يمكن اعتبار 7 كانون الثاني يناير 1938 يوم اختراع الوجودية. ربما عند الساعة الثامنة والنصف مساء، أو في أبعد تقدير عند منتصف الليل. على أية حال كان الوقت متأخراً، وكان الظلام يبسط سجادته السوداء على باريس، عندما اقترب أحد سماسرة الليل من الكاتب البوهيمي الإيرلندي صاموئيل بيكيت وهو في طريقه إلى البيت ليسأله عن الساعة ثم ليطعنه طعنات عدة ويذهب. سقط بيكيت على الأرض وظل راقداً هناك ينزف ساعات طويلة، وعندما نُقل في النهاية إلى المستشفى، كان فاقداً الوعي. لكن لحسن حظه، كانت الطعنة على بعد مليمترات قليلة من القلب والرئة، وثقبت فقط الغشاء البلوري، ما سبب له نزفاً داخلياً. بعد أسبوعين غادر بيكيت المستشفى. هناك عرضت عليه الشرطة ملفاً يحوي صور المجرمين، ليجد بينها صورة صاحب الطعنات، الذي أُلقي القبض عليه وقُدم إلى المحكمة. أثناء المحاكمة سأل بيكيت الرجل، عن سبب طعنه له؟ فأجاب الرجل ببساطة: "لا أعرف"، أو لأن سماسرة الليل يتحدثون الفرنسية في ذلك الوقت، قال: je ne sais pas, Monsieur. وكما يبدو أن تلك الجملة انحفرت في مخ بيكيت، لم تغادر ذاكرته، وجعلته ينشغل معها وقتاً طويلاً، ولتشكل في النهاية القاعدة التي سيدور عليها الحوار بين فلاديمير وأستراغون، إن كانت هناك أصلاً قاعدة يعتمدان عليها في الحديث. فكما يبدو أن هذين "الجاهلين"، لا يعرفان أن "غودو" الذي ينتظرانه مات منذ زمن طويل. المسكينان لم يخبرهما أحد بذلك، وإلا لما أصرا على الوقوف هناك عند الطريق الزراعي، يتعذبان بأحذيتهما الضيقة، ويتحاوران بالجمل القصيرة التي لا تحمل معنى، بالذكريات، والعزاء الوحيد هو الأمل بقدوم غودو الذي يعتقدان أنه سيأتي في وقت ما، ولا يعرفان أن غودو لديه ما يفعله، مشغول بأمور أخرى" أو هو مجرد شبح، شخص غامض، وفي أحسن الأحوال ليس غير فكرة لاهوتية قديمة: راعي غنم بلحية بيضاء، أو، وهذا على الأرجح، ربما لا يوجد أبداً. غودو لن يأتي أبداً، والجوالان فلاديمير وأستراغون لا يعرفان ذلك. ولكن، هل كان بيكيت يعرف ذلك؟ هل كان هو الآخر ينتظر غودو الذي لا يأتي؟ في بداية سنوات الخمسينات كان بيكيت يعيش أزمة على مستوى الكتابة وكأنه يلعب على مسرحه المرعب الخاص به، حيث البطل بيكيت الذي بدأ يشيخ، يجد نفسه في غابة مظلمة، بعيداً من الطريق الصحيح: لا أحد يريد طباعة رواياته، الأمر الذي لم يشجعه على كتابة أعمال جديدة. لقد سئم الكتابة، وراح يشغل نفسه بدل ذلك، بمراجعة أعماله القديمة، تصليحها، اختصارها، ترجمة بعض النصوص، "أن تكون فناناً، يعني أن تعتاد على الفشل، أن تتأهب أكثر من أي شخص آخر للفشل"، سيكتب لاحقاً. وفي فترة السأم والفشل تلك، قرر بيكيت الكفّ عن الكتابة باللغة الإنكليزية وأن يكون كاتباً فرنسياً. ما الذي سيخسره، فليس هناك من ينتظر عملاً له، وأقله قطعة مسرحية مكتوبة بالفرنسية، خالية من الحركة، تراوح في المكان ذاته. ليس هناك حدث، إنما تحوي بدل ذلك كلمات كثيرة، وتحول الحبة قبة، لكنها وربما تلك علامتها الفارقة: تجسد حاجة الإنسان الى الخلاص. في الحقيقة لم يهتم بيكيت بنشر المسرحية، إنما هي صديقته سوزانة ديموسنيل، التي أصرت على نشرها. سنوات طويلة احتاجت لكي تبيع القطعة المسرحية. لم تترك المرأة التي كانت تؤمن بموهبة بيكيت، دار نشر لم ترسلها إليها، إضافة إلى محاولاتها بإقناع الوكلاء الأدبيين ومديري المسرح بتبنيها" لا أحد يريد معرفة شيء عن القطعة. وعندما قرر أحد المخرجين المسرحيين، روجر بلين، إخراج القطعة أخيراً، كان المشروع لا يزال مغامرة لا تُعرف بالحسبان، خصوصاً أن المصادفات كانت تسير ضد عرض المسرحية. فالمسرح الذي كان من المفروض عرض المسرحية عليه أُغلق، أما الممثلون فلم يشأ أحدهم التورط بتمثيل هذه القطعة، حتى أن بلين كتب ذات مرة: "لا أعرف ممثلاً واحداً مستعداً للعمل تحت هذا الجو المحبط". لكن ولمفاجأة الجميع، عندما بدأ عرض الافتتاح في مسرح بابل Thژatre de Babylon، في باريس، لمسرحية "في انتظار غودو" ليلة 17 كانون الثاني قبل 50 عاماً، تحولت القطعة مباشرة إلى نجاح عالمي، وراحت تُعرض على معظم خشبات المسارح العالمية فقط في ألمانيا بين سنة 1953 و1954 عُرضت المسرحية على 21 خشبة مسرح، وربما فقط مسرحية "هاملت" لشكسبير تجاوزتها في عدد العروض. لماذا نجحت "في انتظار غودو" في هذا الشكل الساحق؟ هل حملت القطعة مغزى لاهوتياً؟ ربما يبدو ذلك تفسيراً مناسباً، وخصوصاً أن الزمن الذي نشأت فيه كان يدور حول مسألة الإيمان، فحتى ذلك الوقت لم يمر وقت طويل على نهاية الحرب العالمية الثانية، التي رمت البشر في ممالك اليأس" كانت سنوات البحث عن اليقين، والإيمان. فها هو ماكس برود يعمِّد فرانتز كافكا ويعتبره مسيحياً فاضلاً، وها هو كامو يرفع الصخرة "الصليب" مع سيزيف، وها هو سارتر يجد أن الآخرين هم الجحيم. كانت سنوات القضايا الكبرى، حيث يتعلق الأمر بكل شيء. فلاديمير: الدعوة التي سمعناها للتو موجهة الى كل الإنسانية... نريد ولو مرة واحدة أن نمثل العشيرة بفخر، التي رمانا فيها سوء الطالع. "الإنسان المرمي هناك"، تلك الجملة الهايدغرية أو السارترية، تلك الجملة التي ربما تبدو اليوم بالنسبة إلينا قديمة، كانت في ذلك الوقت صرخة كبيرة. فها هما شخصيتان تتحركان على المسرح، مسرح العالم، شخصيتان وجوديتان، تريدان تحمل مسؤولية خلاص الإنسانية، مهما بدا الأمر عبثياً. فلاديمير: ماذا علينا أن نفعل إذاً؟ أستراغون: لا شيء. وهذا هو الأمر الأكثر أماناً. فلاديمير: لننتظر، ما سيقوله لنا. أستراغون: من؟ فلاديمير: غودو. أستراغون: آخ، نعم. عدد من مخرجي المسرح العالميين حاولوا تخليص بيكيت من تهمة أن "في انتظار غودو" هي قطعة تيولوجية" ولكن عبثاً، لأن المسرحية تحتوي بالضبط على هذا المضمون، والكثير من الحوارات تسير في هذا الاتجاه، عندما تتحدث عن السماء والجحيم وعن الحياة على الأرض، بلهجة منبرية رهيبة فيها الكثير من الوصايا والصفح، أما الانتحار فيصبح فعلاً غير مجدياً، سخيفاً. لكن، وذلك ما يميز "في انتظار غودو" عن قطع "دينية" غيرها، أن رثاء عبث الوجود يُسرد من جانب شخصين جوالين "فيلسوفي شوارع موقرين"، هما التجسيد الكامل للكوميديا. انهما مضحكان، لهما قدرة كل أولئك المتشائمين الكبار على الإضحاك، أمثال: باستر كيتون، ستان لاوريل، جاك تاتي، كارل فالنتين، توماس بيرنارد، صاموئيل بيكيت. فلاديمير: كان يجب عليك أن تصبح شاعراً. أستراغون: كنت كذلك. يشير إلى ملابسه الممزقة. ألا يرى المرء ذلك؟ كل شيء كوميدي في المسرحية، والكوميديا تكمن أصلاً في الأمل. وإلا فكيف يمكن تفسير تحول الشجرة "العارية من الأوراق" بين ليلة وضحاها، لتزهر في ليلة واحدة؟ في الأمس فقط أراد أستراغون وفلاديمير الانتحار هنا شنقاً، على أغصان الشجرة، ولدهشتهما يريان الشجرة اليوم تحمل "بعض الأوراق". اليوم يتحدثان عن الأمل، حول الأوراق، ولأنهما قضيا وقتاً طويلاً على الطريق الزراعي، على جانب الشجرة، فإنهما يفهمان لغة الأوراق. فلاديمير: ماذا تقول؟ أستراغون: انها تتحدث عن حياتها. فلاديمير: لا يكفيها أنها عاشت. أستراغون: عليها أن تتحدث عن ذلك. فلاديمير: لا يكفيها أن تكون ميتة. انهما يتحدثان عن اللاشيء، انهما يتحدثان، لئلا يكونا ميتين. بين ليلة وضحاها أيضاً يظهر أستراغون مضروباً من جانب مجهولين. عشرة رجال أشبعوه ضرباً، من دون سبب، ولا أحد يريد أن يبوح له بالسبب. أستراغون: سألت أحدهم، لماذا الضرب، فأجاب: "لا أعرف": Je ne sais pas, Monsieur. لكن المشهد بلا زمن. الشارع الزراعي يمكن أن يكون في كل مكان. بعض النقاد الأدبيين يعتبر شخصية "غودو" من ابتكار بلزاك أصلاً. ففي المسرحية الكوميدية "ميركاديت" التي كتبها بلزاك في العام 1848، والتي تدور حول شخصية محاسب مالي غشاش، يقع شيئاً فشيئاً في الورطة، ويصبح في مأزق بائس من الصعب عليه الخروج منه، إلا على يد شخص غائب Godeau. ولكن بلزاك يعمل معروفاً للمشاهدين وينهي المسرحية نهاية سعيدة، بمشهد يتطابق تماماً مع الحاجة الإنسانية الى النهاية السعيدة، إذ يظهر هذا الغودو، الشخص الريفي الجوال، على الخشبة وينقذ "ميركاديت". "في انتظار غودو"، تنتهي في شكل جيد، وإن لم يخلُ من العبث. استراغون لم يسمع المونولوج المتشائم الذي يلقيه "بوزو" الأعمى الذي يتحدث فيه في ختام المسرحية عن شؤم ولادة الإنسان، لأنه كان نائماً في حينه. وعندما يستيقظ يقول لفلاديمير الذي يوقظه: "احلم بأنني سعيد". إذاً بيكيت الذي يصر على الشؤم حتى النهاية، يستسلم لنهاية "بلزاك" السعيدة. فلاديمير وأستراغون لم ينتحرا، الشجرة كانت قصيرة أيضاً، الحبل ينقطع. فلاديمير: إذاً؟ نذهب. استراغون: لنذهب! فلادمير وأستراغون إن لم يموتا، فإنهما يقفان حتى اليوم عند الطريق الزراعي العام، وينتظران. يتحدثان عن الذهاب ولكنهما يظلان على وقفتهما. يُقال، عندما مات بيكيت في دار العجزة، كانت ما زالت تدور أسطوانة لمغني الرولينغ ستون، ميغي جيغير، والتي تحمل أغنية واحدة له فقط: "Aftermath"، وكما لو كان الشاب ميغي جيغير في الستين أو السبعين من عمره، كان صوته يردد: "أنتظر أحداً يأتي من مكان ما..."... حتى نهاية حياته، ظل بيكيت ينتظر... ولا يصدق أن أحداً لا يعرف متى يأتي، أو لماذا كل هذا العناء؟ وكأنه لا يريد أن يقتنع بتلك الجملة التي قالها له سمسار الليل: je ne sais pas, Monsieur.