أيقظته في عز نومه بصرخة قوية، مع نشيج عالٍ، فتح عينيه، الظلام سائد، لم يرَ شيئاً، هي قربه لم تتحرّك، مستكينة، متكورة على بعضها، لم تستيقظ، لم يشأ إزعاجها، حتى انه لم ينظر الى الساعة، أرجح أن ضرسها يؤلمها مرة أخرى؟ يا للمسكينة! سحبت البطانية على وجهها، رجعت الى النوم، ظل أرقاً بضع ساعات، يا لنومه القلق، إن استيقظ في الليل لا يرجع الى نومه حالاً مهما فعل، تهجم عليه الأفكار من كل مكان، تظهر كل الحوادث المؤلمة في حياته الطويلة على الشاشة، تظهر فجأة، تتبختر، تتعملق، تقتصّ منه، تحاسبه، لا يستطيع ان يطردها الا بشق الأنفس، يبقى على تلك الحال وقتاً يطول دائماً ولا يقصر، ثم لا يدري متى يغفو ليستيقظ في الصباح ليستيقظ في الصباح مضعضع الجسم، ما إن تمددا حتى تكومت قربه بملابسها، لم تخلع أي شيء الا حذاءها الرياضي، التفت على بعضها، لم تشأ ان يلتصق اي شيء منها به، احترم رغبتها، حاول ان يبتعد عنها ما أمكن، ليشعرها بالأمان. ضوء الغابة الهادئ يعمر الكون، فيما انتشرت حول الخيمة بضعة سناجب في شتى الاتجاهات، أحس بعينيه متعبتين، ووشيش خفيف في رأسه، ربما من تأثير الأرق، كان ظهرها إليه، ووجهها مغطى بالبطانية، رأى بعض خصلات شعرها الأحمر تخرج من البطانية، فتح صندوق السيارة، سكب من علبة بلاستيكية ماء في طاسة بلاستيك، حلق وجهه، ثم غسله، وفي حدود الثامنة، فتح الخيمة، وجدها جالسة، حدقت به، ابتسمت، رآها للمرة الأولى في الضوء، لحظ في الليل تناسق تقاطيعها، لكنه لم يتوقع مثل هذا الجمال الفائق! في نحو العشرين، شعر أحمر، عينان جميلتان واسعتان لم يستطع ان يحدد لونهما، قزحية صفراء، خطوط خضر برتقالية، قهوائية اي تشكيلة فذّة! أي ملامح متناسقة شديدة الجاذبية، أي قوام متناسق! أما أجمل ما فيها فشعرها الأحمر، ابتسمت، شعت أسنانها البيض، ابتسم: - ألا تريدين ان تفطري؟ - شكراً. - يعني أنك لست جائعة؟ - أكاد أتضور. - إذاً، لماذا شكراً؟ - لأنك دعوتني. - ضحك، أبقى سديلة الخيمة بيده: - تفضلي. - حسناً. - أسرعي اذاً. - نهضت، أخذت تعدّل ملابسها، قميص بلون الحنة يلتصق بنهديها البارزين، ربما اختارت اللون لقربه الى لون شعرها الأحمر الزاهي، اعتدلت، برزت سرتها مدعوجة بعمق أخّاذ من تحت القميص ... انقضى العمر من دون تجربة مثيرة كتلك، وحين اصبحت خارج الخيمة، تمطت، فارتفع القميص الى الأعلى ليظهر المزيد من إهاب مغرٍ جذاب، فاجأتها زقزقة العصافير صاخبة، نظرت الى الأشجار العالية، خضرة عارمة تخترق بقوة وتصميم قلب السيماء اللازوردية، كم سحرتها مناظر الغروب فوق الغابات، لكن الوقت الآن صباح، صباح لذيذ بارد وليس كصباح شقة الخنزير جور جورج، المقبضة للروح، الرطوبة، دبق مقزز، الحرارة تشوش المخ، وتقتل الأحاسيس، ها هي الآن إنسان جديد، في مكان جديد، في صباح جديد، حدقت بالسماء مرة أخرى، أين هو طائر الكوكتيل؟ أيقظها قبل نصف ساعة بتغريده الجميل، أخذت تفتش عنه بعينيها، بين الأغصان، أعلى الاشجار، دارت دورة كاملة لكنها لم تره، تنفست بارتياح، طبعاً لا يستقر، حر، لا يبقى في مكان واحد! أصبحت حرة كطائر الكوكتيل، ثم حدقت بالخيمة، أدركت لماذا لم يقع نظرها عليها في الليل، أخفاها بتثبيت مجموعة من أغصان الأشجار حولها، من جميع الجهات، فبات من الصعب تمييزها من بعد بضعة أمتار، كان يراقبها والابتسام على ملامحه، ضحكت: - أحسنت إخفاء الخيمة بهذه الأغصان. - لا بد. - ما أجمل الحياة هنا! أيوجد ماء؟ - نعم، تعالي. - أأنت حارس الغابة؟ قهقه بعفوية: حارس غابة؟ نعم. لا. توقفت، حدّقت به باهتمام: كنت أظن أن البقاء في الغابات ممنوع. هزّ رأسه: نعم، ممنوع، لكنهم بدأوا بتصليح شارع 101 جنوب، حفروا مقترب الطريق مع مدخل الغابة، عزلوها من دون ان يدروا، لم يعد هناك مجال لدخول سيارات دورية شرطة الغابات. - كيف تدخل وتخرج إذاً؟ - سيارتي صغيرة، انظري، عرضها نحو متر، تدخل في أي مكان، عدلت المدخل بيدي هاتين، وضعت بعض الحجارة ليتيسر لسيارتي صعود الرصيف. - لكنهم سيصلحون الطريق في هذا الصيف. - يعني بعد ثلاثة اشهر، إنهم بطيئون، كمقاولي بلدية البصرة... يومهم بسنة. - وماذا ستفعل بعد التصليح؟ - سأغادر الى السويد بعد أسبوع فقط، حجزت، فقط انتظر ان أكمل فلوس البطاقة رأس الشهر، انتهى كل شيء. - لن ترجع؟ - لا، أبداً. - كم سنة لك في أميركا؟ - ثلاث سنين. - ستأخذ الجنسية بعد سنتين. - لا أريدها، أميركا ليست لي، للشباب. - مع ذلك يجب ان تأخذ حذرك من الشرطة، لا يوجد أقذر منهم. - لا أخاف الشرطة، لكنني أخاف ان تكتشف العصابات انعزال الغابة فيتخذونها مجالاً لعملياتهم. - العصابات؟ - نعم. - لكن ماذا تتوقع ان يفعلوا؟ - من يدري؟ قبل ان أجيء الى هنا كنت أقيم قصري في غابة معزولة منسية لا يأتيها أحد، يعزلها قطار "مترا" من جهة، وجدار بعلو عشرة أمتار من جهة أخرى. - كيف كنت تدخلها إذاً؟ أنتظر مرور القطار فأمرق بين الجدار والسكة، كان هناك فراغ ايضاً بعرض متر، ثم وسعته بالمعول، طلبت من صديق لي عامل تنظيف، سترة فيها علامة عمال البلدية، لئلا يكتشف احد ما اعمل، قضيت يوماً كاملاً اهدم الجدار وأنقل الأنقاض، كان المكان جنة، يشرف على البحيرة من جهة، وعلى غابة واسعة من جهة اخرى، وكان هناك ضوء قوي يأتي من عمود لقطار "مترا"، كنت اقرأ على ضوء العمود حين ينتابني الأرق حتى انعس، لكنني لم اتمتع به إلا نحو شهر واحد، ثم رأيت العصابات تأتي، ربما رآني احدهم ادخل فأخبر الآخرين، جاؤوا ووسعوا الفتحة، بعدئذ اصبح مجالاً لنشاطهم، اخذوا يأتون بالسيارات المسروقة، يحرقونها هناك، لم يتعرضوا لي، لكنني خفت، قررت الهرب بجلدي. - لماذا يحرقونها؟ ضحك ضحكة قصيرة: - ألا تعلمين؟ نفت بهزة رأس، ثم تمتمت غير مصدقة: - لا. يصبحون أثرياء من وراء الحرق، تؤمنين على السيارة بضعف سعرها، ثم تتفقين مع احد افراد العصابة، تدفعين له خمسمئة دولار، وتعطينه سيارتك، يأخذها، يفككها، يستفيد من بعض ادواتها، ثم يحرق الباقي، اما انت فتذهبين الى الشرطة، تبلغين عن سرقة سيارتك، ثم تذهبين الى شركة التأمين لتقبضي ثمنها المضاعف. ضحكت بانشراح: - ما أسهل العملية! وصلا الى حيث تنعقد الاغصان فوق سيارة صغيرة حمراء قديمة، وقفت ذاهلة تحدق كيف تعج بالأشياء، المقعد الخلفي مملوء بالحقائب وأكياس البلاستيك المنتفخة، ظهر السيارة مكدس ببضعة صناديق مغلفة بالنايلون: أهذا عالمك؟ - نعم، وكل ما أملك. فتح الصندوق، جذب علبة ماء: - قلت انك تريدين غسل وجهك؟ - نعم. أخرج سطلاً بلاستيكياً صغيراً، أشار الى الصابون، معجون أسنان، فرش أسنان، منشفة: - اهتمي بنفسك. - شكراً. أخذت تضحك وهي تغسل وجهها: - أميركا صعبة حتى للشباب. - لكن تحمّل الشباب، قوتهم، إرادتهم، كل ذلك يمكّنهم من الصمود، انا لا استطيع، تتجمد اصابع يدي، ورجلي اذا انخفضت درجة الحرارة تحت الصفر، لذا لا استطيع العمل ستة اشهر، أنت شابة تستطيعين المقاومة. - حتى انا لا استطيع. - بل تستطيعين. - ليس من دون التنازل عن الكرامة. قرّب جذعي شجرة صغيرين من الصندوق البلاستيكي، اشار اليها ان تجلس على احدهما، وجلس مقابلاً لها، وبينهما القهوة، الجبن، الخبز فوق الصندوق. ابتسمت مأخوذة بالجو الساكن إلا من زقزقة العصافير، كم تسحرها الطبيعية! تنوعها! من يرى هذه الاشجار يظنها نوعاً واحداً، عندما كانت صغيرة، استطاعت حفظ اسماء جميع انواع الاشجار في اميركا، الاشجار كالبشر، تختلف نوعاً عن نوع، يظهر الاختلاف في اوراقها كما يظهر اختلاف البشر في اناملهم، كيف تتداخل اغصان الشجرة بالأخرى لتكون محيطاً هلامياً اسود، لا تستطيع فيه ان تميز اغصان هذه الشجرة عن تلك؟ كيف تلون الشمس تلك الاوراق، تفصلها عن غيرها، تبرز شرايينها! تجعلها تفرز روائحها المميزة لها! كيف تضيّف الاشجار حشراتها، ديدانها؟ أفي الغابة شيء ما قبيح؟ كانت تمسك حتى الذباب، ترثي لتلك المخلوقات الضعيفة، لماذا يكرهها الناس؟ لا يعطفون عليها! ما أقصر حياتها! ومع ذلك مكروهة! لكنها كانت تحب من كل قلبها اشجار الفاكهة، فهي كريمة معطاءة، في حديقة الدار التي نشأت فيها شجرتا توت، وخوخ، وحدها كانت تقطف التوت وتأكله، اما الخوخ فكان الجميع يحبونه: - ألا تجلسين؟ - بلى. حدّقت به: - أي جلسة رائعة! ما أجمل تناول الوجبات في العراء! أتذكر مثل هذه الجلسة عندما كان عمري خمس سنوات، عندما كنت ارى الناس يعدّون الشواء في الحدائق والمتنزهات، اتمنى لو اشاركهم، حرمتنا الحياة من تلك الممارسة الممتعة، لم يكن الزوجان جونير يحبان السفرات، كانا يعملان حتى في العطل. ران شيء من الألم على محياها. - أرأيت كابوساً في الليل؟ - لا. - لكنك صرخت صرخة قوية أيقظتني. - لا أتذكر. - إنه الخوف المغروس في العقل الباطن، لا بد من انك تخافين من جور جورج بشدة! - حتى أنت يجب أن تحذر منه. قلت لك انني سأغادر بعد اسبوع، سأترك أميركا وشرورها لمن يستطيع مقاومتها. حدقت مرة اخرى في اعالي الاشجار، تساءلت مع نفسها: أين ذهب؟ - أتفتشين عن شيء؟ - نعم. طير الكوكتيل، ايقظني تغريده في الصباح. انا ايضاً يثيرني، انتظره كل صباح، يذكرني ببلابل بلادي، كان هناك بلبل يحط في حديقة البيت يوقظني كل صباح في السادسة، ثم يختفي طوال النهار، ليعود ثانية في الخامسة عصراً يغرد هنيهة اخرى، آه ما اجمل تغريده! ... * مقاطع من رواية تصدر قريباً عن دار الآداب بيروت مسرحها شيكاغو الآن.