ينهض خطاب معظم معارضي ضرب العراق من المثقفين والسياسيين العرب على ركنيين اساسيين. يقول الاول ان الهجوم الاميركي على العراق ما هو الا فرع من خطة اوسع واعم للهجوم على المنطقة العربية البعض يضيف الاسلامية وتفتيتها عبر تفتيت العراق. ويقول الثاني ان الهيمنة بعد الهجوم ثم التفتيت تستهدف وضع اليد على موارد المنطقة العربية من باب وضعها على النفط العراقي. الفرضيتان ليستا بالطبع من صنع المخيلة المؤامراتية العربية فقط. فهما تمتلكان من المنطق ما يكفي لقبولهما قبولاً مبدئياً وجدلياً يصلح لسجال عربي حول مستقبل هذا الشطر من العالم، بل لعل السؤال عما تريده اميركا بنا وبالعالم يجدر ان يكون سؤالا شاغلاً ومحرضاً على الفهم والتيقظ، لا سيما وانه سؤال يقع في متن الحدث الحضاري للقرن الواحد والعشرين ساعة الاعداد للحرب العالمية الرابعة كما يصفها البروفيسرو اليوت كوهين. لكن التفكير الملي بهذا السؤال يستدعي البدء من حيث ينتهي اليه خطاب معظم معارضي ضرب العراق. فالقول بنية مبيتة لدى الاميركيين لتفتيت المنطقة لم يستدع حتى الآن سوى تظاهرات ترفع صور الرئيس صدام حسين الوحدوي وان بقوة السلاح بينما الاجدى السؤال: "من اين تتأتى قدرة الاميركيين على التفتيت والشرذمة؟" "ولماذا تبدو المنطقة العربية بعد عقود من الاستقلالات اقرب الى احتمال السقوط الأهلي والمؤسساتي والدولتي منها الى أي احتمال آخر؟". هذان سؤالان بديهيان لكنهما ملحان بقدر البداهة نفسها. فلن ينجح الاميركيون الا في تفتيت ما هو قابل للتفسخ ومتفسخ. بداهة اخرى نتواطأ على اغفالها، إذ المرحلة "دقيقة وحرجة". فالقول بالتفتيت والدعوة الملحة لدرء خطره تفترض في المقلب الآخر لوجهة الكلام ان الوحدة الجغرافية والاجتماعية حاصلة ومتحققة، وهو ما تنفيه نظرة سريعة على خارطتنا. فالمنطقة العربية تبدو في الغالب ممزقة بين تولي الاقلية على حساب الاكثرية واقليات اخرى او تولي الاكثرية متبوعاً بسحق الاقليات مجتمعة. ويزداد الامر سوءاً بالنظر الى ان هذا الانقسام العام ينهض على انقسامات وتنويعات اضافية تتعدد بتعدد الهويات والمعايير والمصادر التي تجعل من الاقلوي اقلوياً ومن الاكثري اكثريا. فما يأنف الدين من جمعه لا تنجح في حضانته "الدولة القومية" وما يعجز التراث عن توليفه ترثه الاثنية والقبلية والعرقية مضاعفاً ومشحوناً ومفخخاً. هذا نتاج الاستعمار، يقول الخطاب المذكور. وهذا صحيح بدرجة حسنة لكنها حجة غير كافية كي لا نقول غير مسؤولة. ثمة تفصيل آخر في الركن المتعلق بالسيطرة على المنطقة وتفتيتها يتصل بنشدان المثقفين والسياسيين القانون الدولي وتوسلهم مادته لقدح الحرب. فالاميركيون بلغة اهل هذا الخطاب يقفزون فوق المعايير الدولية التي تحمي مشروعية فكرة الدولة بكلام لا يعدو كونه تردادا لسجال قائم اصلا في الغرب بشكل رئيسي. ويكفي النظر الي سجالات المثقفين الاوروبيين مع مقالة روبرت كاغان "القوة والضعف" لملاحظة حرارة السجال وخطورته حيال هذه النقطة. لكننا مرة اخرى نجدنا امام كلام صحيح ومردود في الآن عينه. فإذ يتنطح الاوروبيون الى سجال من هذا النوع فهم يدخلونه مدججين بسجال آخر حول السبل الآيلة التي تجاوز الدولة-الامة الى وحدة سياسية واقتصادية وجغرافية وحول الكيفيات والماهيات التي بها وعليها يؤسس عقد اجتماعي جديد. هكذا يبدو سؤال الدولة مؤرقا للاوروبيين والاميركيين يتصل بتباين الفهم لمسألة تجاوز الدولة واختلاف تصورات مرحلة ما بعدها. واذ يستعير مثقفونا وسياسيونا لغة من هذه القماشة ويسقطونها على الواقع العربي تتبين لنا فداحة الهوة التي تفصل البلاغة السياسية عن الواقع الاجتماعي والجغرافي والمؤسساتي. فأي "دولة" يراد الحفاظ عليها في العراق او اي بلد عربي آخر اذا كان الواقع العربي يقطع مع مرحلة ما قبل الدولة ولا ينبئ بانجاز الدولة. هذا التفصيل حيال النقاش الدولتي المفتعل في سياق رفض الحرب يقود حكما الى مناقشة الركن الثاني الذي ينهض عليه خطاب معظم معارضي ضرب العراق من المثقفين والسياسيين العرب وهو ركن الموارد وعلى رأسها النفط. فإذ يحضنا اهل هذا الخطاب على الوقوف خلف عراق صدام حسين يتذرعون بضرورة الدفاع عن "مقدرات الأمة" مستندين الى ان الولاياتالمتحدة تتوسع في نشر آلتها العسكرية للهيمنة على موارد النفط والغاز على طول الخط الممتد من آسيا الوسطى الى الشرق الاوسط. العطش الاميركي للنفط غير مكبوت وهو يقع في متن النقاش مع الحلفاء حول مستقبل العراق وحقوله النفطية وعقود التنقيب القائمة حالياً، لا سيما الروسية والفرنسية وبدرجة اقل الصينية. غير ان رهاب فقدان النفط يتطلب ان يكون النفط اولا ملكا لنا ومساهما رئيسيا في تنميتنا وموردا من موارد تأصيل انتمائنا الى آلة الانتاج العالمية. لكن النظر الى الواقع يعري البلاغة السياسية مرة اخرى. وبالطبع ليس هذا كلاما في تبرير الحرب ولا دعوة الى قبولها. انه بيان في العجز ودعوة الى البحث الجدي عن الاسئلة التي تشبه واقعنا.