بعد لقاء اسطنبول "التاريخي"، لم يعد مستغرباً أن تشخص انظار العرب الى هانز بليكس وماذا قال في مجلس الأمن أمس، أو الى آرييل شارون ومدى التأييد الذي سيمحضه إياه الاسرائيليون غداً، لمعرفة اي مستقبل ينتظرهم وينتظر دولهم. فتعليق العرب آمالهم على مهلة اضافية لفرق التفتيش لجعل تجنب الحرب ممكناً نظرياً، أو سعيهم الحثيث لدى الادارة الأميركية لكبح هياج شارون فيما لو حصلت الحرب على العراق، هما من الطموحات الواقعية في ظل عجز العالم العربي عن صوغ موقف مؤثر من التطورات الكبيرة الحاصلة في المنطقة. تقرير بليكس غير الحامل للمفاجآت والذي لا ينكر تعاون العراق مع المفتشين ولا يعبر عن رضاه في الوقت نفسه، مثله مثل اجتماع اسطنبول، أقصى ما يمكن التطلع اليه في ظل الحشد العسكري الأميركي وإعلان واشنطن ارادتها السياسية الحازمة في نزع اسلحة نظام صدام بل اطاحته من أصله. بيد ان الاعتقاد بأن مهلة اضافية للتفتيش لثلاثة أسابيع او ستة أو اكثر يمكنها الحؤول دون تحقيق الأهداف الأميركية المرسومة إزاء نظام بغداد أو منع الحرب الموعودة، هو من باب المعجزات بحسب الملك عبدالله الثاني، ذلك ان اندفاع واشنطن نحو الحرب لم يعد يحتاج الى إثبات انتهاكات مادية للقرار 1441 أو ذريعة رفض صدام تسليم علمائه للاستجواب، والدليل الى ذلك، معاودة كولن باول في دافوس، الحديث عن علاقة صدام بجماعة بن لادن، وهو نوع اتهامات لا يمكن تنزيه النظام العراقي عن مثله، لكنه غير ثابت ولا يتمتع بصدقية حتى الآن. طالما ان المعركة لم تندلع، فالفرصة تبقى قائمة. وتقرير بليكس هو فسحة اضافية للعرب لتجنيب العراق كأس الحرب المرة. لكن لا بد من ادراك ان مهلة التفتيش لن تمدد الى ما لا نهاية، ولعبة القط والفأر بين بغداد والأمم المتحدة صعبة التكرار. اما التوهم بإمكان الاتكال على موقف روسيا و"أوروبا القديمة" من اجل العودة الى سياسة احتواء جديدة، فأمر عفا عليه الزمن وترفض واشنطن مجرد التلميح اليه. لذا فإن الحد الأدنى لأي رغبة في انتهاز الفرصة هو قناعة بأن واشنطن لن تعرّض هيبتها بتراجع عن نزع اسلحة العراق يجعل دولاً أخرى تستمرئ تطوير اسلحة دمار شامل، وبأن مساعدة العراق على الخروج من محنته تبدأ من أولوية الطلب العلني والصريح من حاكمه اعفاء نفسه من مهمة "الدفاع عن شرف الأمة" وتقديم تنحيه عن السلطة هدية الى الشعب العراقي. على رغم جسامة الأحداث التي تحدث في المنطقة، تبدو التطورات، ولو خطيرة، خالية من المفاجآت. فتقرير بليكس متوقع، ورد الفعل الأميركي عليه محسوب ومحسوم، حتى ان المهلة الاضافية التي يؤمل ان تمنع الجنوح نحو الحرب يمكن استخدامها لاتمام استعدادات واشنطن ولندن العسكرية. اما الحاجة الى قرار ثان من مجلس الأمن لبدء الحرب فتبدو مسألة اختيارية، فإذا حصل كان به، وإذا لم يحصل فإن واشنطن تستطيع الاتكال على موافقة اكثرية المجلس بلا تصويت، وعلى تفويض غير صريح لمباشرة الهجوم، اذ ان سابقة حرب كوسوفو لا تزال طرية في الذاكرة. وفي أقصى الاحتمالات تستطيع ادارة بوش الذهاب الى الحرب معتبرة القرار 1441 كافياً لتبريرها. اما في فلسطين فمن المؤكد ان تتم اعادة انتخاب ليكود ويتثبت تفتت حزب العمل وازدياد التطرف في الرأي العام الاسرائيلي. ولن يفاجأ الفلسطينيون لو استمر شارون في سياسته الدموية وتدميره للسلطة الوطنية ومؤسساتها في ظل "خريطة طريق" معلقة من غير وضوح في انتظار اطاحة صدام وطي ملف العراق. المشهد قاتم، غير ان بليكس يمنح الفرصة الأخيرة. لكن الديبلوماسي السويدي المعروف بحرصه على عدم إثارة "الحساسيات العراقية" وبنزعته العميقة نحو السلام، لم ينس انه تعلم درس تهرب العراق من التزاماته السابقة في شأن تطوير اسلحة الدمار، وهو يكرر دائماً ان فرق التفتيش "يمكن ألاّ ترى شيئاً، او لا ترى اي مؤشر لشيء، لكن ذلك لا يعني تلقائياً عدم وجود أي شيء". والجملة الأخيرة جوهر التقرير ومدخل ممكن للحرب إذا لم ينتهز العرب فرصة مبادرة جريئة تشجع صدام على ترك الحكم، بدل التفجع على اطفال العراق والنظام العربي والتحدث عن استهداف للأمة ومؤامرات لا توجد الا في مخيلات الغوغاء والعاجزين.