في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    صينيون يطوّرون نموذج ذكاء اصطناعي لأغراض عسكرية    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    دبي.. رسالة «واتساب» تقود امرأة إلى المحاكمة    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    ضمك يتعادل إيجابياً مع الرياض في دوري روشن للمحترفين    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    الهلال يكتب رقم جديد في تاريخ كرة القدم السعودية    الخليج يتغلب على الرائد برباعية في دوري روشن للمحترفين    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    سعدون حمود للقدساويين: لا تنسوا أهدافي    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    الدفاع المدني: استمرار الأمطار الرعدية على مناطق المملكة حتى الاثنين القادم    ضبط إثيوبي في جازان لترويجه (3,742) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    وكيل إمارة الرياض يحضر حفل سفارة جمهورية كوريا بمناسبة اليوم الوطني لبلادها    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    المملكة تحقق المرتبة 12 عالميًا في إنفاق السياح الدوليين للعام 2023    مجلس السلامة والصحة المهنية يؤكد عدم صحة ما تم تداوله حول ظروف العمل بالمملكة    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    ما الأفضل للتحكم بالسكري    عن نشر الكتاب: شؤون وشجون    نقص الصوديوم في الدم يزداد مع ارتفاع الحرارة    الدبلة وخاتم بروميثيوس    صيغة تواصل    الدفاع المدني يحذر من المجازفة بعبور الأودية أثناء هطول الأمطار    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    الأنساق التاريخية والثقافية    نورا سليمان.. أيقونة سعودية في عالم الموضة العالمية    رحلة في عقل الناخب الأميركي    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    عن فخ نجومية المثقف    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنجاب شيكاغو أهو حي وسط الثلوج التي غمرت الكائنات ؟
نشر في الحياة يوم 04 - 10 - 2000

من بعيد لاح كالكرة تتدحرج، لست أدري ماذا ارتدى ليصبح مكوراً كذلك! ولم أكن أدري أيضاً كيف كان بإمكانه أن يتحرك وهو يرزح تحت ثقل كل تلك الملابس! كان يتدحرج منذ أن نزل من الحافلة، ظننته أعمى، لم يبدُ من ملامحه أي شيء يميزه، وعندما اقترب لحظت ان من المستحيل أن يرى أي امرئ عينيه، فاليسرى كانت مخفية تحت لفاف وردي، واليمنى شبه مغطاة، لكنه يستطيع بالتأكيد أن يرى ما أمامه بها، وبدا فقدانه اختيار خطواته واضحاً، إذ كانت أمه تشد على يده المغطاة بالقفاز الوردي، وتسيره كيفما كان الشارع المغطى بتلك الطبقة الكثيفة من الثلج يسمح لها بالسير، في ممراته التي مهدتها خطوات من سبق، كنت أراقبهما من الطابق الثاني في المدرسة التي أجبرت أن أداوم بها وأنا في الستين، كما أجبرت أن أداوم في مثيلتها وأنا في السادسة، أعاد التاريخ نفسه بي بعد أكثر من نصف قرن، وأنا مرغم.
لم يكن في المدرسة كلها بين مئات الطلاب من هو أكبر مني سناً سوى إيراني، لا يظهر الا بمرافقة زوجته التي تحضر معه دروس المرحلة البدائية في تعلم اللغة الانكليزية. كنت أغبطهما من كل قلبي كلما أراهما، إذ لم يكن اهتمام زوجته الدائم به بخفي، تعدل رباطه، تنفض القشرة عن كتفيه، تزرر سترته وكان يبدو مستسلماً، مطيعاً، كأنه درج على ذلك منذ خلق، وفي المرات القليلة التي كانت تختفي، كان يبدو كطفل تائه، زائغ النظرات، ولا بد من أنهما كانا ميسوري الحال قبل الهجرة، فقد كانت تحاول أن تبدو كسيدة أنيقة، مهذبة قدر الإمكان، على رغم ضيق يد المهاجرين الذين كنت أعرف ظروفهم القاهرة، لكوني أحدهم.
أنهت المعلمة الدرس قبل وقته، طلبت منا أن ننزل الى القاعة السفلى حيث معرض "العالم قرية صغيرة"، وإذ هممت بالذهاب اجتذبني ما سمرني الى الشارع المغطى بالثلوج، كنت قرب جدار الغرفة الزجاجي الذي يمنحنا التعاطي مع الشارع بحميمية. الشمس مشرقة على رغم ان درجة الحرارة أقل من عشرة مئوية تحت الصفر، والثلج يعكس الضوء بقوة، وما إن اقتربت من الشباك حتى رأيت الكرة البشرية الصغيرة تتدحرج أمامي، وكانت أمه الممتلئة تتدحرج معه، عيناها ضيقتان، ووجنتاها بارزتان، مكتنزتان، في حمرة مكمودة أشبه بقشر رمان يابس، حمرة يكرسها البرد القارس، ولم تكن بأطول منه كثيراً، وربما تكدُّس الملابس على جسدها أعطاني الانطباع أنها قصيرة جداً، أقرب الى الاسكيمو منها الى مجموعة البشر القادمين من شتى بقاع العامل، والموجودين هنا.
راقبتهما بشغف، وتمنيت مرة أخرى لو أن كاميرتي معي.
في هذا اليوم افتقدت الكاميرا أكثر مما افتقدتها منذ مجيئي! لكني لم ابتئس، غطى انبهاري بجمال الثلج على هزائمي كلها، على بؤس وقبح الكون كله.
لكن مع ذلك لو كانت الكاميرا معي لسجلت ما أظن أنه متميز، ما سيبقي حياً بعدي.
كان بإمكان الكاميرا تسجيل ذلك الجمال كله أو بعضه، لم يدر بخلدي أنني سأصعق بمثل تلك الفتنة الأخاذة! ما الفائدة؟ آلة التصوير التي كانت أعز رفيقاتي ليست معي، لن يفيد التأسف، فقدتها، والأصح تركتها، تخليت عنها، كما تخليت عن الكثير مما أعتز وأملك! فماذا يحمل المهاجر المضطر معه؟ أيحمل غير الأماني؟ أيحمل غير الأسى والألم والضياع؟ ربما يتأسف، يبكي، يقتل نفسه، لكن مهما فعل فلن يستطيع ارجاع أي شيء من ذلك الماضي، فما ذهب مات، ولن يستطيع التحسر إعادة عقارب الساعة الى الوراء، كما أنه لا يستطيع أن يبني أي أساس للمستقبل في الوقت نفسه.
أسرني جمال ذلك اللون الأبيض يغزو الكون كله، فجأة بدا كل شيء يتشح بلون البراءة، ويزغرد بروح الطفولة، ما إن فتحت الباب في الصباح حتى ذهلت، الثلج الأبيض الناصع يغطي كل شيء، كيف سيطر البياض على العالم! أهذا معقول؟ أحدث ذلك كله في ليلة واحدة؟
أكان العالم يستعد لهذه اللحظة؟ منذ ثلاثة أشهر والأشجار تتغير، اصفرت أوراقها، احمرت، أصبحت برتقالية، رمانية، تشابكت عشرات الألوان في عرس طبيعي أخاذ! يا لروعة الشوارع والغابات مكللة بتلك الحمرة الأخاذة الآسرة وهي تكلل هامات الأشجار! ثم فجأة أخذ القبح يسيطر على كل شيء! طفقت أوراق الأشجار تتساقط، كأن ما حدث كان مؤامرة خفية ضد جمال الطبيعة، مؤامرة تتسلل خفية وفي ظلام! أكانت تلك الأوراق تعي ما تفعل وإلا فكيف نزلت من سمائها الى الأرض بتلك السرعة؟ كيف غطت الممرات؟ الساحات؟ الغابات؟ المنتزهات؟ غطت كل شيء، كيف سقطت من عليائها الجميل؟ كيف تخلت عن الأشجار وتركتها عارية، قبيحة؟ سمراء، دكناء، جافة، متغضنة، بلون الموت، وطعمه، ورائحته؟ ألهذا يطلقون على الخريف فصل الموت، عندما يقولون: إنه في خريف عمره!
هنا يسمون الخريف فصل السقوط، ربما لسقوط أوراق الأشجار بهذه الكثافة، أصابوا في ذلك، فليس مثل هذه الكلمة أبلغ في التعبير عن هذا الفصل، السقوط موت، الخريف موت، نعم صدقوا، بسقوط الأوراق بدت الأشجار غابة ميتة، أغصاناً سمراء، بنية، عارية، جرداء قبيحة، تتداخل، وتتباعد في فوضى غير منضبطة، تتمايل تارة مع الرياح التي تعصف بنوبات مجنونة ثم تهدأ، لكنها في كل الأحوال قبيحة، قبيحة جداً، حتى لأني في هيامي الشديد بالطبيعة كنت أحيد بنظري عنها ما إن أتطلع الى الأفق.
ثم انتهى الأمر فجأة الى نتيجة عكسية على غير ما كنت أتوقع، جلل البياض الناصع هامة الكون، كل شيء بات أبيض، ما هذا؟ أهو عرس الطبيعة في ليلة زفافها؟ أين كان كل هذا الجمال؟ أكان ذلك القبح وسقوط الأوراق مخاضاً لهذه الولادة الجميلة غير المتوقعة، أهذه مؤامرة أخرى؟ من يصدق أن الثلج تساقط في ليلة واحدة ليصبح في سمك يزيد على قدم؟
ما إن فتحت الباب في الصباح حتى أحاطني كل ذلك الجمال، أسرني، استعبدني، لا... لن أغادر مكاني، سأبقى، لن أذهب الى معرض "العالم قرية صغيرة" سأبقى واقفاً هنا أهيم به، كل شيء أبيض، كل شيء ناصع، كل شيء من الثلج، تخلت الأشياء عن أشكالها وخصوصياتها، أسلمت قدرها للثلج يشكلها، يلونها باستهتار مدروس، الأشجار العارية أصبحت بيضاء مثقلة بالثلج، أسلاك الكهرباء، المداخن، أسطح البنايات، الشوارع، السيارات، ثم تلك الأشياء الصغيرة التافهة التي لا تجلب النظر: المكانس المسندة الى الحيطان، عربات الأطفال قرب الأبواب، فردة نعال مهملة لطفلة على السياج، مظلات الأبواب، الكرسي التي كانت تجلس عليها الهندية الشابة الممسوسة، تجلس، تغني أغاني شابي كابور، ثم فجأة تطفق ترقص، فتخرج أمها التي تبدو وكأنها تراقبها من زجاج النافذة، تخرج بقامتها العجفاء راكضة، متشحة بكوفية من الموسلين الرقيق الأبيض، وهي تهدر بأدعية، وتلاوات غير مسموعة، وتنظر الى السماء، وما إن تصل اليها حتى تعانقها، ثم تدخلها الى البيت، في الطابق الأرضي، من دون أن تنظر الي وأنا أتلصص بأسى عميق الى ابنتها الحلوة في نوبات جنونها من الطابق الثالث، أو الى الآخرين في الطوابق الأخرى، وكنت أسأل نفسي لماذا لا يتركونها ترقص؟ لعل الرقص يفيدها.
حتى تلك الحفرة في وسط الشارع، قولبها الثلج كما هي من دون زيادة او نقصان، ثم أجمل منظر رأيته في ذلك اليوم، دراجة هوائية من الثلج، من يصدق؟ كانت دراجة الجار الهوائية المهملة مربوطة بقفل كبير الى درابزين الممر المؤدي الى شقق الطابق العلوي، الثلاث، المطلات على الشارع، وحينما سقط الثلج اختفت الدراجة المعدنية، أصبحت هي والمشبك الحديدي، والقفل، والمقعد، والقضبان، والدواسات، وجرس الانذار قطعة من الثلج.
مثل هذه الصورة النادرة، الفريدة، لا يمكن أن تتكرر، هي التي يبحث عنها المصورون المحترفون ليخلدوها.
آه لو كانت الكاميرا معي؟
لكن أين صديقي الصغير، الجميل، الفاتن؟ أقتله الثلج أم ما زال حياًَ؟ أين ذلك السنجاب الأشهب الذي كنت أحلم أن أخلده بصور عدة، تجعله أشهر وأجمل سنجاب في تاريخ العالم.
شيكاغو بلد السناجب الشهب التي لا يمكن أن يحصى عددها، تراها في كل مكان، تتجول، تتمشى، تركض، تعبر الشارع بحرية، تتسلق الأشجار بخفة شبح! تكاثرت بهذه الأعداد الهائلة ربما لأنها محمية قانوناً، سناجب جميلة، لكن سناجب بلادي، في كردستان أجمل، أحلى، وهي في طريقها للانقراض، لأنها غير محمية، كانوا يأكلونها في أيام الخير، فماذا يفعلون والجوع يأكلهم منذ عقدين؟ في شيكاغو لون السناجب واحد: أشهب، يختلط فيه البياض الغالب بالسواد، يطلقون عليه في الموصل "رز وماش".
عندما كنت طفلاً صغيراً أراني زميل في الابتدائية سنجاباً، جلبه له ذووه من جبال كردستان، سلسلة جميلة ذهبية رقيقة تلتف حول رقبته، لست أدري كم قضى السنجاب عند صديقي الثري لكي يعتاد عليه؟ يقف على كتفيه، يمشي على ساعديه، يأكل من يديه، ما زلت أتذكر، هتاف صديقي:
- شُف كيف يكسر البندقة! كيف يكسر الجوزة!
يهتف صديقي بذلك، وعيناه تلمعان، والسنجاب يجلس على مؤخرته، ويمسك الجوزة بكلتا يديه كطفل صغير، ويبدأ بقضم الغلاف الصلب، وعيناه الجميلتان تنتقلان في كل مكان، لا تستقران على شيء.
يا له من حيوان رائع في كل ما للكلمة من معنى، كل ما فيه فائق الفتنة، عينان قهوائيتان، تضحكان، كبيرتان بالنسبة الى جسمه، فروٌ كالزغب، خفيف، دافئ، مخملي الملمس، لا يمكن ان يصف أحد ألوان فرائه، أو جمالها، تتراوح بين البرتقالي، والبني، والقهوائي، والأبيض، اسنان صغيرة بيضاء تلمع منضودة بقوسين ساحرين، اما اجمل ما فيه فذيله المنفوش، يا للجمال! ألف لون ولون!
كنت أراقبه، يخرج من مكمنه الصغير في أعلى عمود الكهرباء، يتبختر بهدوء على طول السلك الكهربائي الطويل، ثم ينزل الى الأرض، يصعد الى السياج الذي يفصل بنايتنا عن الاخرى، يقطع الفناء الذي يمتد اكثر من عشرة امتار بخفة البرق، يتسلق الجدار الثاني، يختفي برهة تطول وتقصر، لا ادري اين يذهب، ثم يرجع، يتسلق عمود كهرباء آخر، يبعد عن العمود الأول الذي نزل منه اكثر من عشرين متراً، ليعود الى مخبأه من ناحية ثانية، وسلك كهربي آخر، قاطعاً ما يزيد على مئتي متر، في جولة تستغرق نصف ساعة او اكثر، يعود وفي فمه شيء ما، وعندما دققت النظر في ما بعد لحظت كوز صنوبر، لست أدري من أين حصل عليه، لأني لم أر أي شجرة صنوبر في حدود نظري في مكاني العالي، ربما يعرف واحدة في مكان ما لن أستطيع رؤيتها خلف العمارة.
كيف يقولون ان للانسان والقرد وحدهما عقلاً متطوراً يدرك العلاقة بين الأشياء؟ كيف إذاً تمكن هذا السنجاب من ادراك طريق عودته الذي يختلف عن طريق ذهابه؟ دائرة مملوءة بالحواجز والجدران والعقبات!
ومن دون شعور تساءلت: إن كان سنجاب بلدي اعتاد على صديقي فلم لا يعتاد سنجاب شيكاغو عليّ؟
وضعت في طريقه حفنة من البندق المقشر، لأني لم اجد جوزاً، أو بلوطاً، أو كستنةً، أو حتى بندقاً غير مقشر، وكنت يائساً من محاولتي، فمثل هذا الحيوان البريء لا يعرف الدلال! لا يستسيغ بندقاً يقشره له غيره، قلت مع نفسي لأحاول، ولم يكن لي من الوقت ما يمكنني من مراقبة ما يجري، لكني اكتشفت في اليوم التالي ان كل البندق اختفى، ففرحت، وعندما تكرر ذلك رصدت اوقات خروجه، وقفت كخيال المآتة، كالصنم، انتظر وأراقب، في راحتي حفنة البندق، ثم أدركني اليأس، قررت ان انسحب، لكني تصابرت، بعد وقت ظننته دهراً احسست بالشعيرات التي تحيط فمه تلامس راحتي، تنفست الصعداء، ها هو يتطبع، اذاً هكذا كانوا يصيدونه في بلدي! يستحلون دمه ولحمه! بعد محاولات عدة اصبح صديقي، ينتظرني فوق الجدار، ما إن يراني حتى يقفز، ويسرع، لكنه لا يطيل الانتظار، اذا لم اظهر في خلال بضع ثوان يختفي، تصرفات سيد مهذب، يعرف قدر نفسه، ثم توقفت عن امداده بأي شيء، لأني لحظت بعض النسوة يتلصصن عليّ وأنا واقف قرب السياج، في أعينهن نظرة شك، ربما أصبحن يتوقعن أن عدد المجانين في عمارتهن ازداد واحداً! ربما شيء آخر! من يسبر أعماق الآخرين؟ لكني ظللت أراقبه عن بعد، ثم رأيت بعدي عنه أفضل من قربي، كي لا اعوده على الاعتماد على الغير الذين ربما يبيتون له شراً.
عندما قال لي "قبل سنين" صديق آخر، أربيلي، انهم كانوا يصيدونه، ويأكلونه، احتقرته، وقطعت علاقتي معه، كيف يمكن ان يؤكل مثل ذلك الحيوان الجميل الرائع؟ وعلل ذلك بأنه كان ينافسهم على أكل البلوط الذي يرتزقون منه.
ثم احتقرت صديقاً آخر لأنه كان يصيد الحمام، وثالثاً كان يتمزمز في أكل العصافير اثناء الشرب، لكني توقفت عن معاداة الناس، وتصالحت مع الجميع، فلكي أعيش كما أهوى عليّ أن أنعزل في جزيرة وحدي، أو انتحر، وليس ذلك بمتيسر على الاطلاق، لأني لا املك ما يمكنني من شراء جزيرة، كما لا توجد عندي الشجاعة التي تمكنني من الانتحار.
لكن أين سنجابي وسط كل تلك الثلوج التي غمرت الكائنات كلها؟ أكلني القلق عليه، أهو حي؟ ميت؟
البرد يقتل البشر هنا، فكيف بحيوان ضعيف رقيق؟
كنت أود ان أصوره وهو يأكل من راحتي اليمنى وأنا أرفعها فوق الجدار الذي يعلو رأسي بقدم، وكنت اعتقد ان المنظر سيكون رائعاً، سنجاب يأكل من راحة انسان لم يره! ثم ضحكت على خيالاتي! أما الآن فقد تنازلت عن احلامي، بت أود ان أراه حياً فقط.
لا لن أبقى واقفاً في مكاني أتذكر وأتحسر!
سأذهب الى المدرسة، الى معرض "العالم قرية صغيرة".
مرة اخرى يقتحم السؤال دماغي:
أأذهب من دون كاميرا؟
وماذا لو شاهدت مناظر رائعة كهذه! كيف سأسجلها في محيطها ودلالاتها من غير آلة تصوير؟
كنت لا أسير خطوة الا وهي معي، كانت رفيقتي في السفرات والرحلات، وسيلتي للتغلب على الزمن وإيقافه، لكني الآن وحيد من دونها.
صورت مرة عشرات الآلاف من الخفافيش تنطلق قبل الغروب من سوق مسقوفة بالحصران، في مدينة صغيرة جنوب وطني، رأيت الخفافيش تنطلق كغمامة سوداء تغطي الكون، تخرج في وقت واحد عند الغسق، وتسوده قبل سواد الليل، تنطلق كلها مرة واحدة، وفي دقيقة معينة تضبطها ساعاتها الداخلية، ما كنت أتصور ان هناك مثل هذا العدد الهائل من الخفاش في أي منطقة من العالم! فحينما تخرج تغطي سماء السوق بلونها الأسود، وهي على كثرتها لم يكن يلتصق الواحد منها بالآخر، أو يلامسه، بل كان كل واحد يترك مسافة بينه وبينه زميله لا تقل عن بضعة مليمترات او تزيد، كمنت لها وصورتها بعشرات الصور، بعدسة مقربة، وهي تغطي السماء.
قال لي احد المهندسين الذين تخرجوا في أوروبا:
فقط لو تكبر هذه الصور وترسلها الى مسابقة "كذا" المشهورة في ايطاليا؟ ستفوز حتماً.
أعطيتها مع مجموعة من النقود الأثرية، رومانية وساسانية وعباسية لقريب لي سافر الى أوروبا، وظللت بضعة اشهر احلم بالمجد الذي ستقودني الصور اليه، الكنز الذي ستجلبه النقود القديمة لي، ثم سمعت ان ذلك القريب وقع في قبضة لصوص "اخوة" عرب، قدموا له قنينة مرطبات، خدرته، سرقوا منه كل شيء حتى جواز سفره.
ألن تنزل الى القاعة السفلى لترى معرض "العالم قرية صغيرة".
عاد صوت المعلمة الرقيق يدعوني، انا ضعيف مع النساء، تظاهرت بالموافقة، نزلت، خضم هائل من الحاضرين، لكن اجمل ما فيه اطفال من بلدي، من فلسطين، من إيران، افغانستان، كوبا، غواتيمالا، مصر، فيتنام، من كل الدول التي أذلت وقهرت يوماً ما، نكبت بالحرب، والتشتت، والظلم، والجوع، لم اجد اي طفل اميركي، أو أي طفل من دول الدلال والغنى: ألمانيا، اليابان، انكلترا، أوروبا الغربية، لِمَ لم يحضر هؤلاء، أبأطفال الفقراء فقط يصبح العالم قرية صغيرة؟
غلبني صراخهم، حركاتهم، فرحتهم، لعبهم، افتقدت مرة اخرى الكاميرا، لم استطع ان اتحمل رؤيتهم وهم في قمة سعادتهم من دون ان أخلدهم، انسللت خارجاً، تركت معرض "العالم قرية صغيرة".
* كاتب عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.