يجمع المراقبون الذين يتابعون ازمة العراق، في واشنطن ولندن وباريس، على أمر واحد، وهو ان الاسابيع الثلاثة او الاربعة المقبلة ستكون حاسمة. وكما قال لي أحد هؤلاء "فإننا ندخل المنطقة الخطرة. فموضوع الحرب او السلام في الشرق الاوسط سيبتّ خلال ثلاثين يوماً". ومن الواضح ان الزعماء الغربيين يواجهون ضغطاً كبيراً اذ عليهم ان يفصلوا في المناقشات الحادة، مع الحرب او ضدها، داخل حكوماتهم بالذات، وعليهم ان يلاحظوا تطور اتجاهات الرأي العام داخل بلادهم ويتخذوا بعد ذلك خيارات فردية قد تؤثر لا على المنطقة فحسب بل على العالم اجمع. هناك ثلاثة احداث مهمة تقع في اواخر هذا الشهر من شأنها ان تؤشر الى القرارات الصعبة التي لا بد من اتخاذها قريباً. الاول: يوم 27 الجاري موعد تقديم هانز بليكس رئيس هيئة التفتيش الدولية تقريره المفصل الى مجلس الامن عما وجده فريق التفتيش أو لم يجده في العراق. الثاني: يوم 28 الجاري موعد الخطاب الذي سيلقيه الرئيس بوش عن وضع الاتحاد State of the Union والذي سيُدرس بدقة للوقوف على نيات الرئيس. الثالث: ايضاً يوم 28 الجاري موعد الانتخابات الاسرائيلية التي تؤثر نتائجها في علاقات اسرائيل بالفلسطينيين وبجيرانها العرب للسنوات المقبلة والتي ستحسم أيضاً مستقبل ارييل شارون زعيم اسرائيل اليميني الشرس. هناك ترابط بين هذه الاحداث الثلاثة على الاقل في اذهان "انصار الحرب" أي تلك الكتلة من الرجال في واشنطن وتل ابيب الذين يضغطون باتجاه الحرب. فهؤلاء الصقور يعلمون بأن مستقبلهم الشخصي والسياسي يزدهر اذا حققوا طموحاتهم الجيوسياسية، وعليه فإن الازمة لا بد ان تحل وفق منظورهم… وقد اقترب موعد الفصل في الامر في هذا الاتجاه او ذاك. فاذا لم يتخذ قرار القتال خلال الثلاثين يوماً المقبلة فقد يفقد الموضوع زخمه وتفوت فرصة الذهاب الى الحرب او قد تؤجل حتى اواخر السنة في افضل تقدير، حيث يمكن ان تستبعد بسبب بدء معركة الانتخابات الرئاسية الاميركية. واذا فاز شارون واليمين في الانتخابات الاسرائيلية وتم تشكيل حكومة قاصرة على اليمين وحده، فإن ذلك سيشد من عزيمة أصدقائهم في واشنطن وسيقرعون طبول الحرب بمزيد من الحماسة. أما اذا كان هامش نجاح "ليكود" ضيقاً فسيكون شارون تحت رحمة حزب شاس الديني المتطرف او حزب يوسف لبيد المناهض بقوة للاحزاب الدينية. بل قد يضطر للاعتماد على دعم الفئات اليمينية المتطرفة كحزب "اسرائيل بيتنا" الذي يتزعمه أفيغدور ليبرمان او الحزب القومي الديني الذي يقوده أفرايم ايتام او حزب ناتان شارانسكي "اسرائيل بعليا". وأي حكومة اسرائيلية كهذه، قائمة على اسس غير مستقرة، لن تكون ذات فائدة بالنسبة الى صقور واشنطن. وأما اذا حدثت المعجزة وفاز زعيم حزب العمل عمرام متسناع في الانتخابات وشكل حكومة ائتلافية من الوسط واليسار ودخل وفقاً لوعوده في مفاوضات غير مشروطة مع الفلسطينيين فسيخذل الصقور ويتحول الاهتمام الدولي من العراق الى النزاع العربي الاسرائيلي. ومن حق الصقور ان يقلقوا كثيراً لأن تيار الرأي العام العالمي يجري ضدهم، خصوصاً في اوروبا. ففي اسبانيا 66 في المئة من الذين استطلعت آراؤهم عبّروا عن معارضتهم للحرب، و76 في المئة في فرنسا، وما يقرب من 90 في المئة في تركيا. وفي اميركا هبطت نسبة المؤيدين للرئيس بوش الى اقل من 60 في المئة للمرة الاولى، الأمر الذي يعكس شكوك الاميركي العادي. وحتى في بريطانيا، الحليف الاول لأميركا، 13 في المئة فقط يؤيدون الحرب من دون ضوء أخضر من الاممالمتحدة، الامر الذي جعل رئيس الحكومة توني بلير في موقف حرج. فهو من ناحية يريد ان يحافظ على علاقة بريطانيا الخاصة بأميركا ولكنه من ناحية ثانية لا بد ان يعترف بأن الرأي العام في بلاده يعارض بغالبية ساحقة السياسات الاميركية، وفي هذا الصدد تقول صحيفة "ذي غارديان" أن بلير سيواجه معارضة اكثر من نصف اعضاء حكومته اذا ما حاول جرّ بريطانيا الى الحرب التي تقودها اميركا من دون تأييد من جانب الاممالمتحدة. كشف قناع "حزب الحرب" ولعل أكثر ما يقلق جماعة "حزب الحرب" هو النقد الصريح الحاد الذي بدأ يوجه اليهم في الصحافة الاميركية. ففي يوم 12 من الشهر الجاري نشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالاً لمراسلها غلين كيسلر كشف كيف قام فريق صغير من المحافظين، واكثرهم من اشد مؤيدي اسرائيل، بدفع موضوع العراق الى رأس جدول الاعمال وذلك بربطهم اياه بالحرب على الارهاب. ويقول الكاتب ان هذه العملية المريبة نجحت في تجاوز الاقنية التقليدية لصنع السياسة، بمعنى آخر هناك مؤامرة لتجاوز دوائر مناقشة القرارات السياسية ورسمها ضمن الادارة. وأشار الكاتب بإصبع الاتهام الى بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع الذي كان من أقوى المدافعين في احاديثه الخاصة والعلنية، عن ضرورة معالجة موضوع العراق وبن لادن في آن واحد. كما اشار الى ريتشارد بيرل رئيس مجلس الدفاع الاستشاري والصقر المعروف الذي نادى بعد حوادث 11 ايلول سبتمبر بقليل بضرورة طرد صدام حسين. لا شك ان كشف هذه المناورات التي يقوم بها دعاة الحرب من شأنه ان يؤلب الرأي العام ضد هذه الحرب وضد دعاتها. على رغم ذلك قام "حزب الحرب" غير مبال بهذه التطورات بممارسة ضغط شديد على هانز بليكس كي يكشف عن وجود اسلحة دمار شامل في العراق. وفي سعيها المحموم الى اكتشاف أدلة تدين العراق بدأت اجهزة الاستخبارات تغذي فريق التفتيش بما لديها من معلومات. وقد ألحت عليه بأن يجري مقابلات حادة مع العلماء العراقيين خارج العراق في القواعد الخاضعة للسيادة البريطانية في قبرص. وفوق هذا كله يستمر البحث المسعور عن منشقين عراقيين لعلهم يكشفون مشاريع التسلح العراقي غير التقليدي. وفي تعبير لشخصية ديبلوماسية في واشنطن "فإن هؤلاء "المجانين الجدد" - كما صار المحافظون الجدد يوصفون قد حشروا الرئيس في الزاوية"، اذ وضعوه في موقف يحتم عليه ان يختار ما بين شن حرب ذات محاذير كبيرة يتحدى فيها الرأي العام العالمي وبين ترك صدام وشأنه وتحمل تبعة ذلك من مهانته السياسية. هل يمكن العرب ان يؤثروا في القرار؟ وقف القادة العرب والاتراك والايرانيون ضد الحرب وحذّروا من نتائجها على استقرار المنطقة. لكن لا يبدو ان الرئيس بوش يصغي الى هذه المواقف. ففي رأي واشنطن ان الزعماء العرب على رغم احتجاج الرأي العام في بلادهم سيقفون وراء اميركا بمجرد قلب نظام صدام وان غضبة الشارع العربي يمكن احتواؤها. لكن ما يقلق اميركا اكثر هو شعور معارضة الحرب لدى حكومة تركيا الجديدة، اذ رأت ان واضعي الخطط العسكرية الاميركية يأملون في فتح جبهة شمالية يتم منها اجتياح العراق من الاراضي التركية. اما الفلسطينيون فقد اخفقوا في انتهاز الفرصة للتأثير في الانتخابات الاسرائيلية مع انها مسألة حياة او موت بالنسبة اليهم. فمن المتفق عليه بأن الهجمات الانتحارية تأتي في مصلحة شارون اذ تدفع بالاسرائيليين نحو اليمين. وبالتالي فإن المصلحة الفلسطينية العليا تقتضي وقف العمليات الانتحارية في الفترة التي تسبق الانتخابات وطمأنة الناخب الاسرائيلي الى ان كل هذه العمليات ستتوقف حين تبدأ المفاوضات السياسية التي نادى بها زعيم حزب العمل متسناع. والتقى ممثلو "فتح" و"حماس" و"الجهاد الاسلامي" في القاهرة حيث انضم اليهم رئيس المخابرات المصرية اللواء عمر سليمان ليضغط عليهم كي يتوصلوا الى اتفاق قبل الانتخابات الاسرائيلية. واذا كانت الجماعات الراديكالية تعترف بأن لا سبيل الى حماية الشعب الفلسطيني من دون قيام الدولة إلا أنها بدلاً من ان تخاطب الشعب الاسرائيلي وتحاول اقناعه بأن مصلحتها هي بالدخول في المفاوضات فإنها تمضي الوقت في النقاش حول من سيتولى القيادة الموقتة للجبهة الموحدة التي يحاولون انشاءها. ومن المستغرب ان السلطة الوطنية الفلسطينية لم تصدر بياناً واضحاً يتضمن شروطها للسلام قبل الانتخابات الاسرائيلية بما في ذلك توضيح موقفها من المسألة الشائكة المتعلقة بحق العودة. اما الدول العربية فقد فوتت الفرصة لتذكير الشعب الاسرائيلي كما كان ينبغي ان تفعل بشكل واضح وفعّال بأن مشروع الامير عبدالله ولي العهد السعودي الذي يعرض على اسرائيل السلام والعلاقات الطبيعية مقابل الانسحاب الى حدود 1967 لا يزال على الطاولة. وقد أيّده العالم العربي في مؤتمر القمة في آذار مارس 2002، لكن يبدو ان معظم الاسرائيليين يعتقد بأن هذا المشروع قد وضع على الرف او انه لم يعد ذا صلة. وللأسف فإن معظم العالم العربي يتصرف سواء عن سلبية او قدرية وكأن الانتخابات الاسرائيلية والقرارات الحاسمة حول الحرب والسلام في المنطقة لا تعنيه. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.