة الأميركية، فانزلق الى الفخ المنصوب له، وللعرب والمسلمين. ولعلّني لم أخطئ في تعليقي آنذاك على حرب الخليج عندما كتبت: "إن بعض الغباء السياسي يعادل بعض العمالة". استكمال المشروع الصهيوني وإذا كانت الكواليس الأميركية ضالعة في "مؤامرة 11 ايلول"، فهذا يعني ان الكواليس الصهيونية ضالعة أيضاً، بعد ان تكثّف التنسيق بينهما في السنوات الأخيرة. وإذا كانت اميركا احتاجت الى عملية 11 ايلول لاستكمال هيمنتها على العالم، بحجة شرعية: مكافحة الارهاب، فإن حاجة اسرائيل كانت الأشد لاستكمال مشروعها الذي كان توقف، بحسب تعبير آرييل شارون، عند العام 1948. الحق ان المشروع الصهيوني لم يكن متوقفاً، كان يتقدم بخطى حثيثة، بل انه كان، حتى منتصف الثمانينات، يقفز قفزاً، ففي العام 1979 استسلمت مصر، وفي العام 1982 استطاع الجيش الاسرائيلي، عبر اجتياح لبنان، تشتيت المقاومة الفلسطينية في الخارج، وفي العام 1985، بعد ايصال ميخائيل غورباتشوف الى رأس السلطة، تحول الاتحاد السوفياتي، الحليف الدولي الأكبر للقضية الفلسطينية، الى صديق لاسرائيل. لكن مذذّاك أخذ المشروع الصهيوني في اسرائيل يتعثر مع دخول عنصر جديد على خط الصراع العربي الاسرائيلي، هو العنصر الاسلامي، الذي برز في جنوبلبنان، ثم في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة حيث للمرة الأولى، منذ العام 1948، تنفجر انتفاضة في الداخل، بتخطيط من "أبو جهاد"، ذي الجذور الاسلامية، مستعيناً بالتيار الاسلامي الذي سيتصدر المقاومة بعد اغتياله، مدعوماً من القطبين الاسلاميين المتنافسين: المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية. وقد أثبت هذا العنصر الجديد فاعلية كانت بدأت تفقدها فصائل المقاومة الوطنية. وعلى رغم توعّد اسحق رابين بسحق المقاومة اللبنانية، و"كسر عظام أطفال الانتفاضة" في فلسطين، كان مناخ المقاومة يقوى باستمرار، متغذياً من جهادية اسلامية متنامية. وعبثاً حاولت اسرائيل جرّ اميركا الى حربها ضد الاسلاميين، في زمن الحرب الباردة، بل ان اميركا، بعد انتصارها، جرّت اسرائيل الى مفاوضات مدريد، رافعة الغطاء عن تمردها على قرارات الشرعية الدولية، لتفرض السلام الأميركي، وليس السلام الاسرائيلي، ما دفع اسرائيل الى "مناورة اوسلو" لقطع الطريق على المبادرة الاميركية في ما سمي "السلام العادل والشامل"، بانتظار اعادة السياسة الاميركية في الشرق الأوسط الى رشدها الاسرائيلي، كما هي العادة بعد كل تمرد أميركي. ولم يكن الانتظار وقتاً ضائعاً، فمقابل الوعد بدولة فلسطينية، استطاعت اسرائيل بعد لجم الانتفاضة تدمير كوادر المقاومة بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، وتمزيق وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل، والتغلغل الأمني في نسيجه الاجتماعي، الذي نرى نتائجه اليوم في اصطياد كوادر المقاومة، عدا نشر المستوطنات على كل مفاصل "الدويلة الفلسطينية الموعودة"، الأمر الذي لم يكن سهلاً في زمن الانتفاضة الأولى التي فاجأت اسرائيل واستمرت لسنوات. لكن اسرائيل كانت تعرف بأن الزعيم الفلسطيني سيعجز عن ضبط الأمن عندما يكتشف شعبه في مفاوضات الحل النهائي، خدعة "الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف"، التي وعده بها، فتتجدد الانتفاضة، وسيقودها من جديد التيار الاسلامي، الذي تعرف اسرائيل استحالة القضاء عليه في الداخل دون قطع جذوره في الخارج، التي تغذيه مادياً ومعنوياً، الا بالاستعانة بالذراع الاميركية الطويلة. تحريك الذراع الأميركية ان من سيؤرّخ في المستقبل للحرب الأميركية على الارهاب، وتحديداً ما يسمى "الارهاب الاسلامي"، سيكتب بأنها بدأت، بالتزامن مع "اتفاق أوسلو"، في عقل الأميركي اليهودي، المستشار السابق للأمن القومي، والصهيوني المتستّر، صموئيل هانتنغتون، عندما "تنبأ" بالصراع الغربي الاسلامي حين كان التحالف بين اميركا والاسلام لا يزال قائماً، وكان بن لادن لا يزال في نظر الاميركيين "بطل الحريات"، وكانت الدول الاسلامية اذا استثنينا ايرانوالعراق اللذين ضربت اميركا أحدهما بالآخر ثم حاصرت الاثنين معاً لا تزال تدور في فلك السياسة الاميركية، وكذلك الجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق. وقبل سنتين فقط، سُئل الرئيس جورج بوش، اثناء حملته الانتخابية عمّن هو العدو لأميركا؟ فأجاب بأنه "يعلم يوجود عدو"، لكنه "لا يعلم من هو". فقدمته له الصهيونية على طبق من نفط: الاسلام، آخر عقبة في وجه استكمال المشروع الصهيوني. كان هانتنغتون في زمن الحرب الفيتنامية قدّم مذكرة الى وزارة الدفاع الاميركية ينصح بضرب البنية التحتية الفيتنامية، التي تغذي المقاومة، فأُحرقت قرى بأكملها، بناسها وبيوتها وزرعها وضرعها، كما يفعل شارون اليوم في الأراضي الفلسطينية. لكن لأن البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية تتجاوز الأرض الفلسطينية الى العالمين العربي والاسلامي، أعلن هانتنغتون منذ البداية: "ان المشكلة ليست في الحركات الاصولية، بل في الاسلام نفسه كحضارة مختلفة...".، محرّضاً هكذا، بأسلوب غير مباشر، على "حرب صليبية" جديدة، باسم الدفاع عن الديموقراطية والحضارة الغربية، كشرط للانتصار في الصراع الغربي الاسلامي، الذي "تنبّأ" به. ولأن التنظير لا يكتسب صدقية، في الاطار الديموقراطي، الا اذا كان مقروناً بأدلة حسية عن حقيقة "الخطر الأخضر" الذي يشير اليه التنظير، كان المتطوّع الأول هو الشيخ عمر عبدالرحمن، الداعية الاسلامي الذي هرب من مصر، لاتهامه بالتحريض على الارهاب، لاجئاً الى الحكومة "الاسلامية" في السودان، فانفتحت له الأبواب الاميركية للتبشير بالدين الحنيف على أرضها. ولا يعلم الا الله، ووكالة الاستخبارات الاميركية، لماذا قرر هذا الشيخ الضرير مكافأة الضيافة الاميركية بتفجير "مركز التجارة العالمي" إياه. كان ذلك العام 1993، فاتهم الشيخ وأدين، مع بعض المريدين، وشُهّر بالاسلام والمسلمين. لكن الانفجار كان هزيلاً، فلم يقتل سوى ستة اشخاص، ما لا يكفي لحسم الحرب على "الارهاب الأخضر" فكان يجب استدراج من هو أقدر على ذلك. * كاتب لبناني.