منذ بداية الفصل الحالي من الأزمة العراقية بدا جلياً ان احد العوامل البارزة في ترجيح مخرج على مخارج اخرى من الأزمة هو ما سماه بعضهم، إبان ازمة نصب الصواريخ القارية السوفياتية إس إس 20 بأوروبا في الثلث الثاني من الثمانينات، "قوة الدوار". فإذا افلح خصم في اصابة خصمه بدوار الخوف، او دوخته، وحمله على ترك المجابهة، خشية نتائجها المدمرة و"المضمونة" الدمار والفظاعة، فاز على خصمه من غير ان يضطر الى الاشتباك الفعلي، وخوض الحرب وحقائقها ووقائعها التي اسهب تقرير الأممالمتحدة في وصفها، وإحصاء خسائرها. هدف الدوار، في ازمة اليوم، هو صدام حسين، الشخص الفرد والقيادة، على نحو ما كان هدفه في ثمانينات القرن الماضي الحكام الغربيين، "مستودع" الردع النووي، على ما قال فرنسوا ميتران، الرئيس الفرنسي الأسبق في نفسه وفي ترؤسه الحكم وامتلاكه القرار العسكري الأعظم "الردع هو أنا". وعلى هذا وضعت السياسة الأميركية نصبها إقناع صدام حسين بأن الحرب عليه، وعلى اعوانه الأقربين وقادة جيشه، واقعة لا محالة، وأنه، هو وقيادته، غرضها المباشر والدقيق. وأنها لن تحيد عن اصابة هذا الغرض. وعوّلت السياسة الأميركية، في هذا السبيل، على محاكاة وقوع الحرب، والإعداد لوقوعها، محاكاة تامة. وهذا يفترض ألا يميز الخصم، ولا المتفرجون إذا كان ثمة متفرجون، بين المحاكاة وبين الحقيقة. فينبغي، على هذا المثال، ان يتبع الفصلُ من إعداد الحرب الفصلَ السابق على صورة محكمة. بطء اميركي ولكن السياسة الأميركية هذه المرة، على خلاف مهاجمتها طالبان و"القاعدة" بأفغانستان غداة 11 ايلول سبتمبر، وعلى خلاف مبادرتها الى إنشاء التحالف الدولي في صيف 1990، بدا عليها التردد. فلم تتهم صدام حسين وقيادته بالتواطؤ مع الإرهاب، والضلوع فيه مع الإرهابيين المعلنين والمعروفين، إلا بعد انقضاء اشهر طويلة على الحادثة الكبيرة. واشتبهت التهمة وازدوجت. فهي، من وجه، تهمة بعلاقة مباشرة ومادية بين "القاعدة" وبين اجهزة الديكتاتور العراقي لقاء براغ المفترض والمزعوم بين محمد عطا وبين ضابط عراقي، أو لجوء بعض انصار بن لادن الى شمال العراق - وظهر ان لا قرينة عليها -. وهي، من وجه آخر، تهمة بانتهاك نزع التسلح غير التقليدي الذي نصت عليه قرارات مجلس الأمن بالإجماع. وبنت السياسة الأميركية على الوجه الأخير من التهمة دعوى عريضة شملت دور صدام حسين وقيادته ونظامه في زعزعة العلاقات الإقليمية، وفي رعاية الشروط السياسية والاجتماعية للإرهاب الأصولي. وفي ضوء هذه الدعوى، وهي دعوى تاريخية تُظهر من الأسباب والعلل على قدر ما تبطن أو أقل مما تبطن، توجهت السياسة الأميركية، وحلفاؤها، الى محاسبة قيادة صدام حسين على تسبيبها السياسي والمعنوي انعقاد بذور الإرهاب وإيناعها ثمرات ناضجة وقاتلة. "صاحب" العراق وسلسلة الأسباب طويلة ومعقدة ومشتركة. فبين قيام نظام "صاحب" العراق على العنف والطغيان والحرب والتمييز وتدمير الأبنية الاجتماعية والسياسية الوطنية، والفساد، والعصبية القومية والدموية وبين الأعمال الإرهابية الموصوفة والعينية، وهذه وحدها للأسف بمتناول المقاضاة والمحاسبة، بين هذه وذاك شقة بعيدة وفرق كبير. وليس من شأن السياسات الدولية، الى اليوم، ولا من عملها، الاضطلاع بردم هذه الهوة. وليس من شأنها ولا من عملها، تقريب النهج السياسي الذي ينتهجه نظام من الأنظمة من شروطه الاجتماعية والثقافية والبنيانية الدستورية والقانونية. وعلى رغم سلسلة الأسباب الطويلة والمعقدة والمشتركة "ليست قيادة صدام حسين الأسوأ ولا الأفظع من نوعها"، على ما يردد ديموقراطيون كثر هذه، أسلمت السياسة الأميركية "قضيتها" ودعواها الى المجتمع الدولي وشعابه. ورضيت تحكيمه في القضية. وعاد مفتشو "انموفيك" والوكالة الدولية للطاقة الذرية الى العراق، بعد تركه قبل نيف وأربعة اعوام ليبحثوا عن "الإبرة المفترضة في كومة القش" الأكيدة، على قول احد رؤسائهم. وليس التزام التحكيم الدولي هو ما يشكل على المراقب. فهو من احكام العلاقات الدولية منذ طي الصفحة الامبريالية التقليدية غداة الحرب الثانية، وكان للولايات المتحدة الأميركية يد طولى في طيها من ويلسون الى آيزنهاور. فالمشكل هو الرابط الذي ارتضته السياسة الأميركية بين محاسبة صدام حسين وقيادته على تبعته التاريخية والإقليمية العريضة عن الإرهاب، وبين مراقبة تسلحه الشامل وغير التقليدي وتدمير سلاحه هذا بواسطة لجنة دولية. فالمقايسة بين الأمرين، أو ربط واحدهما بالآخر ربطاً سببياً، عسيرة. وتقع في سلسلة الأسباب التي مرت، وفي تعقيدها والاشتراك فيها. وأثمر إشكال الربط عدداً من النتائج. اولها ضعف "قوة الدوار" التي ارادت السياسة الأميركية اصابة صدام حسين وقيادته به. فالتزام التحكيم الدولي وإجراءاته لم يبعد توقيت الحرب وحسب، بل اتاح فرص الموازنة البطيئة والمتلكئة بين السياسات والمصالح والمنافع الكثيرة والمتنازعة، على نحو واسع ومتشعب. ويملك صدام حسين وقيادته، في هذه الموازنة، خيوطاً كثيرة، شأنه شأن القوى والدول والهيئات المدعوة الى المفاوضة والمقايضة. وثاني هذه النتائج تمكين القوى والدول والهيئات من دول مجلس الأمن الدائمة العضوية الى الاتحاد الأوروبي فحلف الأطلسي ووكالات الأممالمتحدة هذه من حل سياسة التخويف والدوار في مسار لا ترجيح فيه، أو خط الترجيح فيه ضعيف. فالاستئناف على هذا المسار يكاد لا ينتهي الى نهاية او الى فصل حاسم وأخير. وكذلك التنصل. فمن مفوض السياسة الخارجية والأمن الأوروبي، خافيير دو سولانا، الى وزير الخارجية الفرنسي امام الأممالمتحدة ووزير الخارجية الروسي، لا يمضي يوم من غير تنديد ب"فراغ الصبر" الأميركي، وب"الضغط" على المفتشين الذي تمارسه الولاياتالمتحدة الأميركية. ويعود هذا بسياسة صدام حسين وقيادته الى الحال التي كانت عليها بين 1991 و1998، في اثناء التفتيش البطيء و"المراوغ" التي تقطعه الأزمات المفتعلة. ويعود بصدام حسين وقيادته ونظامه الى حال 1998 الى 2002، ويجعله بمنأى من المحاسبة الوشيكة المزعومة. اما ثالث هذه النتائج فاستعادة الإطار الإقليمي، وهو يتشارك مع قيادة صدام حسين، على وجه التقليل، التبعة عن حضانة الأسباب المنكرة، استعادته تماسكه وقدرته على جبه التهم وصرف المحاسبة عن هدفها وغرضها. ولعل تنصل وزراء اجتماع اسطنبول من "نية" تنحية صدام حسين، او المطالبة بها، قرينة على استعادة القدرة والتماسك هذين. فيسع وزير الخارجية التركي، يشار ياكش، القول، غير مازح ولا ساخر: "ان الوزراء الستة قد يوجهون دعوة الى العراق للقيام بإصلاحات ديموقراطية". ولعل رابع هذه النتائج زيادة حدة التشكيك في قضية العراقيين المبتلين بقيادة صدام حسين، والرازحين تحت نظامه وهم الكثرة، وتعاظم تنازعهم بين منازع ورغبات وبرامج وقوى ليس من اليسير التوفيق بينها. وليس من اليسير على جماعات العراقيين نفسها الجمع والتأليف بينها المنازع والرغبات... في سياسة متماسكة ومقنعة. وفي الأثناء تنشط وتتعاظم القوى المناهضة للحرب، وهذا امر محمود وحسن. فلا ينبغي ان تخاض حرب، مهما بلغت عدالتها، من غير حسبة شديدة على مسوغاتها ومجرياتها ونتائجها. ولكن ما ليس محموداً ولا حسناً على زعمي هو تصور صدام حسين وقيادته ونظامه في صورة ضحية عدوان اجنبي محض، من غير جناية جنتها يداه، ولا تبعة عليه عما فعل، لا جزائياً ولا تاريخياً. وحسبانه، وقيادته، ان التظاهرات، يرفع بعضها صورته في موسكو وبيروت، إنما تخرج تأييداً له، ول"مقاومته" الامبريالية والتسلط والغطرسة الأميركية. وإلى هذا النحو تنحو التظاهرات الحاشدة التي تجوب مدن اوروبا وأميركا، لدهشة بعض المعلقين من انصار المعالجة الشرعية الدولية. وبعد ان كان علي شمخاني، الوزير العسكري الإيراني، انتبه الى ان الولاياتالمتحدة تسعى في الانتصار في حرب من غير ان تخوضها، بواسطة "قوة الدوار" العتيدة، وانتبه غيره من قادة ايران الى ان نظام صدام حسين لن يزول أو "يصلح" من غير ان يهزم هو ويسقط، بَعثت نتائج الالتباس الأميركي كل الدفاعات المحافظة التي حجّرت مجتمعات الشرقين، الأدنى والأوسط، على احوالها وأوضاعها ومشكلاتها "التاريخية". دود التي خنقتها منذ نيف وثلاثة عقود. وأوجبت أن يكون التغيير الشرعي داخلياً، ومن غير "تدخل" خارجي، ولو كان تأثيراً إعلامياً أو ثقافياً أو اقتصادياً، وإلا حُمل على المؤامرة والتغريب. وجعلت الحدود هذه من المستحيل على القوى الداخلية المبادرة الى أي شكل من أشكال التغيير، بعد ان اطلقت يد القيادات الحاكمة في في سحق الأبنية السياسية، وحولت العلاقات السياسية الى ميزان أمني وحزبي. فنكصت بالمجتمعات الى طور سحري، والى انتطار الخلاص من أي طريق أتى. وغدت الحرب، الحرب العارية والفظة، الطريق الوحيد الى ربح "الدعوى" على قيادة صدام حسين ونظامه، وربما على غيرها. * كاتب لبناني.