في هذه الرواية التاسعة لمحمد البساطي "فردوس" دار ميريت، القاهرة، 2003، نجد الشخصية الأساسية امرأة مثلما هو الشأن في روايته السابقة "ليالٍ أخرى"" إلا ان الفضاءات والحبكة والبناء والمستوى الثقافي للشخوص تتباين في ما بين الروايتين، بقدر ما تتباين الحياة بين مدينة صاخبة متراكبة الطبقات كالقاهرة، وقرية صغيرة معدودة السكان والبيوت مثل تلك التي تعيش فيها فردوس. ينطلق النص من "حاضر" يجمع فردوس بزوجها الكهل المتزوج من امرأة أخرى له معها أولاد وتعيش على مرمى حجر من الغرفة التي تعيش فيها فردوس وحيدة بلا خلفة ولا أنيس، خصوصاً أن الزوج الذي احتفى بها خلال الفترة الأولى من زواجهما أخذ يمضي جل أوقاته مع ضرتها مكتفياً بزيارتها من حين لآخر. تقيس فردوس السنوات العشر التي مرت منذ زواجها بالتغير الفيزيقي والسلوكي الطارئ على سعد ابن زوجها البكر الذي أخذ يراودها ويهمُّ بها، بعد أن عرفته طفلاً صغيراً تحتضنه وتلاعبه ويستكين الى صدرها ويتمرغ على سريرها... وهذا المشهد الذي يفتتح الرواية يعبّر عن انتهاك سعد المراهق لمحرّمٍ تدينه الأخلاق المتوارثة، إلا أنه لا يثير اعتراضاً عند الأب المشغول بفلاحة الأرض المؤجرة وبمقتضيات العيش وعبء الزوجتين، بل انه يستقبل شكاة فردوس وكأنها تأكيد لعنفوان ابنه الذي بلغ سن المراهقة والرجولة. ومنذ ذاك، تغدو العلاقة الملتبسة هي ما يربط بين فردوس وسعد نتيجة لغياب الأب ولا مُبالاته. وفي الآن نفسه، فإن هذه العلاقة المتوترة هي ما تُشكل حوافز الحبكة والسرد والحوار والمونولوج، ويصوغ إطار التخييل المفارق لألفة الواقع الماثلة من خلال وصف الأمكنة والشخوص، ومن خلال الحوارات القصيرة أو المنقولة في ثنايا السرد بلغةٍ ملائمة ومقتصدة. وعلى رغم التوازي الذي تستند اليه بنية النص بين حاضر فردوس المتزوجة المشتهاة من سعد، وبين ماضيها الذي تسترجع محطاته الأساسية في لحظات الوحدة والتذكّر، فإن القدرة الصنعية للبساطي صهرت الأزمنة المتباعدة في "فعل مضارع" يُعبر أيضاً عن أفعال في الماضي تتكرر لتغدو كأنها زمن حاضرٍ مستمر: "تسمع ما يقلنه ولا تفهمه، هي التي عاشت داخل بيت لا تخرج منه حتى بلغت الثلاثين، تٌحس انه ينقصها الكثير لتتعلمه. تنقشع الظلمة قليلاً وتبين معالم الأشياء، وتلمح نسوة يخرجن من الأزقة أصواتهن خافتة يحملن الهدوم والمواعين. يتلاقين عند نهاية الوسعاية. يتخذن طريقهن الى مجرى الماء. ترد ضلفه الباب حين يقتربن حتى تكاد تغلقه. لا ترغب أن يرينها ويتهامسن عن صحيانها المبكر..." ص27. على هذا النحو، فإن امتزاج الماضي بالحاضر وامتصاص الثاني للأول هو بمثابة انتصار شكل الكتابة المشهدية على الكتابة السردية الاسترجاعية. من ثم، تشدنا حبكة العلاقة الملتبسة بين فردوس وسعد الى ما ستؤول اليه، بخاصة ان جرأة المراهق توحي بأنه لا يعبأ بالتحريم ولا بحرمة الأب. إلا ان الحبكة لا تقتصر على التشويق وإمتاع القارئ، بل ان الكاتب يُوظفها لتمرير بنية تخييلية محملة بعناصر كاشفة وأخرى مُحوِّلة. ذلك أن فضاء القرية الصغيرة في ريفٍ مصري مهمش وفقير - كما يبدو من خلال الوصف - سرعان ما يتحول الى فضاءٍ تخييليّ تنهض داخله تلك العلاقة الملتبسة، المتوترة، بين فردوس المتزوجة وسعد المراهق المشدود اليها عبر لحظات الدفء في أحضانها وهو طفل، وعبر استيقاظ الرجولة في جسده الفتي، الآن. في البدء، تفاجأ فردوس من سلوك سعد فتشتكيه الى والده، لكنها تفاجأ أكثر بلا مبالاة زوجها، وتجد نفسها مضطرة لأن تتحمل مطاردات سعد الذي يأتي في الليل ليأكل ما تبقى من طعامها وليحكي لها عن عالم القرية الخارجي المجهول لديها لأنها تعيش شبه محبوسة في غرفتها الصغيرة وضمن المجال المحدود المحيط ببيتها. هي تتصرف وفق التربية التي تشربتها منذ الطفولة والتي تجعلها راضية بالتفاني في خدمة الأب والأخت والأم والزوج، من غير أن تعترض أو تتمرد. وبذلك فإنها تتجنب الفضيحة فلا تواجه سعد بالصراخ أو الطرد، وانما تكتفي بأن تُغلق باب غرفتها وتستمع الى ما يحكيه من وراء الباب في قعدته بالحوش الى أن يتعب فينصرف. غير أن حضور سعد المنتظم وجرأته في المغازلة ونقل ما يتداوله أصحابه المراهقون عن تفاصيل جسدها وحركاتها، وعن تشبيهها بالممثلة النجمة تحية كاريوكا التي إذا اشتهت رجلاً فإنها تطلبه بنفسها وتختاره من بين أحسن الرجال، جعل فردوس تنتبه الى جمالها وتأثيرها، والى غرائزها وعواطفها المكبوتة، ومن ثم فإنها تكتشف جوانب من الحياة والاهتمامات والكلام، ظلَّت غائبة عن وعيها المسيج بالتقاليد والطاعة والغاء شهوات الجسد وصبوات القلب. من هذا المنظور يغدو بناء رواية "فردوس" بناءً تخييلياً بامتياز، لأنّه لا يتقصد الى انتاج تمثيلٍ واقعي لذلك الفضاء الريفي الدي يُؤطِّر الحبكة، بل هو يقدم نموذجاً جديداً من العلاقة الاجتماعية الممنوعة، يقود خطواتنا على طريق التفكير في محمول فضاء الرواية لنتعرف إليه بطريقة أفضل من خلال قوة التخييل المنظمة لعالم القرية ولما هو مكتوم، وأيضاً لما هو متحول عبر تفاعل الوعي بالآخر، وبصورة العالم الخارجي. بتعبير آخر، فإن عناصر الصنع الواقعي التي تطفو على سطح الرواية هي مجرد بنيةٍ سطحية تكمن داخلها بنية عميقة قوامها تركيب اللامألوف داخل الواقع المألوف، أي تركيب قصة علاقة سعد بفردوس داخل فضاء القرية الواقعي بما يشتمل عليه من مظاهر يومية ومن قيمٍ موروثة. وهذا التراكب بين المألوف واللامألوف هو الذي يولد مسافة تفسح مجالاً لقول ما لم يقل بعد في ذلك الفضاء، على لسان سعد الذي هو عينُ فردوس وأُذنها اللاقطتين لما يجرى خارج غرفتها المسيجة. كأن سعد، في نهاية التحليل، هو الوسيط بين فردوس وبين مجالٍ يقودها الى وعيٍ مغاير يتنامى تدريجاً في أعماقها. ويُعرب هذا الوعي المغاير عن نفسه من خلال الحلم في موضعين من النص ص 41 و100، أي أن تأثير كلام سعد واشتهائه لها يتسلّل أولاً الى اللاوعي ليعلن عن وجوده عبر الأحلام: "... تغوص قدماها في حفر يملأها الوحل، صوت البقبقة، فقاقيع صغيرة تظهر على السطح وتختفي. هي عارية على الشاطئ. يدها خالية. تتأمل أصابعها. الجلد قاتم مكرمش عند مفصل الأصابع. الضوء أغبش. هو الفجر. سحب ثقيلة تغطي الأفق. حزمة من أشعة الشمس تنفذ مائلة وتغمرها، ومن أين جاءت الشمس؟ وأين قميصها؟ جسدها العاري بلون القمح. ساقاها بلون مغاير تميلان الى السمرة. إبطاها ناعمان ومن أزال عنهما الشعر؟ والعانة أيضاً؟ تلمس المياه قدميها وتنساب لتغطي وركيها. فرحة بجسدها ولمعته. شعرها تجمع مبتلاً على صدرها. نهداها النافران تُزيح ما لصق بهما من شعر، حلمتاها الداكنتان. رأسه وسط النهر يعوم في اتجاه بعيد عنها، وتقول لو التفت ورآها..." ص41. في هذا الحلم، لم يعد سعد طفلاً كانت تداعبه أو مراهقاً تصدُّ رغباته، بل هو الرجل المشتهى الذي تتمنى أن يلتفت الى جهتها ليرى جسدها العاري الفاتن، المتعطش... من التمثيل الى التخييل إن بنية رواية "فردوس" تلفت نظرنا الى عملية "الحفر" التي ينجزها البساطي في رقعة الكتابة الروائية التي كثيراً ما تصنف، ابتساراً، ضمن خانة الواقعية. على العكس، يتمكن هذا النص من اقناعنا بأنه لا يتقصد تمثيلاً واقعياً للقرية ولناسها، وانما هو يختار هذا الفضاء المحدد لينقل اليه مشاهد تخييلية وعلائق غير مألوفة بين شخصيتين وذلك عبر تنظيمٍ سردي وحواري ووصفي يلملم المتنوع والمتداخل، بواسطة حبكة تخييلية ومستويات لغوية وحوارية تقدم للقارئ العناصر والعلامات اللازمة لإعادة تشييد الفضاء والشخوص وتأويل الكلام والسلوكات. إذ ان التخييل هو العنصر المسعف على تشييد عوالم لا يقتصر وجودها على الفضاءات التخييلية، بل لها أيضاً امتدادات ووشائج بالواقع. من هذه الزاوية، تتيح رواية "فردوس" ان نشيد رؤية للعالم تستمد منطلقاتها من داخل النص لتلامس أجواء معضلاتٍ يحبل بها واقع الحياة وتبدلاتها المتواصلة. فعلاً، يبدو فضاء هذه الرواية عيّنة لمجتمع يتجاور مع مجتمعات متعددة تعيش داخل مصر وفق سرعاتٍ متباينة. ونموذج المرأة فردوس قد يذكرنا بنماذج مشابهة في روايات مصرية سابقة استوحت الريف مثل رواية "زينب" حيث تطالعنا أيضاً سطوة التقاليد وسيطرة الأب والزوج، لكن رواية "فردوس" تحمل خصوصية تميزها عما عداها من النصوص سواء على صعيد التشكيل الذي عرضنا بعض مكوناته، أو على مستوى الرؤية التي نتوقف عندها قليلاً. وإذا كان لموضوع الرواية قرابةٌ بحكايةٍ شكلت محور بعض التراجيديات اليونانية المستوحاة من أسطورة "فيدر" التي أحبت هيبوليت ابن زوجها، فإن التيمة التي استثمرها البساطي في هذه الحكاية تتوافر على دلالات وتفاصيل مغايرة" فالأمر لا يتعلق بعلاقة محرمة أو بوقوع الزوجة في غرام الابن أو العكس، وانما تنحو رواية "فردوس" الى الانغراس في فضاء ملموس عبر اشتهاءاتٍ واستيهامات حسوية، وضمن تقاليد وقيمٍ وازنة. لذلك يتلاشى الطابع الأسطوري الملتصق بهذا الموضوع المحرم، مثلما يتلاشى البُعد الفضائحي الجنسي عندما نتبين، في نهاية الرواية، ان التقاليد والمواضعات ما تزال هي الأقوى في تلك القرية المهمشة. لكن نص "فردوس" يُنجز - عبر التخييل - عملية تحويلٍ تشي برؤيةٍ للعالم مميزة. ذلك أن تسليط الضوء على مسار فردوس الى أن بلغت الثلاثين وهي تعيش مع عائلتها، ثم طوال عشر سنوات، من الزواج، داخل فضاءين مختلفين أحدهما مغلق تماماً مع أسرتها. والآخر منفتح عبر وساطة سعد المراهق، جعل حياة فردوس تبدو لنا كقراءة حياة متحولة نتيجة بذرة الوعي المغاير الذي تسرب اليها من خلال علاقتها الملتبسة بسعد. لقد تحولت العلاقة بينهما الى حاجة ماسة الى التواصل: سعد يتكلم من وراء الباب وهي مستلقية داخل الناموسية تستمع الى ما يحكيه عن جمالها وعن نزوات المراهقين وعن أصداء السينما والتلفزيون. وعندما غاب عنها أياماً طويلة تلحفت بالملاية وذهبت الى المقهى لترى إذا كان موجوداً هناك... وعندما تنبهت أم سعد الى هذه العلاقة الملتبسة التي تشده الى ضرتها الشابة، طلبت من والده أن يزوّجه. يمضي، إذاً، سعد في طريق الزواج التقليدي المبكر، وتبقى فردوس في عزلتها لكنها "لا تدري ما جرى لها"؟ وهذا الذي جرى لها هو ما يمكن أن يؤول على أنها بدأت تعي بؤسها وتدرك ان الحياة لا تقتصر على العزبة والغرفة والزوج المشغول عنها بضرتها، ما جرى لها هو أيضاً استيقاظ جسدها المعطل، واستشعارها ضرورة الحنان والتواصل والحب، أي المشاعر التي أخذت تنتسج من خلال علاقتها الملتبسة بسعد. على هذا النحو، ومن خلال تشكيل فني يتجنب القول المباشر، استطاع البساطي أن ينقل الى فضاء الريف المصري المعتاد عناصر ومواقف تخييلية زعزعت سكونية المشهد وفتحت الأبواب مشرعةً أمام أسئلة منبثقة من وعي يقارن وينصت لأصوات العالم الخارجي. إن متعة القراءة لا تمنعنا من رصد علامات التحويل والكشف التي تنطوي عليها رواية "فردوس" وهي علامات تؤكد ان جميع الفضاءات - بما فيها فضاءات التقليد والانغلاق - لا تستطيع أن تظل بمنجاةٍ من التغير والتفاعل مع ما يحمله العالم الخارجي المكتسح للسدود والأسيجة. ولا شك في أن الانتقال من عماء الجهل والوصاية الى فسحة الوعي والتجربة الذاتية هو ما يضفي على الرواية نكهتها التي لا يعوضها أي فردوس تعد به الأخلاق الغيبية الموروثة.