خاب أمل صاموئيل بيكيت حين استقبل الجمهور بحماسة عرض مسرحيته في انتظار غودو للمرة الأولى على مسرح بابيلون في باريس. ناقش الأمر مع المخرج كي يجري بعض التغييرات، وكان ثمة أمر خفي منع عنه فرحة الخيبة، فمغزى العمل يقوم على خلق الإحساس باللاتواصل والنفور فكيف له أن يحدث هذا التأثير المعاكس. كان ذلك مطلع الخمسينات وما كان يكتبه بيكيت حول "الإخلاص للفشل" يعانده هذه المرة ويصيب من مسرحيته مقتلاً. ولكن هل حقاً أرضاه فشل روايته الأولى "مورفي" عام 1947 التي لم ينتبه اليها أحد؟ أو لم يزعجه رفض دار النشر روايته "مولوي"؟ أما مسرحيته ايلوتيريا فمرت من دون تعليق ناقد. ترى هل كان ذلك مدعاة لحبوره؟ كل ما يقوله بيكيت عن الإخلاص للفشل يبدو كما لو أنه ضرب من التمايز الذي عرف به المسرح الطليعي الفرنسي، التمتع بخيبة أمل الجمهور! أوجين يونسكو في "المغنية الصلعاء" 1950 يواجه جمهوراً يغادر القاعة ساخطاً من العرض، وكان ارتور أداموف قد يئس من أن يجد مسرحا يقبل عرض أعماله الأولى. ومع هذا فالزمن الفرنسي كان كريماً مع كتاب من أصول غير فرنسية: يونسكو الروماني واداموف الأرمني القفقاسي، جورج شحادة اللبناني، وصاموئيل بيكيت الإيرلندي. كلهم عدا بيكت كانت الفرنسية ملاذهم، في حين التجأ اليها بيكيت لكي يستطيع أن يفقر اللغة. حسبه منها أنها لغة أجنبية، يبقى معها يمشي على السطح ولا يغوص الى الأعماق كما يقول. وبعد مرور كل هذا الوقت، ويا للمفارقة، أضحت نصوص مثل "في انتظار غودو" من كلاسيكيات المسرح كما يصفها النقاد، ولا يمضي موسم مسرحي في بريطانيا إلا وتقدم ضمن برامجه. كانت هذه المسرحية في مقدمة عروض المهرجان الذي نظمه مسرح "غيت" في دبلن مع مركز الباربيكن الثقافي في لندن. المثير للانتباه في هذا المهرجان تأكيد منظميه على تأمل ابداع بيكيت وليس فقط تكريمه والإشادة به. فلم يكتف المحتفون بعروض أعماله المهمة بل أعقبوها بمناقشات شارك فيها النقاد وزملاؤه القدامى ومن تبقى من أصدقائه والقريبين منه. قدم المهرجان أيضاً نثره وشعره وأعماله التلفزيونية ولقاءات مسجلة له وعنه، وكانت العروض السينمائية من بين برامج الاحتفاء به وتضمنت فيلمه الوحيد الذي كتبه للسينما وأخرجه الان سكندر وبعض المسرحيات التي أخرجها هو وعدد من المخرجين المهمين في العالم، اضافة الى تدريبات الممثلة بيلي وايتلوس وطريقة تفسيرها الساحرة لنصوصه، وهي صديقته ومؤدية الأدوار الرئيسية لمسرحياته. المصور الفوتوغرافي جون هينس التقى بيكيت في مسرح الرويال كورت العام 1973 فصوره في لقطات فنية، ومنذ ذلك الوقت وهو يتابع عروض مسرحياته بكاميراه ويقدمه في معارض كان معرض الباربيكن خلاصتها. وبدت المناسبة في هذا الشكل أو ذاك وكأن الثقافة الإيرلندية التي تعلن عن مهرجان مقبل لها، تقدم أحد رموزها الذي حاز على جائزة نوبل في العام 1969 في استعادة لأسماء لامعة من الإيرلنديين الذين شكلوا علامات بارزة في الثقافة البريطانية. كتابة القحط أطلق صاموئيل بيكيت على نصوصه وصفاً ينطبق عليها بالضبط، وهو كتابة القحط أو الشحة، فالكاتب في العادة يمنح من ذاته ويفيض في استخدام اللغة ويتفنن في البحث عن بناء متماسك لعمله، فيما يحاول بيكيت أن يضعف مادة بنائه به ويفقر لغته من بلاغتها. مسرح بيكت في العادة فارغ ومقفر، يخلو من الأفكار إلا الهازل منها أو هكذا يريد أن تبدو، وان كانت تنبجس من بعض نصوصه شاعرية مباغتة، في حين تمكث أفكاره خوف الإعلان عن نفسها حتى لا تغلبها الرغبة في التعبير عن الحياة. كيف يواجه الإنسان صحراء الانتهاء أو الموت؟ تلك هي الفكرة التي يقف أمامها النص في حيرة من أمر عدم اكتمالها. فهناك منطقة عازلة دون الخاتمة والقبول بها أو التعود عليها، وسنجد كل شخصيات بيكيت تقف في تلك البقعة المرعبة لتسلط عليها الأضواء على أن يصبح كبار السن الذين ينتظرون موتهم والمتشردون والذين يستشعرون العزلة والنهاية شخصيات مسرحه الأساسية. ليس هناك من يذهب ولا ثمة من يأتي، فالإنسان ينتظر عبثاً تحت شجرة جرداء وفي مفترق طريق. هذه الثيمة تتكرر في كل عمل له، ونصوصه المسرحية في الأصل، تكرر نفسها ومعظمها من فصل واحد، وان كانت من فصلين كما في "الأيام السعيدة" و"في انتظار غودو" فالثاني ينسخ الأول في حواره وحدثه ان صح أن نقول أنه حدث، لأن من بين اعتبارات مادته، خلوها من الحدث ومن الذروة والخاتمة. في معظم نصوص بيكيت، تقابل انساني، تمثله شخصيتان في العادة وتكون الثالثة ان وجدت نافلة: الزوج والزوجة، الصديق وصديقه، العبد وسيده، الإبن والأب، وما بينهما من أفكار هي مجرد همهمات غير مفهومة. ان من المهم أن ندرك أن المتحاورين في مسرح بيكت يشكلان صوتاً واحداً، أو أن حوار أحدهما يمحو حوار الآخر. والتقابل هذا لا يخفف الشعور بالعزلة أو الوحدة التي تعيشها الشخصية. في "الأيام السعيدة" تردد ويني: "لو أستطيع فقط احتمال كوني وحيدة". فالعراء الموحش الذي يلف العالم يجعل من الوحدة قدر الإنسان الذي يحارب ليهرب منه، في وقت يشكل الآخر جحيمه على حد تعبير سارتر. في مسرحية "التوائم" التي أخرجها بيكيت وعرضت سينمائياً خلال المهرجان، هناك صمت كامل وأربع شخصيات ترتدي كل واحدة قفطاناً بلون مختلف، تقطع أضلاع مربع مرسوم على الأرض جيئة وذهاباً، وفي تقابلها أو وصولها الى لحظة التماس تنكفىء في حركة سريعة تدل على الخوف. وهكذا يمضي الوقت متباطئاً لا نرى فيه سوى هذه الحركة ولا نسمع سوى حفيف الثياب. في حين نشاهد في تمثيلية تلفزيونية ظلاماً يظهر فيه فم امرأة فقط يتحدث من دون انقطاع بما يبوح اللاشعور حول الولادة والموت والترقب والانتظار ثم المخاوف والهواجس والفزع. الكاميرا لا تُظهر سوى الشفاه والأسنان، ولكنها تجربة تبعث على الدهشة. أداء الممثلة بيلي وايتلوس خلال العرض اعتمد على حركة الفم المتواصلة السريعة والدقيقة التي استطاعت اختصار حركة الجسد على نحو يبعث على الاعجاب. قدم المهرجان تسعة عروض مسرحية من بينها المسرحيات الطويلة الثلاث "في انتظار غودو" و"الأيام السعيدة" و"نهاية اللعبة" وما تبقى مجموعة مسرحيات قصيرة، كل ثلاث منها في عرض واحد. وتنوع الاخراج بين الجيل القديم والشباب الجدد، فالذي أخرج مسرحية "في انتظار غودو" هو ولتر د.اسموس وقد عمل مع بيكيت وكان مساعده عندما تولى اخراج هذه المسرحية في برلين. ومخرج "نهاية اللعبة" البولوني انطوني ليبرا الذي ترجم كل أعمال بيكيت الى البولونية وأسماه بيكيت - مبعوثي الى أوروبا الشرقية -. اضافة الى مخرجات ومخرجين من الجيل الجديد. كل شخصيات مسرح بيكيت هامشية وتعي أنها تمثل على مسرح الحياة دوراً عابراً يوشك على النهاية. فلاديمير واستراغون في مسرحية "في انتظار غودو" هما أقرب الى مهرّجيين يقول أحدهما: "لعلنا نؤدي دوراً من أدوار المسرح" فيردّ عليه صاحبه: "بل من أدوار السيرك". المسرح عند بيكيت لعبة متداخلة بين الوعي بها أو عدم التماهي معها، وبين تسفيهها أو افراغها من محتواها. لا يرتضي المؤلف لنفسه أن يطرح أفكاراً ولكنه في الوقت ذاته يقدم شخصيات تجسد تلك الأفكار وتشير أسماؤها الى مغزى وجودها العابث: "ويني" تبقى "الرابحة" في "الأيام السعيدة" حتى وهي تغوص في الأكمة تتلمس سعادتها من حركة الأشياء الأخرى بعد أن شلت حركتها. وهناك الكثير من الشخصيات تشير اليها الأرقام أو الحروف أو تحمل أسماء مضحكة أو اشتقاقات موحية للأسماء مثل "الفاتح" و"الصوت" و"الموسيقى" في مسرحيته الإذاعية "كاسكاندو". فالإنسان يبقى يمثل دوراً لا يليق به ويبعث على السخرية والرثاء. يصل الأمر بالكاتب الى حد ان يقول في كتابه "نصوص بلا طائل" 1950: "ان نطلق اسماً، كلا، فلا شيء يمكن تسميته، وان نتكلم، لا، فلا شيء يمكن التعبير عنه، ماذا إذاً، لست أدري، ما كان ينبغي أن أبدأ. وهنا تكمن المأساة في الحقيقة، في أن نكتب: فما أن نبدأ، حتى نعود لا نعرف النهاية".