هذه المرة لم يعلن "الذئب" نفسُه عن مجيئه وتهديده بالسلاح الكيماوي المثنى، وبإحراق "نصف إسرائيل"، بينما عيناه وأنيابه ومخالبه على الكويت وما يلي الكويت - على ما صنع الرئيس صدام حسين في أيار مايو من عام 1990، في تصريحات بقيت في الذاكرة العربية وربما الدولية. فكان ريتشارد بتلر، رئيس لجنة هيئة الأمم لنزع السلاح العراقي غير التقليدي، ومفتش اللجنة الأول، هو من حذّر من مجيء "الذئب"، الكيماوي والجرثومي، ومن سطوه. ولم يختلف كلام الديبلوماسي الأوسترالي في شيء عن كلام الرئيس العراقي العربي، و"المسلم" في ضوء عَلَمه الجديد يومها. بل حذا حذوه واقتفى أثره. فنظر المفتش، قبل أسبوعين، إلى حيث نظر صدام حسين قبل ثمان سنوات، و"قتل" نحو "ثلث إسرائيل"، وهي نسبة سكان تل أبيب من سكان الدولة العبرية، حيث طلب الزعيم العراقي "النصف". فآذن ما أراده ربما مفتش نزع سلاح الدمار الشامل وسيلة إيضاح "تربوية"، ومجسَّماً يقصد به الشرح وضرب المثل، آذن بمعمعة ديبلوماسية، على شفير الحرب والتلويح بها "عالميةً"، على قول بوريس يلتسن في خير أحواله وصوره، وبقعقعة سلاح، لم تعهدهما المنطقة، وهي المدللة على هذا الصعيد، منذ بعض الوقت. والحق أن حسن محاكاة رئيس لجنة التفتيش ونزع السلاح للرئيس العراقي أمر يبعث على الدهشة. فمن أين أتى بتلر، رداً على زعم الحكم العراقي الحصانة لقصور سيد هذا الحكم من التفتيش والمراقبة، بتعيين هدف القصف الكيماوي العراقي، على حين لم يشر صدام حسين، شأن معاونيه كلهم، على ما لاحظ المراقبون، لا إلى الهدف ولا إلى الوسيلة؟ لكن ما يبعث على دهشة أقوى وأكبر، أو ما ينبغي أن يبعث على مثل هذه الدهشة، هو انتظام ردود الفعل الإقليمية والدولية على صدق مقالة بتلر، وعلى افتراض هذا الصدق. فجدد الإسرائيليون، في وقت أول، تنديدهم بپ"طبيعة المنطقة" ومخاطر العيش فيها، على ما قال بنيامين نتانياهو. وأسرعت السياسة الأميركية إلى إغداق الوعود بپ"الضمانات"، على شرط ألا تتدخل الدولة العبرية في ما لا يعنيها، أي في العلاقات العربية والأميركية وهي، أي الدولة العبرية، منها بمنزلة القلب، أو الكبد، إذا تركت المبالغة. وربطت السياسات العربية، من وجوه وطرق مختلفة، انفجار أزمة التسلح العراقي، المزمنة، بحال العملية السلمية اليائسة. وبلغ الربط الفلسطيني مبلغ ضرب وقت القصف العراقي موعداً لتجديد انتفاضة لا تشك "معاريف"، الصحيفة الإسرائيلية، ولا يشك الشيخ أحمد ياسين، شيخ "حماس" ومرشدها، في شكها. فالأمر الوحيد غير الثابت هو موعد انفجار الإنتفاضة. وإذا بصدام حسين، الصامت، يتبرع بالموعد بواسطة ريتشارد بتلر "الثرثار"، الذي يزيد صمت الرئيس العراقي "ثرثرته" صدقاً. والحق أن المحاكاة والإيماء الباتلريين إنما يستمدان تأثيرهما وصدقهما من هيئة العلاقات الإقليمية الشرق أوسطية ومن بنية هذه العلاقات. فعلى رغم سبق تدليل صدام حسين و"نظامه" أم فوضاه؟ على الجهة التي استعمل فيها، وعليها، الغازات السامة والقاتلة - وهي أكراد حلبجة العراقيون في شتاء عام 1988، والمهاجمون الإيرانيون على جبهة الأهوار وجزر مجنون في جنوبالعراق منذ منتصف العقد التاسع، بتواطؤ غربي وسوفياتي مجمِع، إلى نهاية الحرب في صيف 1988 - على رغم هذا ما زالت معظم دول الجامعة العربية، وكل الحركات السياسية والحزبية العربية، تتردد في التنديد بسياسة التسلح العراقية، أي الصدامية. فيذهب الدكتور عصمت عبدالمجيد، الأمين العام لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر السابق، في "البيان" الإماراتية في 3 شباط / فبراير، إلى تشخيص "تحرشٍ بالعراق لم يسبق له مثيل". ولا يشك الأمين العام في كون التحرش سبباً في ضرب العراق، "ليس تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن" بل "هو هدف في ذاته". وكان السيد عمرو موسى، وزير خارجية مصر، قَسَم المسؤولية عن أزمة تشرين الثاني نوفمبر 1997، وهي ثارت في صدد جنسيات المراقبين في لجان التفتيش وحصة الأميركيين فيها، بين العراق وبين لجنة نزع السلاح، بالتساوي والعدل. فلا يكاد يقر بمخاطر التسلح العراقي وتهديده إلا الذين اكتووا بناره الحقيقية، وليس المجازية، أو بعضهم وليس كلهم. فينبغي إخراج إيران من المكتوين هؤلاء، وهي المطمئنة إلى قيام "أميركا - إسرائيل"، أو "إسرائيل - أميركا"، بإطفاء التهديد العراقي ومصدره، على غرار ما جرى في صيف 1981. والمقرّون كلهم، على نحو أو آخر، مظنونون وتحوم عليهم الشبهة. فالدولة العبرية أمرها واضح وجلي. وتركيا مصدر تهديد "للأمة العربية كلها وليس لسورية وحدها"، على ما تردد الصحافة المأذونة السورية. والكويت تداري جرحاً لم يندمل، و"تتحامل" على الشقيق وتجعله "ضداً". والأردن "مكبل" و"متورط". والحماسة الاميركية مشبوهة، على ما ألمح الرئيس المصري السيد حسني مبارك وتحفظ. فإذا ضُمَّ إلى هذا كله مأزق الرئيس الاميركي الخاص و"المنزلي" أي الاميركي الداخلي، ولو أخذ في التواري بعض الشيء" وضمّ إقرار كبار موظفي الأمن الاميركيين بجهلهم بما يترتب على ضعف صدام حسين، أو قتله، من نتائج عراقية داخلية، ما خلا تردي أحوال العراقيين" بدت سياسة "صاحب" العراق على قدر كبير من التماسك الإقليمي والعربي، وعلى قدر أقل من التماسك الدولي. ففي وسع "صاحب" العراق، في ضوء الاستقبال العربي وفي ضوء بعض الاستقبال الدولي ولا سيما الروسي لسياسته، أن يمضي على نخره أركان الموقف الدولي منه من غير خسارة. فهو بقصره التهديد على من يهدد، ولو تورية وبالواسطة، يتصدر المطالبة العربية، وبعض الاقليمية، بلجم "العدوان على الأمة العربية"، وبكيل العدالة الدولية بمكيال واحد، على ما رُدِّد كثيراً، ويردد الرئيس اللبناني الياس الهراوي كل يوم. وهو بحمله متطلبات لجنة التفتيش والمراقبة، على رغم صفتها الدولية وتطعيمها بمراقبين مستقلين منذ تشرين الثاني المنصرم، على صفة "أميركية" وعلى تعنتٍ وتجسس "أميركيين"، يبعث الديبلوماسية الروسية، ومعها السياسة الاقتصادية الفرنسية موارد التسلح العربي والإغضاء الصيني، على المصالحة واللين. وإذ تربط القيادة العراقية "كرامة" العراق و"شرفه" بتردي وضع العراقيين وحالهم، أولاً، وباختبار فشل كل العقوبات العسكرية السابقة في ثني صدام حسين عن نهجه، تكسب القيادة هذه تأييد كل الواقعيين والإنسانيين ومنتظري عقود النفط وإعمار البنى التحتية والسلاح بفارغ صبر. فإذا جُمع الى هؤلاء من يصيبهم الدوار من جراء إصرار نتانياهو على القفز في الهاوية، ومن ينظرون الى أكراد كردستان العراق وتركيا ولا يصدقون ما يرون، اجتمع من هؤلاء وأولئك خلق كثير. وكانت القيادة العراقية توسلت بهذا الحشد من الاعتبارات، ومن الناس والدول والسياسات، إلى تعجيل إنفاذ قرار مجلس الأمن 986، قبل نحو السنتين. واقتصرت قيمة النفط غير المحظور على بليوني دولار في نصف السنة الواحدة. واليوم، وغداة تجميد العراق أعمال التفتيش وانفجار الأزمة الاخيرة، يلوح السيد كوفي أنان، أمين عام الأممالمتحدة، بزيادة القيمة نصف السنوية ضعفي القيمة السابقة ونصف ضعفها، لتبلغ المبيعات المباحة خمسة بلايين دولار، أي عشرة بلايين في السنة وهي أقل بنحو الربع من قيمة مبيعات إيران غير المقيدة. فإذا بلغ صدام حسين غايته، وحصل على هذه الزيادة لقاء نجاح وساطة فيكتور بوسوفاليوك، مساعد وزير الخارجية الروسي بريماكوف لشؤون الشرق الاوسط، أي لقاء استقبال بعض القصور الرئاسية العراقية لجان تفتيش مطعمة بمفتشين مستقلين، على ما يقترح الرئيس العراقي، فهو يكون قد برهن برهاناً ساطعاً على نجاعة طريقته و"انتاجيتها"، على قول الأميركيين. ولا تشترط هذه الطريقة إلا شروطاً يسيرة، قد تلخصها البنود الآتية: 1- الربط الوثيق بين العدوان "القُطري" والداخلي السافر، وبين الدور "القومي"، بواسطة تهديد العدو القومي، والعدو الإقليمي، والعدو الدولي. 2- التحصن بپ"صمود" لا يلينه اعتبار الخسائر البشرية والمادية، مهما عظمت. 3- التهديد الدائم والثابت بالخروج عن قواعد الردع المفترضة والمعروفة والمقبولة. 4- الحرص على تحقيق التهمة بالجنون، وباستحالة توقع المسلك التالي، أو الرد على التهديد. وهذا ما أنجزه السيد صدام حسين بكفاءة عالية ومشهودة. ويشهد على حسن الإنجاز تهافت وسطاء الخير على إخراج القيادة العراقية من عثرتها، المتعمدة، وتهافتهم على حل أنفسهم من قيود القرارات الدولية، ورميهم التبعة على السياسة الاميركية. فأفتى بريماكوف: "ليس ثمة ما يحول دون استخدام واشنطن الخيار العسكري منفردة. ولكن إذا لجأت الى مجلس الأمن، فان روسيا ستمارس حق النقض ضد خيار عسكري في حق العراق". وعلى المثال الروسي هذا، وهو تملص صريح من تبعات المقعد الدائم في مجلس الأمن، ينسج الطامحون الى أدوار أولى إقليمية دونكيشوتية أو إقليمية سانشوبونساوية نسبة الى خادم دونكيشوت، سانشو بانسا، أو دولية تجارية وصناعية، أو دولية دعاوية - من غير التزام شرائط الدور. فعلى أي وجه كانت خاتمة "الفتَّة"، في لغة اللاعبين، فالعراقيون وحدهم هم "مصرف" المقامرين و"بنكهم". ومن "البنك" تشتق "بانكو" و"بانكروت"، أي الإفلاس والتداعي.