ماذا لو كانت الحرب المعلنة اميركياً على العراق مجرد نزوة يتحصل اشباعها على ثقل وبعد استراتيجي، ليس بالنظر الى عقلانية مفترضة تنسب اليها، بل بسبب صدورها عن الفريق الاداري الحاكم للدولة الأعظم في العالم. بعبارة أخرى: ماذا لو كان الإصرار الاميركي على التحكم بالقوة بالمصير العراقي يتجاوز الاعتبارات العقلانية التي يتخبط في فك طلاسمها محللون من مختلف الأنواع والاتجاهات، اذ يعتبر معظم هؤلاء انه لا يعقل ان لا يكون هناك تفكير استراتيجي عقلاني لدى ادارة الدولة العظمى، خصوصاً وان سوقها المعولمة أصبحت بالفعل "أم الأسواق" في العالم، بحسب عبارة مؤرخنا ابن خلدون. فمعظم هؤلاء المحللين المتخففين من الأحكام المسبقة حيال السياسة الاميركية راحوا يستبعدون ان يكون العامل النفطي مفتاحاً لتفسير القرار الاميركي المتخذ في شأن العراق قبل هجمات 11 ايلول سبتمبر، وتزداد حيرة المحللين، وحيرتنا معهم، عندما يلحظون أن النظام العراقي ليس من الصنف الذي لا يصالح ولا يعترف ولا يفاوض، بل هو على العكس مستعد، كلما اقتضى الأمر حفظ رأس النظام، لتقديم التنازلات، خصوصاً في ما يتعلق بسياسته النفطية. في هذا الإطار الغارق في حيرة لا فكاك منها، لا يتمنى أحد ان يكون في وضعية هانس بليكس ومحمد البرادعي والمفتشين الدوليين العاملين معهما. فوضعية هؤلاء تكاد تكون شكسبيرية مأسوية، نظراً لتجاذب حالها بين منطقين للعلاقات الدولية بات من الصعب اكثر فأكثر المطابقة بينهما. وهذا ما يلخصه التشخيص العراقي المتوسط، ولو على سبيل الفكاهة السوداء، والقائل بأنه اذا عثر المفتشون على أسلحة، فإن هذا سيعني بأننا كذبنا، وتحصل الحرب بالتالي. وفي حال لم يعثر المفتشون على أسلحة، فهذا سيعني بأننا اخفيناها، وبأننا نستمر اذاً في الكذب والخداع، وتحصل الحرب ايضاً. "اميركا تطلب منا ان نختار أحد الأمرين، وهذا شيء رائع". لقد بلغت الأمور حقاً هذا الحد الذي ينذر بجعل عمل المفتشين الدوليين مسرحية مكشوفة المطلوب منها، بحسب القراءة الاميركية، تأمين تغطية شرعية للحرب اذا لزم الأمر. والحال ان ادارة الرئيس بوش لا تخفي تضايقها حتى من هذه المسرحية، كما لو انها، في أحسن الأحوال، من قبيل لزوم ما لا يلزم. في هذا السياق يمكننا ان نفهم التوتر الذي حصل في اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الأمن والذي انعقد يوم 20 كانون الثاني يناير الجاري. ففي هذه الجلسة المخصصة من حيث المبدأ للبحث في مكافحة الارهاب، رأى وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان أن "لا شيء يبرر القيام بعمل عسكري"، وان "عمل المفتشين الدوليين مقنع". بل ذهب دوفيلبان الى حد الاعلان الصريح بأنه في حال ما قررت الولاياتالمتحدة القيام بعمل عسكري في صورة احادية، فإن السؤال الأول الذي سنطرحه هو التالي: "ما هي شرعية هذا العمل؟". اما السؤال الثاني فيتعلق بفعالية ونجاعة هذا التدخل. وفي ما يخص فرنسا بالذات، أوضح دوفيلبان ان الموقف الفرنسي، في حال ما قررت الولاياتالمتحدة الاستمرار في الوجهة التي ترتئيها، هو عدم المشاركة في تدخل عسكري لا يحظى بتأييد الأممالمتحدة. حتى ان الوزير الفرنسي لمح الى امكان استخدام فرنسا، بصفتها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، لحق النقض الفيتو. فوق ذلك أعلن الوزير الفرنسي أن فرنسا ستتحمل كافة مسؤولياتها في هذا المضمار، قبل ان يختم كلامه بالقول: "صدقوا بأننا، في ما يتعلق باحترام المبادئ، سنذهب الى أقصى الحدود". وبات معلوماً ان الموقف الفرنسي الجريء هذا يحظى بتأييد المانيا والصين وروسيا. يستفاد من الموقف الفرنسي ان لغة المجاملات ورهانات التأثير الديبلوماسي على القرار الاميركي بدأت تنفد، وان مرحلة الفرز وتحديد الاصطفافات بدأت. ويمكن الاستدلال على هذا النفاد من زلة لسان بالغة الدلالة ارتكبها وزير الخارجية الاميركي كولن باول خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده اثر الجلسة الصاخبة لأعضاء مجلس الأمن والتي شهدت مجابهة بين اميركا وفرنسا. فقد قال باول انه "ليس لدى الولاياتالمتحدة نية لغزو أو لشن هجوم على العراق"، والحال انه كان يجيب عن سؤال حول... كوريا الشمالية. على انه يمكننا، من باب أولى، الاستدلال على النفاد نفسه من تصريحات المسؤولين الاميركيين الكبار قبل يوم واحد على انعقاد الجلسة التي من شأنها ان تكون استثنائية بما حملته من مؤشرات على انعطافه في العلاقات الدولية. فقد رأت السيدة كوندوليزا رايس بأن يوم 27 كانون الثاني، المتطابق مع موعد تقديم المفتشين الدوليين لتقديرهم حول تطبيق العراق للقرار 1441، سيكون "بداية الطور النهائي"، وبأن أيام الحكم العراقي باتت معدودة. والأهم من ذلك أن "الوقت بدأ ينفد". وفي اليوم نفسه، صدرت عروض سخية نابعة فجأة من مكارم الأخلاق، عن كولن باول ودونالد رامسفيلد، واتخذت صورة مزاد علني حول تطبيق القاعدة الأخلاقية الفروسية "العفو عند المقدرة" حيال شخص صدام حسين وعائلته وكبار حاشيته، مع وعود بعدم تعريضهم، في حال رحيلهم عن العراق، للمحاكمة والمحاسبة بتهمة ارتكاب جرائم حرب. والحق ان الادارة الاميركية الحالية تتصرف كما لو أنها بالفعل في سباق مع الزمن، وفي هذا الاطار تصح تماماً عبارة السيدة رايس المتحدثة عن بداية النهاية وعن نفاد الوقت. على ان العبارة يمكن حملها على معنى مختلف إن لم يكن متعارضاً عن المعنى الذي تقصده مستشارة الأمن القومي الاميركي. فالتظاهرات الحاشدة نسبياً التي شهدتها عواصم ومدن كبيرة عدة في الغرب، بما في ذلك الولاياتالمتحدة نفسها، للاعلان عن موقف مناهض للحرب ضد العراق، وهو موقف مرشح للتعاظم مع الوقت ومن دون ان يكون مسانداً للنظام العراقي في حد ذاته، هذه التظاهرات تثير قلق صقور الادارة الاميركية وفرسانها، وتدفعهم الى الاستعجال في حسم المسألة العراقية قبل ان يفوت أوان قطافها بعد ان أينعت طويلاً في نظر اعضاء النادي الاميركي الحاكم. واذا كان من المؤكد ان النظام العراقي ينتمي الى نمط من الأنظمة التي دشنها الاتحاد السوفياتي السابق والتي يمكن وصف نموذجها ومثالها، على وجه العموم، بعبارة أو مفهوم "ديكتاتورية النمو"، فإنه بات من شبه المؤكد ايضاً، ان ما يثير حفيظة النادي الاميركي حيال هذه المعادلة، ليس نصفها الأول، أي الديكتاتورية، بل نصفها الثاني، أي النمو القائم على عملية تحديث قسري للبلد، كما حصل لكوريا الشمالية التي انتقلت خلال جيل واحد من وضعية مجتمع ما قبل صناعي الى وضعية بلد ما بعد صناعي. واذا كانت تجارب ديكتاتوريات النمو أثبتت بأن مشكلتها الكبيرة تكمن في افتقارها الى القاعدة الاجتماعية التي تسمح بالتأثير في العملية السياسية وتطويرها من خلال مشاركة اكبر لقوى الشعب واتجاهات الرأي العام، فإن الرهانات القومية والاقليمية بقيت تدور على كيفية تغيير النظام السياسي من دون التخلي عن أسباب القوة ومصادرها. وهذا، على الأرجح، ما لا تريده اميركا في الحالة العراقية، حيث المطلوب اقامة نظام موال لها، يكون شاغله المحلي اكبر بكثير من شواغله الاقليمية والقومية. بكلام آخر، قد لا يكون الحدس الشعبي مخطئاً، وان كان تلقّفه من قبل برامج وتصورات "شعبوية" أمرا آخر مختلفا، ونقصد بذلك الحس الشعبي، المتحصل من تجارب واختبارات غير مصاغة جيداً، والقائل بأنه ممنوع على العرب تخصيصاً، وعلى المسلمين استطراداً، امتلاك أسباب القوة بغض النظر عن النظام السياسي لهذه القوة، وكل هذا كرمى لعيون الحليف الثابت والوحيد للولايات المتحدة في المنطقة، أي اسرائيل. يعتقد اعضاء النادي الاميركي الحاكم ان لديهم فرصة تاريخية لا ينبغي تفويتها وذلك لتثبيت قواعد ومعايير نهائية لوجهة العولمة، من جهة، ولمكانة الولاياتالمتحدة في تحديد هذه الوجهة وتسييرها عالمياً. وما يجري العمل على تثبيته ليس قواعد ومعايير في الحقيقة، بل املاءات يتطلبها منطق الرأسمالية الفالتة من قيود العلاقات الدولية ومن ضوابط دولة الرخاء وتقديماتها الاجتماعية، وليس منطق الديموقراطية الداعية الى تفعيل قدرة المواطنين على التوجيه الذاتي لمجتمعاتهم. فخلافاً لما يحسبه البعض، هناك توتر بين الديموقراطية وبين الرأسمالية الساعية تعريفاً الى الربح ومضاعفته، أي بين منطق السلطة المشدود الى الحفاظ على الحد المقبول من التضامن الراعي للمساواة، ولو كانت شكلية، وبين منطق المال. ذلك انه "يمكن للسلطة أن تكون ديموقراطية، أما المال فلا"، على ما يقول المفكر الألماني المعروف يورغن هابرماس، والتظاهرات المناهضة للحرب تندرج في سياق ارهاصات، لم تتبلور تعبيراتها بعد، من شأنها أن "تعقلن" بعض الشيء عولمة السوق الجارية وجموحها. وهذا ما لا يريده النادي الأميركي الحاكم الذي يبدو أنه أميل الى بورصات الأسواق المالية المعولمة من أي شيء آخر. وليس مستغرباً، في هذه الحال، ان ينطوي سلوك النادي على قدر كبير من الغانغسترية، ومن استعجال الأمور قبل أن تنتعش من جديد طوبويات شاع الاعتقاد بأفولها الى غير رجعة. "وحين تجف الواحات الطوبوية، تنتشر صحراء من التفاهة والحيرة"، بحسب عبارة هابرماس نفسه.