إلى عبدالفتّاح وبدران ومجدي أبو زيد كنت أسمع حديثه الغريب، وأنا أدفع النقالة، منتظراً انتهاء العملية الثالثة، وكنت مهتماً بالسيدة الحسناء، ذات الشعر الأصفر، الذهبي، الصافي، ينتشر حول كتفيها، بفتنة تخلب اللب، كأسلاك حرير نادر لا يقدر بثمن، وكنت استنشق العطر النادر يفوح منها بسخاء. لا بد انها فاحشة الثراء، أبسط عملية عندنا تكلف عشرة آلاف دولار. كانت تبكي، ولم يتيسر لي النظر الى عينيها، لأتبين لونهما، إذ قدرت انهما زرقاوان، كمياه البحيرة العظمى التي تقع الى اليسار، على بعد أقل من مئة متر. البارحة فقط سقط الثلج مبكراً، ما زلنا في الأسبوع الأول من كانون الأول ديسمبر، غمر كل ما تقع عليه العين. هبت الرياح شديدة، انخفضت درجة الحرارة الى ما تحت الخمس عشرة مئوية. ابتأست، انقبضت روحي، أتختفي الشمس؟ أيجتمع الزمهرير وذلك اللون الرمادي المقرف؟ لا هذا كثير! لكني فوجئت بأشعة الشمس تزغرد صباح هذا اليوم، بالضوء يغمر الكائنات، يعطي الثلج صفاء لم يحلم به، من يصدق: شمس مشرقة في درجة حرارة متدنية كهذه؟ هرعت قبل أن أبدأ عملي، للنظر الى البحيرة، الله! يا للزرقة الخلابة، المدهشة، لا أجمل منها غير عينين زرقاوين، ثم غمرتني أعباء العيادة، والعمليات، وأوامر الطبيب الصيني، والتعقيمات التي تسبق العمليات، واستقبال الجراح، وطبيبة التخدير البدينة... لم أدرِ كيف مضى الوقت! خمس ساعات كاملات مرت كدقيقة واحدة، ثم انتهت، بعدئذ بدأت أتلهف لرؤية عيني الشقراء، لتكتمل الصورة امامي بسروال أبيض، صدرية من الأوركنزا السماوية، وقميص من اللون نفسه... كانت تبكي بمرارة، وتمسح عينيها، بين الفينة والأخرى، ولولا اضطراري الى دفع النقالة الى غرفة العمليات لتوسلت بألف حيلة وحيلة للتقرب إليها. قبل اكثر من سنة، قدمت علبة محارم ورقية لفاتنة أخرى، كانت تبكي هي الأخرى، قلت: رجاء. تناولته مني وقالت وكأنها تناجي حبيبها: كم أنت رقيق. ثم تجاذبنا حديثاً طويلاً، لكني وأنا أفكر في هذه، وكيف أخترق عالمها، سمعت حديثه الغريب: - كم مرة قلت لك: يا مرزوق لا تركض وراء شهواتك؟ لماذا لا تتعظ! لا أستطيع ان أذهب بك كل يوم الى طبيب! أحمد الله أنك لم تصب بالإيدز! أكدوا لي، العملية بسيطة، ليست غير خمس دقائق، تصور... تخدير موضعي، ثم ماذا تريد؟ أطفال؟ أي مثقف يريد أطفال؟ المجنون فقط، ما لك ووجع القلب؟ أنت شاعر وتريد أطفالاً؟ تريد وجع القلب؟ كم كنت معجباً بالمعري؟ كم كنت تمتدحه قبل ان تمسخ؟ أتستحق الحياة أن نعذب بها الآخرين؟ لماذا لم أتزوج أنا؟ أنت تعرف؟ ألم تتفق آراؤنا على أن الحياة كالموت سواء بسواء؟ ألم نتفق على أن الإخصاء خير لعالم الحيوان والإنسان على السواء! لا تبتئس، الخطأ خطأك، لست بصغير؟ كم مرة نصحتك، لم تستجب، انت في الخامسة والأربعين. التفتت الشقراء. قالت للرجل، وهي تشير الى النقالة: - أهو نبيل؟ رأيت عينيها على رغم تأثير الدموع، ليستا زرقاوين، ولا خضراوين، ولا صفراوين، فيهما من كل لون شعاع خفيف، تتألقان كنافذتين ساحرتين، على رغم البكاء، في وجه ملائكي، ولم يفهم الرجل، ولا أنا، وربما حتى المريض، ماذا كانت تقصد، فابتسمت ابتسامة خفيفة: - أتحتفظ بشجرة عائلته؟ لم يدرك قصدها، وخمنت أنها اسكتلندية الأصل، فهناك لكل عائلة علم، وطراز لباس تقليدي، وشجرة عائلة، ثم أدركتْ أنها لم تستطع أن توصل ما تريد. نبرت موضحة: - كيف يكون عمره 45 ولا يكون من عائلة متميزة؟ ابتسم الرجل: - هه... أنت صادقة... لكن هذه النقطة ضمن القصة. ولم أفهم ما عنى، ثم قهقه، نظر الى النقالة: - لا... إنه من أصل وضيع، لكنه شاعر. ثم التفت إليه: - معتوق... لا تزعل، أبوك رجل مغمور، ليس بنبيل. وإذ رأى نظرة المريض المتعكرة، قال: - في الحقيقة لا أعرف بالضبط، فأنا لم ألتق أباه إلا بضع دقائق بعد الحادثة. - ما اسمه؟ - معتوق؟ رددت: ماتوك. - لا معتوق. - يا له من اسم صعب، متوك. - لا. - مفتوك؟ - لا. ضحكت، وهي تردد، مفتوك.تحاول أن تتغلب على صعوبة لفظ العين، قال: - اسم عربي؟ كان الرجل يلفظه جيداً، ولم أستغرب، رأيت الكثير من المستعربين هنا. - كم سنة وهو معك؟ - عشر سنوات، منذ حرب الخليج الثانية، هناك التقيته. ثم نظر إليه: - أليس كذلك؟ أغمض المريض عينيه موافقاً، وعادت الى النقطة نفسها. - إذاً كيف يكون عمره 45 سنة ولا يكون من سلالة نبيلة معروفة، معمرة؟ - إنها قصة طويلة، كتبتها آنذاك في شيكاغو تايمس. صعقت المرأة، هتفت: - إذاً أنت صاحب الكلب! أنت مسؤول الCIA؟ مستر مايلز! يا للمصادفة! أي ريح طيبة! - نعم... أنا. - منذ أن رأيتك أسأل نفسي: أين رأيت هذا الوجه؟ من المستحيل ان يتذكر المرء الملامح بعد عشر سنوات! لكني ما زلت لا أصدق. - حتى أنا. أنا أيضاً تذكرت القصة، وأنا أراقبهما، لكني مثلها لم أتذكر الوجه، فقد نُشرتْ في أكثر من صحيفة، ثم تناقلتها غير قناة تلفزيونية، لكني كنت شبه مخدر من أثر الأحداث، والقصف، والدمار، والمذابح، والمآسي، لم أتذكر ملامح الرجل، ولولا أن الحسناء التي أمامي ذكرت اسم مايلز لما تذكرت، كان مايلز بطلاً لقصة أطفال، في قراءة الابتدائية، ما زالت عالقة بأذني، ومن هنا ارتبط الاسم الجديد بالقديم في الذاكرة، تصورت لحظتئذ انها قصة مزيفة من احابيل السياسة، لإبعاد الرأي العام عن مآسي الحرب. ثم فُتح باب غرفة العمليات، فاندفعت الشقراء الى النقالة الخارجة، هتفت بجنون: - أهو بخير؟ ولما لم يجبها دافع النقالة، كيم كين سو، بأي كلمة، هجمت على المريض، أشبعته قبلاً، كان ما يزال تحت التخدير. سأل الرجل: - ما به؟ - التهاب رئوي، سحبوا منه ماء في الرئة، جو شيكاغو المتقلب، التعس، سيكون بخير، أكد الطبيب ذلك، إنه أمير من سلالة ملكية، عندي شجرة العائلة، أصله من فرنسا، سيعمر من دون شك. كنت أراقب الضوء الأخضر، فوق باب العمليات، لأدخل بالتالي، لكن نباح ثلاثة كلاب ارتفع في داخل العيادة، وتوقعت ان يأتي الدكتور واغنر ليطلب مني أن أذهب فأسكتها، لكنه لم يفعل، وإذ اطمأنت المرأة على مريضها، ابتسمت من جديد، احمرار بسيط في عينيها من أثر البكاء، كان كلبها مغمض العينين، يتنفس بهدوء وعمق، كأي حيوان تحت تأثير المخدر، بينما لاح شيء من الفزع في عيني الراقد على محفتي، وهو يتوقع أن أدفعه بين لحظة وأخرى الى غرفة العمليات، فتركت الحسناء مريضها، وربتت على وجه معتوق، قالت: - إنه خائف. - جبان. - لا... أنظر هذه الصور، كل من ينظر إليها يرتعب. كانت على حق، الممر الى العمليات مغطى بصور ملونة: القلب، الرئة، الأمعاء، بقية الأحشاء الداخلية. انتقدت ذلك امام الدكتور واغنر، وطبيب العمليات لينوردو، من يرى هذه الرسوم وهو سليم يرتعب، فما بال المريض؟ لكنهم لم يلتفتوا إلي، وبالفعل تناول كيم كين سو، النقالة مني، لم يكن يظهر من وجهه سوى عينيه، وأذنيه الحمراوين، إذ كانت الكمامة تغطي فمه، وحنكه، بينما احتلت القبعة جبهته حتى حاجبيه، واختفيا، قالت المرأة: - حاولت الاتصال بك حينئذ، لكن الصحيفة لم تعطني الرقم، قلت إنها قضايا أمنية، رجل مهم مثلك يجب أن يحموه، كما أن اسمك لم يكن في دليل التلفون. هز مايلز رأسه، لم يعقب، كان علي أن أسحب النقالة التي يرقد عليها الأمير، الى غرفة الاستراحة، فقد تعهدت الحسناء، أن تعتني به في البيت، بعد أن يفيق من تأثير المخدر. وتعمدت أن أسير ببطء، لأتسمع حديثهما، وأهيم سابحاً في بحر عطرها الفواح، كانا يسيران خلفي. - ماذا كنت تريدين أن تعرفي بالضبط؟ التفت إليها، رأيتها محرجة، يتدفق الدم من وجنتيها، الشهيتين: - أصحيح؟ لم تزد، اضطرب مايلز، كان طويلاً، غير ممتلئ وربما كان يضع باروكة على رأسه، لأن لون لمته أشقر، بينما تلصص بوقاحة بعض شعر فوديه من تحتها أبيض، ناصعاً: - أتصدقين؟ حتى أنا الى حد الآن لم أعرف، كان مستهتراً بشذوذه، ولكنه كان مفيداً لي جداً، كان يستطيع ان يأتيني بما أطلب، لهذا أبقيته معي، وعندما ذكروا لي قدوم الساحر المغربي، ومقدرته على مسخ الناس، لم أصدق، كان ما يلفت النظر عمامته الكبيرة البيضاء، أتذكر أنه لم يصافحنا على عادة العرب، ذهب اغتسل أولاً ثم صافحنا، لماذا؟ لا أدري. في الخمسينات عينان كستنائيتان نفاذتان، أقامت له القبيلة وليمة كبيرة، حضرها العشرات، وفي اليوم التالي، كنا نحن الثلاثة في خيمة وحدنا، عند ذاك تحدى معتوق الساحر ان يمسخه كلباً، ربما من أثر الشراب، معتوق مولع بكل الممنوعات، والضارات، يقول إنها تستجلب شيطان الشعر، لكن الساحر لم ينجر الى التحدي حالاً، قال: حرام. طفق معتوق يسخر منه، وبشدة: حرام... يدعي السحر، يكذب، يغطي أكاذيبه بالتدين، يقول حرام، هه... هه... أكد الساحر: نعم حرام. قال له معتوق: أنت وسحرك في قفاي. أدار له مؤخرته، وضرب عليها بقوة. رأيت الساحر يمتعض، لكنه ابتلع الإهانة بنوبة سعال مفتعلة، مصحوبة ببسمة ثم نهض غاضباً. تفرقنا، بقي معتوق وحده في الخيمة، وحينما جئت في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كان معتوق لا يزال نائماً، لكني سمعت صوتاً غريباً في داخل الخيمة فجراً، فتحت عيني، رأيت الكلب، حاولت أن أطرده، لكنه مانع، عدت الى النوم، لم يخطر ببالي قط إنه معتوق، في الصباح نسيت القصة، قلت ذهب معتوق الى حاجة ما، لكني بدأت أقلق عندما حل المساء ولم يعد، كان الكلب يجلس في الأمكنة التي كان معتوق يجلس فيها، وعندما ينام ينطرح على سريره، ولا يأكل ما يرمى إليه، بل يأتي، ويجلس مكان معتوق على المائدة، وعبثاً كانت تنتهي عمليات طرده، يعود باستمرار. جاء أبوه، عائلته، معارفه، تشكلت فرق للبحث عنه، انتشرت شتى الأرجاء، لم نعثر على شيء، بعد ثلاثة أشهر، رجعت الى الولايات. رددت: 45 سنة. - هز مايلز رأسه: نعم... تجاوزه ال45 معجزة، كما قلت، لا تتأتى الا لسليل أسرة متميزة. بقية القصة في الجرائد. أخذت ذاكرتي تسترجع بعض التفصيلات، كيف وصف معتوق في الجرائد، كان يفهم كل ما يقال له، وعندما يطلب منه ان يلقي قصيدة له، كان يجلس على مؤخرته، ويحرك يديه كأي شاعر، ويهمهم همهمة نغمية، لم يكن ينبح قط، عدد مايلز مئات الأعمال التي كان معتوق - الكلب - يقوم بها، والتي لا يستطيعها غيره! وعاداته البشرية، ومقدرته على الكتابة باللغتين العربية والإنكليزية و... - ألم يأتكم شيء ما من أخبار معتوق الأصلي؟ ألم تعثروا عليه؟ خَجِلت، ربما أحسست بتفاهة السؤال، قال: - لا... لم يجد جديد. - والساحر؟ - اختفى في صبيحة اليوم التالي أيضاً، لم يره حتى الذين جاؤوا معه، أحد قصاصي الأثر قال إن آثار قدمي الساحر وجدت على بعد مسيرة عشرة أيام، مرفقة بآثار أقدام مجهولة، وما كان بإمكانه أن يرى آثار قدمي معتوق، لأن إعصاراً مرّ من فوقنا، دام أقل من دقيقة محا كل الآثار في منطقتنا. ضحكت الحسناء: - وأنت؟ أتصدق؟ - بيني وبينك لا، ونعم... مات أبوه في الستينات من عمره، وأمه ما زالت حية، هي الآن في السبعين، إن بلغ ذلك المستوى فربما يكون حقيقة، لننتظر، من يدري؟ لكني لا أعرف هل سأعيش الى ذاك الوقت. - أيمكن ان تقدم لي معروفاً؟ - ماذا؟ - أحب أن أصور له لقطة فيديو وهو يقرأ إحدى قصائده. قهقه الرجل من كل قلبه: - لا بأس. ناولته بطاقتها، والفرحة لا تسعها، وهممت أنا أيضاً أن أطلب منه ان يسمح لي بالحضور، لكن قوانين العيادة، التي تحرم الاتصال بالزبائن، منعتني. * كاتب عراقي.