يشكك القسم الأكبر من متابعي الشأن العراقي في إمكان تجاوب الرئيس صدام حسين بشكل تام وصادق وكامل مع متطلبات القرار 1441 الذي أصدره مجلس الأمن في الثامن من الشهر الجاري، بعد طول خلاف ونقاش بين الولاياتالمتحدة وبريطانيا من جهة وبقية الدول دائمة العضوية في المجلس من جهة أخرى. في المقابل يشكك آخرون في جدية الولاياتالمتحدة حيال مضمون القرار الذي يركز على نزع أسلحة العراق للدمار الشامل. والواضح ان هؤلاء يرون أن واشنطن مصممة على اللجوء الى القوة العسكرية ضد العراق واطاحة نظامه السياسي سواء تعاونت بغداد مع القرار الدولي أو لم تتعاون. لكن ماذا لو أوفى العراق بالتزاماته بموجب القرار 1441؟ ماذا لو كشف ما لديه من أسلحة ومعدات ووثائق متعلقة بأسلحة الدمار الشامل في الموعد المحدد بموجب القرار الدولي الثامن من كانون الأول/ ديسمبر المقبل؟ ثم ماذا لو اقتنع عدد من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، فرنسا مثلاً أو روسيا، بأن الاعلان العراقي يفي بالغرض؟ ثم ماذا لو أشاد المفتشون الدوليون بالموقف العراقي وأكدوا تعاون بغداد وايجابيتها؟ من دون شك، سيحدث موقف كهذا، في حال حصوله، تغييراً، بل وإرباكاً غير قليل في الحسابات السياسية لدى كثير من الدول، خصوصاً في أروقة الادارة الأميركية التي بنت جزءاً رئيسياً من معادلاتها على رفض العراق التزام القرار الجديد. أياً تكن الحال، يصح النظر الى قبول عراقي محتمل بعين من الواقعية. فالضغوط كبيرة على بغداد من الدول العربية ومن دول يصنفها العراق ضمن دائرة أصدقائه. وهناك أيضاً تحولات الموقفين الروسي والفرنسي والتأييد الذي حصل عليه الرئيس الأميركي في قمة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي في براغ إزاء الأزمة العراقية، اضافة الى تزايد الحشد العسكري الهائل الذي تنشغل الآلة الحربية الأميركية في بنائه في منطقة الخليج وخارجها. كذلك هناك المطالبة التي وجهتها واشنطن الى نحو خمسين دولة أوروبية واقليمية وعربية، اضافة الى استراليا واليابان ودول في الأميركتين الشمالية والجنوبية، بالانضمام الى تحالف عسكري دولي ضد العراق. من دون شك، لا بد لبغداد من أخذ كل هذه المستجدات السياسية والعسكرية في حسبانها على رغم ان تجارب الماضي تؤكد ان الرئيس العراقي غفل دائماً عن تقويم المستجدات بعين عملية ومتأنية وبعيدة عن الاحتقان والتشنج. وإذا افترضنا انه تخلى في جولة الأزمة الراهنة عن طبيعته تلك وقاس الأمور من زواياها الصحيحة، فيمكن الترجيح أن في إمكانه التوجه الى التعاون الجدي مع المفتشين الدوليين، خصوصاً إذا ضمنت الدول العربية وعوداً من واشنطن بعدم المس بنظامه في حال التعاون. لكن المشكلة ان أزمة الولاياتالمتحدة مع العراق لا تقتصر على أسلحة الدمار الشامل. فإذا تعاونت بغداد في ميدان الأسلحة، تظل تهمة دعم الارهاب الدولي ملفاً احتياطياً في يد واشنطن يمكن إثارته ضد بغداد في أي لحظة. وما يساعد الاميركيين في هذا المنحى، أن بغداد توفر ملجأ للعديد من المنظمات التي تصفها واشنطن بالارهاب مثل منظمات فلسطينية وايرانية معارضة، اضافة الى أشخاص تندرج اسماؤهم في قائمة المطلوبين لدى الادارة الاميركية، ومنهم عبدالرحمن ياسين الذي تتهمه واشنطن بالضلوع في محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في عام 1993. وهناك أيضاً اتهامات بالتعاون مع اسامة بن لادن وشبكته، ومعلومات يبثها الأميركيون عن وجود معسكرات لتدريب مقاتلي "القاعدة" في أطراف بغداد. استطراداً، يمكن لواشنطن في حال حاجتها لإثارة التهم ضد العراق، توسيع مفهوم الارهاب ليشمل ممارسات الحكومة العراقية ضد الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب. وفي هذا الاطار يمكن الاشارة الى حرب الأنفال التي أبادت فيها القوات العراقية نحو 180 ألف كردي بين عامي 1987 و1988، وتغييب ثمانية آلاف رجل بارزاني خلال ساعات في عام 1983 وقصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية وتجفيف الأهوار وتدمير أربعة آلاف قرية كردية. هذا بالطبع اضافة الى ملف أسرى حرب الكويت وضياع أجزاء رئيسية من ممتلكات كويتية وطنية نُهبت خلال غزو العراق لدولة الكويت. والواقع ان إثارة هذا الملف ستأتي، إذا ما أتت، في اطار القرار 688 الذي لا يندرج تحت البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة، أي لا يخضع لمبدأ جواز استخدام القوة العسكرية من أجل تطبيقه. لكن مع كل الهيمنة الأميركية على مجلس الأمن، كما ترى بغداد، فإن لجوء واشنطن الى تحريك القرار 688 وتغيير موضع درجه بهدف ضرب العراق، أمر قد لا يدعو الى عمل أكثر مما تطلبه تمرير القرار 1441. والأهم من ذلك كله، هناك الالتزام الأخلاقي الذي قطعه الرئيس الأميركي الحالي وأركان إدارته باطاحة صدام حسين. التخلي عن هذا الالتزام في منتصف الطريق، بطريقة أشبه بطريقة الرئيس السابق جورج بوش الأب في ربيع 1991، قد لا يؤثر على الرئيس بوش نفسه، بل على مصداقية الحزب الجمهوري داخل الولاياتالمتحدة، والمصداقية الأميركية في الخارج. لهذه الأسباب مجتمعة، يمكن افتراض أن واشنطن ستلجأ الى الحرب تعاونت بغداد مع مفتشي الأممالمتحدة أو لم تتعاون. لكن في المقابل، يصح القول ان الانصياع العراقي للقرار الجديد من دون لف ومراوغة وألاعيب، سيبعد الحرب الواقفة على الأبواب، بل يؤجلها الى أمد غير منظور. إذ الأرجح أن يصيب الانصياع العراقي السياسة الاميركية بإرباك لافت ويجبر واشنطن على إعادة مراجعة حساباتها. كما أنه سيفتح طريقاً واسعاً أمام بغداد لإعادة توسيع رقعة التعاطف العربي والاقليمي والدولي مع طروحاتها ومطالباتها. والأهم أنها تجرد الولاياتالمتحدة من أهم ذريعة من ذرائع اللجوء الى الخيار العسكري: أسلحة الدمار الشامل، ما يصعب عليها الحصول على أي تحالف واسع حول ملفات عراقية أخرى. الى ذلك، يمكن للانصياع بالأفعال لا بالأقوال، ان يمنح القيادة العراقية مزيداً من الوقت لجردة حساب وإعادة ترتيب البيت الداخلي على أسس من الانفتاح والتفاهم المشترك مع التكوينات العراقية المختلفة، اضافة الى منح العالم حجة قوية لإعادة النظر في تقويمه للأزمة العراقية. * كاتب كردي عراقي.