بعد نحو أربعين سنة على صدور الطبعة الأولى من كتاب "مجنون إلسا" للشاعر الفرنسي لويس أراغون 1897-1982 صدرت حديثاً طبعته الشعبية أو طبعة "كتاب الجيب" في سلسلة "شعر" التي تخصّصها دار غاليمار للأعمال الشعرية "المكرّسة". وتأخُر صدورِ هذا الكتاب في هذه السلسلة كل تلك السنوات يطرح أكثر من سؤال على قراء أراغون. فالشاعر الذي مرّت أخيراً ذكرى غيابه العشرون من دون أي احتفال أو "ضجّة" إعلامية، كان قبيل وفاته، شاعر فرنسا الحيّ، شاعر الحبّ والالتزام والمقاومة، مثلما كان حين وفاته، واحداً من آخر الشعراء الكبار الذين لن تشهد فرنسا أمثالاً لهم. في الذكرى العاشرة لغيابه، أشارت الناقدة الفرنسية جوزيان سافينيو الى ان الفرنسيين ما عادوا يقرأون أراغون في تلك الآونة وأن مبيع كتبه عرف بعض التراجع. إلا انّ مثل هذا الكلام، بما يحمل من مغزى، لم يستطع ان ينال من هالة أراغون الذي طالما تعرّض لهجمات شرسة - من بعض السورياليين - بعدما هجرهم - ومن بعض المحافظين والشيوعيين معاً - حين كان شيوعياً على طريقته. اللافت ان صدور الطبعة الشعبية من كتاب "مجنون إلسا" هو بمثابة حدث أياً يكن حجمه. فهذا الديوان ليس مجرّد ديوان على غرار دواوين أراغون الكثيرة والموزّعة على مراحل شعرية ثلاث المرحلة الدادائية والسوريالية، مرحلة الشعر الملتزم أو "الواقعية بلا ضفاف"، مرحلة شعر الحب، بل هو، كما يقول الناقد الفرنسي أوليفييه بارباران "تتويج لأعمال أراغون الشعرية كلّها". فالديوان هذا صدر أولاً في مرحلة أراغون الأخيرة، بعدما صفا صوته من اصداء السوريالية و"الكتابة الآلية" ومن غلواء الالتزام السياسيّ، ثم إنّه حمّله ثانياً خصائص العمل الملحميّ في صفحاته التي تناهز الأربعمئة والخمسين، وفي جوّه القائم على خلفية تاريخية هي سقوط غرناطة، وفي بعده المأسوي الذي يشمل شخصيات عدّة في مصائرها الأليمة: أبو عبدالله آخر ملوك غرناطة، المجنون، الشاعر المتواري خلف قناع قيس بن عامر وسواهم. وانطلاقاً من البنية المركّبة التي قام الديوان عليها، يبدو من الصعب تصنيف "مجنون إلسا"، فهو قصيدة واحدة وعشرات القصائد في آن واحد، النثر فيه يواكب الشعر، والتأريخ يجانب الغناء، وقصائد النثر تتقاطع مع القصائد الحرّة والجمل الشعرية. وحلا لبعض النقاد ان يسمّيه ب"الرواية - القصيدة" نظراً الى ما يحمل في تلافيفه من قصص وحكايات. فالزمن هو زمن سقوط غرناطة عام 897 ه. 1492م.، والمكان هو أندلس التاريخ والحلم معاً، والصراع السياسي المحتدم بين بني الأحمر والملك أبو عبدالله من ناحية وبين الكاثوليك ومَلَكَيْ أرغون وقشتالة من ناحية يخفي وراءه في الديوان، صراعات عدّة، وجوديّة وصوفية وفلسفية وعشقيّة خصوصاً. يصف الشاعر غرناطة قائلاً: "عندما حلمت بغرناطة، رأيت بستاناً كبيراً لا أعرف من صاحبه". ويضيف في صفحة أخرى: "ليست ليالي غرناطة إلا اغنيات وراء ستائر النسوة البيض والسمر، وكان الشعراء يشبهونهنّ بالطيور المختبئة بين أوراق الشجر". تستحيل قراءة "مجنون إلسا" قراءة ملحمية صرفة أو روائية صرفة أو شعرية صرفة أو تاريخية صرفة. يشعر القارئ أنه حيال نصّ طويل لا هويّة له، نص يصعب بالتالي التقاطه والالتفاف عليه. كأنه يبدأ غفلة وينتهي غفلة مثل حلم طويل تعتريه كوابيس عدّة. فالنصّ يستهلّه أراغون بما يسمّيه "خطأ" لغوياً في أغنية وقع عليها مصادفة في أحد أعداد جريدة قديمة جريدة مينيستريل كانت دأبت على نشر الأغاني. والخطأ اللغوي ورد في مطلع أغنية حبّ تقول: "عشية سقطت غرناطة / قال فارس لجميلته". ردّد أراغون البيت، كما يقول أربع مرّات على رغم الخطأ اللغوي، إذ الصحيح ان يقال: "عشية اليوم الذي سقطت فيه غرناطة" 1. لكن الخطأ جعله مبهوراً حيال غرابة هذه الأغنية التي ذكّرته بجو الشاعر الفرنسي أبولينير، فجمالها إنما يكمن في الخطأ نفسه. ويقول أراغون: "هنا كان مفتاح الأحلام". ولم يكن عليه إلا ان يستعيد تلك العشية التي سقطت فيها باريس أمام النازيين 13 حزيران يونيو 1940، متماهياً مع الملك أبو عبدالله، ملك غرناطة "المدينة الأسطورية"، في أيامه الأخيرة. هكذا كان على أراغون ان يعيد اكتشاف غرناطة والأندلس وكذلك شخصية الملك أبي عبدالله الذي شوّه الشعر الإسباني والأغاني الشعبية الموريسكية صورته. اكتشف أراغون عظمة الثقافة الأندلسية التي منحت أوروبا رؤية جديدة الى مفهوم الحب والى الفلسفة الأغريقية والكثير من الأفكار والنظريات التي أفاد منها رجال النهضة الأوروبية. واعتبر أراغون أن سقوط غرناطة يوازي في عظمته سقوط طروادة. وإن لم يكن أراغون هو أوّل من استوحى سقوط غرناطة شعرياً، إذ سبقه كما يعترف في التمهيد، الشاعر الأميركي واشنطن أريفنغ الذي كتب الكثير عن غرناطة وسواه طبعاً، فهو شاء ان يجمع بين حكاية السقوط تلك وقصّة الحبّ الأزلي الذي كان بدأ يكتبه تحت عنوان عريض هو "حب إلسا"، ويقول أراغون: "هكذا انبثقت غرناطة من أرض أحلامي تحت نور المرأة التي باحت باسمها". وغرناطة قبل إلسا لم تكن الا حنيناً عميقاً، أما بعد إلسا فأضحت له مصهراً للحنين والحبّ والجنون والموت. وانطلاقاً من هنا يقول أراغون: "في ديوان "مجنون إلسا"، أفكار خفية وموسيقى داخلية حملتها فيّ طوال حياتي". راح أراغون يفتش في كتب التاريخ التي تناولت الأندلس وخصوصاً أعمال المستشرقين وفي طليعتهم لويس ماسينيون. وعندما أحسّ أنه أدرك أسرار الأندلس وغرناطة خصوصاً لم يتوان عن القول: "لا شيء ممّا عرف عن نهاية غرناطة إلا سأرويه لكم، أنا الذي تتبع مغامرة البشر والبارئ". وها هو أيضاً يخاطب غرناطة على لسان المجنون قائلاً: "ما تراكِ تمسين، غرناطة من دوني، ما تراكِ تمسين / لم أعد أفهمكِ يا قلبي المنتزع". وإن كان يصعب اختصار هذه الملحمة الغنائية أو تلخيصها لكثرة ما تحمل من وقائع وأخبار ومرويّات وقصائد وأغانٍ وحوارات وأفكار ومواقف، فإن من الممكن التقاط الخيط الرئيس الذي يجمعها فصلاً الى فصل أو مرحلة إلى أخرى. فالمأساة التي تبرز في الديوان هي مأساة أبو عبدالله آخر ملوك غرناطة عشية سقوطها. أعيانه جاهزون لخيانته، وأهل المملكة مشتتون أحزاباً وعُصباً وأفراداً. إنها غرناطة العظيمة، في ثقافتها وعلومها وفنونها وأحزانها ولا سيما حزن الملك أبو عبدالله الذي سيخاطبه "المجنون" قائلاً: "تتقدّم أيها الملك المقهور أمام التاريخ والأسطورة / أنت يا من اقتصرت عظمتك على الفاجعة...". غير ان غرناطة الملك أبي عبدالله كانت أيضاً غرناطة "المجنون"، "مجنون إلسا"، الشاعر الجوّال أو الصعلوك، "قيس" الذي يغني "إلسا" حبيبته الموجودة وغير الموجودة. ومثلما انهزم أبو عبدالله ينهزم الشاعر العاشق والمجنون. فبعد ان تكال له تهمة عبادة المرأة والتولّه بها يُطارد ويُقبض عليه ويلقى في السجن. وهنا يحضّ السجناء على الغناء والشعر. وعندما يخرج عشية سقوط غرناطة يدرك أنه لم يبق أمامه سوى التيه في الجبال التي يقطنها الغجر. يؤويه الغجر ويوفّرون له المسكن والحماية. لكنّه إذ يدرك ان ما من أمل له بعد سقوط غرناطة، يبدأ في تخيّل المستقبل أو الأزمنة الآتية. هكذا يتخيل العاشق دون جوان والشاعر والقديس الإسباني يوحنا الصليب سان جان دو لا كروا والكاتب الفرنسي شاتوبريان والشاعر الإسباني القتيل لوركا ثم "أزمنة ألسا". ويطلق الشاعر المجنون الجملة الشهيرة التي ذاعت: "المرأة مستقبل الرجل". أما نهاية "قيس إلسا" فلن تكون أقلّ مأسوية من نهاية أبي عبدالله، فبعد أن أوقف مريده زيد وعذّب في محاكم التفتيش الإسبانية حتى الموت، يستسلم الشاعر المجنون بدوره للمنية التي توافيه بين اصدقائه الغجر. في تلك الأثناء يُعْلَن انطلاق رحلة كريستوف كولومبوس الشهيرة نحو القارّة الأميركية. قد يبدو "مجنون إلسا" مختصراً للتاريخ الأندلسي في كلّ وجوهه، ماضياً و"مستقبلاً"، التاريخ الإسلامي والإسباني، الديني والثقافي. ويجب عدم إغفال انفتاح أراغون على الحضارة العربية أيضاً التي غزت أرض الأندلس، ونجمت عن هذا الغزو حضارة أخرى هي الحضارة الأندلسية بامتياز. ومثلما حضر يوحنا الصليب ولوركا ونشيد الأناشيد... يحضر أيضاً ابن سينا في تخيّله للطبقات السماوية وابن رشد وأبو العلاء المعرّي والغزالي وابن حزم الأندلسي وآيات من القرآن الكريم ومقطع من "الحديث الشريف" عن ابن عباس، رواه ابن هذيل الأندلسي... أما اللغة العربية فلها حضورها أيضاً سواء عبر الكلمات التي نقلها أراغون صوتياً الى الفرنسية ومنها مثلاً: "ألف لام سين ألف، هي ذي علامات القلب الرائي". ويعتبر أراغون ان اللغة الفرنسية قادرة مثل العربية على الاستجابة الى كلّ "الحالات الوسطى" التي يتميّز بها بيت الشعر، والنثر المحكم بالمعنى والموسيقى ومثَلُه السجع العربي. لكن أراغون الذي يعود الى التاريخ في كتابه لم تكن عودته لمدح التاريخ بل للكشف عن أكاذيبه ولا سيما تلك التي أحاطت غربياً بالتاريخ الأندلسي. ويقول في هذا الصدد: "أية أكاذيب تلك التي تكتب التاريخ؟". والعودة الى التاريخ في نظر أراغون هي الطريقة الناجعة لقراءة المستقبل. فهو يقول: "إذا أردتم ان أفهم ما سيأتي، وليس فقط هول ما سيأتي، دعوني ألقي نظرة على ما حصل. إنه الشرط الأول لأي تفاؤل". وهكذا صحّت التسمية التي ألقيت على كتاب "مجنون إلسا" في كونه "مرآة تاريخية ضخمة". يتماهى إذاً أراغون في صورة "مجنون إلسا" ويتماهى "مجنون إلسا" في صورة قيس بن عامر النجدي الملقب، كما يقول أراغون نفسه في الديوان، ب"مجنون إلسا". أما القصائد فتدور على ألسنة الثلاثة معاً أو فرادى، ناهيك بصوت الراوي الذي يتدخل حيناً تلو آخر في بعض الفصول. إنها لعبة مرآة بين الشاعر والمجنونين أو المجنون الذي صارت ليلى وإلسا واحدة في عينيه. ويحمل أحد عناوين الفصول في الديوان هذه الجملة: "هل أعلم هنا من يتكلم، المؤلف أو المجنون؟". وفي مقطع آخر يقول أراغون على لسان راويه: "حينذاك أنشد قيس بن عامر: الانسان والزمن عدوّان بالتأكيد / أحدهما يطوي الآخر حتى إذا أقبل الصباح أضعنا أقدارنا بنفسنا". وعلى لسان المجنون يسوق أراغون قصائد هي من أعذب ما كتب ربما في ميدان الحبّ والغزل، موظفاً التراث الأندلسي الغنائي خير توظيف، ومتكئاً كل الاتكاء على بلاغته المشرقة والأصيلة وعلى شغفه الايقاعي الموسيقي، التفعيلي والداخلي. وقد تكون بعض القصائد العشقية التي وردت في "مجنون إلسا" من عيون شعره الذي بلغ أوجه في بعض الدواوين مثل "إلسا" و"عينا إلسا" وسواهما. ففي تلك القصائد استطاع الشاعر ان يصهر الحضارة الأندلسية في بوتقة واحدة، غنائية وتاريخية، شعرية وفكرية، وجدانية وموضوعية. قصائد مختارة عشية سقطت غرناطة قضيت كل عمري كإنسان بلا غدٍ في الهوّة منتظراً فجراً حائراً الموت جالسٌ قربي فتى - ملكاً من القصر مطروداً عشية سقطت غرناطة طالما حييت كمثل رجل أحمق في قصر الحمراء تعصف به رياح الجليد العينان ميتتان، الشفة رمادية نافورة ماء تهمهم وتنكسر مرآة مجروحة من قبل عشية سقطت غرناطة ها أنا ليلٌ مبدّد يبحث في الصبح عن خاطراته مقامر بلا رهان مزّق قميصه للحين فلاح قلبه المطعون عشية سقطت غرناطة عشية سقطت غرناطة الباقة مهما فعلت وأياً قلتِ كنت الظلّ الذي يتبعك كان الزمن ينسرب من أصابعك مثل رمل الليالي، رملها الأسود والشمس مكسورة تحت المطر مهما فعلتِ وأياً قلتِ كنت شتاء وصيفاً لحناً يمكث في الرأس من كثرة ما غنّيناه أو لأنّه كان فقط مهما فعلت وأياً قلتِ على أثر خطواتك حيثما ذهبت أودّ أن أكون هسيس النار ذاك الصدى متردّداً كاعتراف صلاة الريح المريمية في شعرك مهما فعلتِ وأياً قلتِ لم تستطيعي أن تميّزي ما كان وما بدا لي هذا الحبّ الذي ارتجفتُ منه هذا الحبور الذي سرقتُه مهما فعلتِ وأياً قلتِ أن تنغلقي على ما قلتُ أن تقسمي بالله أنني كذبتُ أن تلتفتي إلى النسيان أن تنكري قلبي والجنون مهما فعلتِ وأياً قلتِ هي ذي الأيام تقبل من دوننا وها إني في نظر كلّ الناس أمكث عند قدميك مثل باقة تنفكّ مهما فعلت وأياً قلتِ يدا إلسا أعطيني يديك من أجل اضطرابي أعطيني يديك اللتين طويلاً حلمت بهما يديك اللتين حلمت بهما طويلاً في عزلتي أعطيني يديك لأنجو بهما عندما أقبض عليهما في الشرْك الهزيل شرك راحة اليد والخوف، شرك العجلة والقلق عندما آخذهما كماء الثلج ينسرب من كلّ ناحية إلى يديّ هل ستعرفين ما الذي يجتازني ما يكدّرني ويجتاحني هل ستعرفين ما يخترقني ما خنته حين رحت اختلج ما تقوله هكذا اللغة العميقة هذا الكلام الصامت، كلام المشاعر الغريزية بلا فمٍ ولا عينين كمرآةٍ بلا صورة هذا الارتعاش، ارتعاش الحبّ الذي لا كلمات له هل ستعرفين ماذا تفكّر الأصابع بفريسة تمسك بها للحظةٍ هل ستعرفين ما هو صمت الأصابع برق كان ليعلم ما لا يُعلم أعطيني يديك ليتكوّن فيهما قلبي ليصمت فيهما العالم ولو لحظة أعطيني يديكِ لتنام روحي فيهما لتنام روحي فيهما إلى الأبد الليلك أحلم وأستيقظ في رائحة الليلك في أي ناحية من النوم تركتك هنا أم هناك كنتُ أنام في ذاكرتك وكنتِ تنسينني هناك أم أن الحكاية عكسها وكنت حيث لم تكوني أعاود النوم لأصل إليك في البلاد التي حلمتِ بها لا شيء يهرب ويتوارى إلا بعد أن تهجريه في الحياة أو في الحلم كلّ شيء له هذا البريق الغريب من عطر يتمادى ومن غناء يتطاير أيّها الليل المضيء أيها النهار المظلم غائبتي بين ذراعي ولا شيء فيّ يبقى سوى ما تهمسين به العينان المغمضتان مقاطع لا تغمضي عينيك إنني في هذي الناحية من جفنيك لا أقدر أن ألج الليل حيثما تذهب نظراتكِ بلا ضوء لمن تبتسمين أمامي أي ظلّ يمشي فيك ويلمسكِ آه إنني أخشى ما ترينه وما يدير فمك زماننا يمضي افتحي عينيكِ فكّري بما تسرقين مني من حبور تسرقين منّي حصّة السماء التي اختلقتها لك بِراً بوعد.