يسعى محمد البساطي في روايته الأخيرة "فرودس" الصادرة عن دار ميريت في القاهرة إلى معاودة التحديق في عالم القرية المصرية التي يعرف تفاصيلها، والتي دأب منذ سنوات عدة على تحليل علاقاتها والكشف عن خصوصية نماذجها، في رهافة إبداعية واقتدار سردي، جعل منه واحداً من أهم الروائيين في جيل الستينات، وعلماً من أعلام الكتابة الروائية على امتداد العالم العربي. وكما اختص نجيب محفوظ بالكتابة عن شريحة اجتماعية بعينها، هي الشريحة البرجوازية الصغيرة، وجعل من تأمل علاقاتها بؤرة لتأمل علاقات المجتمع المصري وصراعاته، فعل البساطي ما يوازي ذلك، متوقفاً بعدسته الروائية على القرية المصرية التي لم يتركها إلا في حالات لم تقض على الملمح الغالب على رواياته، متواصلاً مع إيمانه بأن تعمق الخاص هو السبيل السليم إلى العام، وأن صراعات القرية المصرية يمكن أن تغدو أمثلة دالة على صراعات المجتمع المصري، خصوصاً في علاقات القامع بالمقموع، وعوامل التهميش التي تفضي بالكائنات الإنسانية إلى التشيؤ، وبالعواطف البشرية إلى الكبت الذي لا يجد له مخرجاً. والزمن الروائي الذي يناوشه البساطي هو الزمن المعاصر، حتى لو تخفى وراء أقنعة روائية مستعارة، أو كنائية، فهو زمننا الذي نعيشه، والذي تفضي علاقاته إلى التهميش المتزايد للشخصيات التي تبدو محكوماً عليها بوضعها الاجتماعي، ويدفعها وضعها الهامشي إلى مزيد من التهميش، في ظل علاقات اجتماعية غير متكافئة، وتقاليد موروثة جامدة، بطريركية، تقوم على التمييز بين الرجل والمرأة عموماً، ولا تكف عن توليد كل ما يمكن تخيله من أشكال التمييز ضد المرأة الريفية التي تعاني مضاعفات القمع الاجتماعي ولوازم التمييز الأسري، ولكنها - على رغم ذلك - تنطوي على جاذبية خاصة، وعلى قوة ذاتية تقتات بها كما تقتات شعلة المصباح من وقودها إلى أن تفنيه الظلمة، أو يفنيه فراغ الوقود. و"فردوس" امرأة تنتسب إلى المهمشين في ريف "وجه بحري" مصر، لها جمالها الخاص، وموقعها المتميز في الأسرة" فهي الابنة الكبرى مع أخت أصغر منها وأخ أصغر منهما، إيمانها العميق بواجبها الأسري دفعها إلى أن تكون "وَتَد" الأسرة، فتغدو أمّاً لأختها وأخيها، حانية على الأب، خصوصاً بعد وفاة الأم التي تركته وحيداً، قانطاً مستسلماً للأمراض التي تدافعت إليه. وسرعان ما لحق بزوجه التي تركته في رعاية الابنة الكبرى التي تفرغت له تماماً، خصوصاً بعد أن رحل الأخ ليتزوج ويعمل في بلدة أخرى، وتزوجت الابنة الصغرى ورحلت عن البلدة، تاركين الأب في رعاية فردوس التي انطوت على أعراف الواجب ونهضت بها خير قيام، ولم تتململ منها، ولم تفكر في حقها في الزواج أو الحياة البهيجة. فالواجب العائلي مقدّس، ورعاية الأب الوحيد تعبير عن أمومة متوارثة، والأمومة المتوارثة تتولد عنها مشاعر دافقة قلقة، ظلت مركّزة حول الأب، متجسّدة في رعايته إلى أن توفِّي تاركا اليتم قدراً لا مفر منه، والبيت القديم ميراثاً لا سبيل إلى امتلاكه. فالأخ يعود ليستولي مع زوجه على البيت، وعلى حجرة الأب، وتجبر فردوس على التخلي عن حجرتها، وعن سريرها، لا مكان لها إلا "فرشة" على الأرض، محصورة بين سريري البنتين، وهي لا تملك من أمر نفسها شيئاً، فقد تعمدت بالصبر، وترسخت فيها أحوال الطاعة بفعل التربية الأسرية، والعلاقات الاجتماعية التي تحيط بها، تلك العلاقات التي تمايز بين الرجل والمرأة، والولد والبنت. وتنتظر فردوس الذي يأتي ولا يأتي. فالأيام علمتها أن تنتظر، كما علمتها أن شيئاً ما قد يحدث، شيئاً لا يتوقعه أحد. وفي انتظار الذي يأتي ولا يأتي، كأنه الضوء الغسقي الشاحب الذي يهيمن على المشاهد السردية في الرواية، يأتي العريس بعد أن تخطّت الثلاثين، وبعد أن كادت تنسى معنى الزواج. ولا بأس بأن يكون "العريس" متزوجاً، وله أولاد، وأن يكون زواجها "على الساكت" ولا حتى زغرودة. فقد أغراها أخوها بأنه سيبني لها بيتاً باسمها. وأفرحها ذلك، وبدا لها الزواج خلاصاً من سجن "الفرشة" ومن عذاب الخدمة في بيت أخيها الذي اغتصب حقها في الميراث، وجعلتها زوجه خادمة للأسرة الجديدة. ويعود إليها الشعور بالأمومة المختزنة، وتتيقظ فيها مشاعر الجنس المكبوتة كمشاعر الأمومة، ولم تنتبه إلى أن "عريس الغفلة" كان طامعاً في بعض الأرض الموروثة عن الأب، فالأهم هو الخلاص من السجن الذي أطبق عليها، وتمضي مع الزوج الذي سرعان ما يهجرها عاجزاً عن إشباعها، تاركاً إياها كالأرض التي تتشقق من العطش، وتجدب من طول انتظار الماء. ويعود الزوج إلى الزوجة القديمة والأولاد، مريحاً نفسه من عناء الليالي التي لم يعد قادراً عليها، تاركاً فردوس للوحدة، وللخدمة التي تعود إليها، حتى وهي في بيتها الذي نسيت أنه باسمها، ولوحدتها التي تنقلب إلى توحد بعد أن صَوَّح الأمل الذي سرعان ما انطفأ كالنبتة الصغيرة التي داستها الأقدام. ولا نعرف على وجه اليقين: هل فردوس عقيم كالشجرة التي لا تثمر، أم أنها تجدب كالشجرة التي توضع في غير أرضها، أو النبت الذي لا يجد ما يرويه. المؤكد أنها لا تكف عن الاعتناء بنظافتها، وإعلان تميزها عن بقية القرويات اللائي يحسدنها على ما يفتقدنه: نظافة الجسد، أناقة الملبس، طيب المعشر، فتنة الحضور. لكن السرد الماكر لا يخفي وجه المفارقة في دلالة الحسد، فالمحسودة محرومة من نعمة الإنجاب، أو من نعمة حضور الذكر الذي يهز بجذع النخلة فتسّاقط رطباً جنياً، ومن نعمة الاستقلال، كأنها حضور معلَّق، رغبة محبطة، حلم غير محقق، إمكان لا يتجسّد في واقع. حتى اسمها "فردوس" الذي يدل - لغةً - على البستان والجنة والروضة وخضرة الأعشاب يظل دالاً بلا مدلول، فلا نعيم في حياة هذه المرأة، ولا خضرة تبقى طويلاً، ولا روضة تتوالد كائناتها النباتية، فهي حضور محاصر، كيان متوحد وحيد، لا يتحرر من القيد الذي يحيط به حتى في حركته، كأنها العنزة التي اشترتها، وظلت وحيدة مثلها، لا تتحرك إلا في دائرة ضيقة كالسجن، أو كأنها أوراق نبتة البرسيم الصغيرة المرتعشة، الناعمة، تنتظر الماء الذي يرويها لتقوى، لكن الماء لا يأتي، وحلم الري لا يتبقى على حواف الرغبة. ولكن دلالة اسم "فردوس" لا تخلو من معنى الغواية مع ذلك كله، ففردوس النعيم هو اسم الجنة التي أسكنها الله آدم حتى أَثِمَ. والإثم في حال فردوس هو غواية الرغبة التي تظل محلقة في علاقات السرد، موصولة في الأحلام التي تنتابها، فتبدو الرغبة أحياناً كالغمامة الثقيلة التي تلاحق القمر، فلا يسطع ضوؤه على المساحات الشاسعة من الزرع الأخضر إلا بعد أن يتخلص منها، كما تبدو - في أحيان أخرى - ممتدة إلى ما لا نهاية بين عالم الصحو والنوم، في الفضاء الغسقي الذي يتلامس فيه الشعور واللاشعور، فيتحرر الجسد الساخن من بعض قيوده، ويتحرك في المنطقة المحصورة بين النوم واليقظة، والمحاصرة بنواهي العقاب التي تؤدي إلى الصحو المقموع. هكذا، يبدو الحضور المغوي لابن الزوج الذي يدخل عالم الرجال، نزقاً، عابثاً، مندفعاً كالريح التي تحمل غبار الطلع أو حبوب اللقاح. هذا الابن الذي يدخل طور المراهقة ينوس في مدى الرغبة الإيروسية المشدودة بين نقيضين: حضن الأم وصدر المرأة الغاوية، وذلك في حركة متوترة، مستفزة، تظل تجمع بين النقيضين. ولذلك يحوم الابن حول زوجة الأب التي يلتصق بها كما يلتصق الطفل بأمه في المدى الأوديبي الذي يقترن بالمعنى الرمزي لخصاء الأب، ويسعى الابن إلى زوجة الأب سعي آدم إلى شجرة الغواية ليقطف الثمرة المحرّمة للمعرفة التي تنقله إلى عالم آخر، مستقل، منقطع عن عالمه القديم، حتى في تولده عنه. هذا العالم الجديد هو عالم أوديب النقيض، إذا استخدمنا مصطلحات التحليل النفسي بعد جاك لاكان، عالم الرجل الذي يؤسس لكون جديد. لكن هذا العالم لا يتحقق، فحضور الرغبة وتر مشدود بين نقيضين يتجاذبانه، وهو في تجاذبه لا يصل إلى نقطة إشباع، فيظل مهتزا كالوتر، محوماً على موضوع الرغبة الذي لا يستطيع إليه وصولاً. والنتيجة هي المقاومة المستمرة لفردوس، وتكرار صدها لمحاولات ابن الزوج، المقاومة التي لا تخلو من ضعف، ومن رغبة مضمرة، ومن متنفس الحلم الذي يستبدل بمبدأ الواقع مبدأ الرغبة، وبحضور الأب حضور الابن، ولكنها المقاومة التي لا تتوقف، والتي تتأبى على اقتراف الفعل الذي اقترفته زوج الأب في رواية "في مديح زوجة الأب" للكاتب ماريو باراجاس يوسا Mario Varagas Llosa من بيرو في أميركا اللاتينية. وهي الرواية التي ظهرت لها ترجمتان إلى اللغة العربية عن الأسبانية. إن زوج الأب تستجيب للغواية حتى النهاية في رواية يوسا، ولكنها تقف على الأعتاب، غير مفارقة الأعراف الصارمة للقرية المصرية في رواية البساطي، ذلك لأن "فردوس" على النقيض من "دونا لوكريثيا"، مسجونة في سلاسل القمع الاجتماعي، محاصرة بالأعراف الدينية المتغلغلة في خلايا الوعي واللاوعي، ولذلك تظل أسيرة سجنها، لا تستبدل مبدأ الواقع بمبدأ الرغبة إلا في دائرة الحلم التي سرعان ما يقطعها فعل الصحو الذي يفتح العينين على نواهي المجتمع والأسرة والدين المضمرة والمعلنة في النص، والمتكررة كفعل الاغتسال الذي تتدفق مياهه بقصد الطهارة الرمزية من القذارة ودنس الرغبة. وحتى عندما تخرج "فردوس" وحيدة وسط الحقول، تحت أشعة القمر المغوية، قريبة من الماء، مثل النداهة في الحكايات الشعبية، فإنها تبدو كالرغبة المشرعة، خصوصاً وهي تتحرك في غبش الصباح، مع تفتت السحر الذي يجمع ما بين الضوء والظلمة، تغوص قدماها في حفر يملأها الوحل، وتظل وحيدة كالنداء، عارية كالوتر، بالقرب من شاطئ الترعة، تخطو في المياه إلى وسط النهر، حيث نقطة تحقق الرغبة أو إشباعها، تحت ضوء القمر الذي يضفي ضوؤه الناعم سحر التحول على الأشياء والكائنات، فإنها تظل كالحلم الندي الذي سرعان ما يبدده ضوء الصبح الواضح، والحضور النهاري للكلب المقطوع الأذن الرابض على عتبة الدار، كأنه الحارس الذي ينوب عن الجماعة كي يمنع الدخول إلى دهاليز الرغبة أو تحققها. ومن هذا المنظور، تبدو رواية "فردوس" كأنها معارضة غير مقصودة لرواية "مديح زوجة الأب" معارضة تستبدل بتحرر "دونا لوكريثيا" الحضور المقموع للمرأة المتجسّد في "فردوس"، وبتحرر العلاقات في عالم "زوجة الأب" قيود العلاقات في "العزبة" التي انتقلت إليها "فردوس"، وبالحضور المديني للأب "دون ريجو بيرتو" الحضور القروي للفلاح "موافي" الذي لا تخلو شخصيته من "كهن الفلاحين"، ولا يوافي دائماً كما يدل عليه معنى اسمه. وكذلك تستبدل رواية "فردوس" بالعلاقات الاجتماعية الأرستقراطية العلاقات القروية التي لا تخلو أبعادها الاجتماعية من لوازم الاستغلال من ناحية، ولوازم التمييز الاجتماعي ضد المرأة عموماً، وضد الغريب الوافد على القرية خصوصاً. وأخيراً، تستبدل رواية "فردوس" بشخصية الابن المغوي الذي ينطوي على معنى شيطاني، تآمري، للقضاء على من حلَّت محل الأم، في رواية يوسا، شخصية الابن الفلاح، المندفع كالثور، الممسوس بالرغبة التي يفجرها الإحساس الباكر بالرجولة، وتذكيها أحاديث الجنس الممارس في ليل القرية، بعيداً من أعين الرقباء، ومشاهد السينما الرخيصة، والعلاقات التي لا تخلو حتى من نيات سفاح المحارم. ولكن تشترك رواية البساطي مع رواية يوسا في معنى انطواء غواية ابن الأب لزوج أبيه على معنى الاستغلال. فالابن يغوي زوج أبيه ليوقع بها، وليدفعها إلى الشَّرك الذي يصمها في عيني الأب، ويدفعه إلى طلاقها فوراً. وعنصر الاستغلال نفسه كامن في محاولات الابن في رواية البساطي، فهو يجد زوج أبيه وحيدة، جميلة، نضرة، تشع حركتها برغبتها المقموعة، فيسعى إلى أن يلقي بشباكه حولها، مكرراً لعبة الصيّاد والفريسة، آملاً في إشباع رغبات المراهقة ومستغلاً الدائرة الملتبسة من الغواية للحصول على ما يروقه - أو ما هو محروم منه - من الطعام والدخان والمأوى، وذلك في فعل يوازي الحصول على الغذاء المباح الاقتراب من تحقيق مبدأ الرغبة المشتهى. ولكن استغلال الابن في رواية يوسا يمضي إلى النهاية المرسومة منذ البداية. واستغلال الابن في رواية البساطي لا يتحقق معناه الجنسي، فتوقفه التقاليد القامعة، والحراس الأشداء للتقاليد: إشاعات الأولاد، الوقفة الحاسمة للأم، المصلحة الاقتصادية في تزويجه بمن تؤسس له داراً وتمنحه مكسباً اجتماعياً ملموساً ومعترفاً به من المجموعات القامعة والمقموعة في آن. والنتيجة هي الانغلاق الرمزي للباب الذي يفصل بين الرغبة وتحققها على امتداد الرواية، والذي يظل قائماً كالجدار في المشهد الأخير الذي ينتهي بالقمع النهائي للرغبة عند الابن وزوجة الأب على السواء. وليس من المهم - في هذا السياق - أن يكون محمد البساطي قرأ رواية يوسا أو لم يقرأها، فالتيمة المتكررة بين الروايتين، وهي تيمة الغواية التي تجمع ما بين الابن وزوجة الأب، متجلية في الروايتين، كما تتجلى في أعمال إبداعية كثيرة من أدب الشرق وأدب الغرب. والعلاقة التي يمكن رصدها وتحليلها بمزيد من الإسهاب ما بين روايتي البساطي ويوسا هي علاقة الموازاة بين عملين يعالجان الموضوع نفسه، حتى لو كان اللاحق منهما - وهو البساطي - لا يعرف شيئاً عن العمل السابق. فالمهم هو الموازاة التي تكشف عن معنى الاتفاق في التيمة، والاختلاف في المغزى والدلالة. وأوجه الاتفاق لم تعد في حاجة إلى توضيح، أما أوجه الاختلاف فهي التي تدني برواية البساطي من وضع المعارضة الساخرة Parody بمعنى من المعاني. وحتى لو لم تحتمل "فردوس" هذا المعنى في تأويل مغاير، فإنها تظل رواية غير بعيدة من بنية المفارقة التي تنطوي عليها كل أشكال المعارضة الساخرة. وهي المفارقة التي تبدأ جزئياتها من إحباط دلالة الأسماء فردوس، موافي على سبيل السخرية، وإحباط كل أفعال الغواية التي هي إحباط لتوقعات القارئ في الوقت نفسه، وذلك في دلالة كاشفة عن تسلط مبدأ الواقع القمعي على مبدأ الرغبة، وعلى تحول أرض "الفردوس" إلى أرض متشققة من العطش، مجدبة من أفعال الإقصاء المانعة للماء، الحاجزة لتدفق الحياة. وبراعة البساطي الروائي، تحديداً في هذه الرواية، هي مخادعة القارئ، وجذبه إلى شباك غواية المتعة التي تندفع به إلى النهاية، متوقعاً ما يشبه الاحتمالات التي بدأ منها، لكنه يفاجأ بغيرها الذي يدفعه إلى إعادة تأمل العلاقة بين البداية والنهاية، وإعادة تأمل التفاصيل المنثورة ببراعة، والمنسوجة باقتدار، وإعادة النظر في اكتشاف تفاصيل ومستويات القمع الباسط جناحيه على كل فردوس في مجتمعات لا معنى فيها، ولا حضور للفردوس، بل للاستغلال القمعي الذي يواجهه الروائي بما يشبه مكر الفلاحين، لكن في دنيا الإبداع الأصيل.