سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مستشار الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف كارين بروتينتس : في التيه العربي . أعلنت عدن الحزب الاشتراكي خلافاً لارادتنا واعتبرنا الخطوة غير مناسبة في العالم العربي والاسلامي 3 من 5
في العهد السوفياتي كان مقسم الشؤون الدولية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مطبخاً فعلياً لصنع القرار السياسي. وكان كارين بروتينتس نائباً لرئيس هذا القسم ومسؤولاً عن ملف الشرق الأوسط والبلدان النامية عموماً، ثم غدا مستشاراً للرئيس ميخائيل غورباتشوف وبتكليف منه قابل العديد من الرؤساء والساسة العرب. وتكشف مذكرات بروتينتس 74 سنة جوانب خفية من سياسة الكرملين حيال الشرق الأوسط وافغانستان وتسلط الاضواء على أوراق ظلت مطوية. الحديث عن علاقاتنا بالاحزاب الشيوعية العربية ذو شجون. فعلى رغم الانتعاش الذي رافق تلك العلاقات الا انها كانت في الغالب عادية تفتقر الى المضمون السياسي العميق فيما يتعلق بمشكلة الشرق الاوسط. وكما هو حال الشيوعيين في اميركا اللاتينية كانت الاحزاب الشيوعية العربية موالية للحزب الشيوعي السوفياتي، الا انها من دون مواقع قوية في بلدانها، ما عد الحزب الشيوعي السوداني والسوري والعراقي في بعض الاوقات. كان الحزب الشيوعي السوداني يتمتع بمنزلة كبيرة ويحسب له الجميع، حتى "الاخوان المسلمون" حسابه. الا انه "تعثر" لخطأ جسيم هو مغامرة قيادته بالمساهمة في الانقلاب ضد جعفر النميري، ما ادى الى ابادة الكوادر الحزبية ودفع نميري الى احضان الاميركان. وتعرض الشيوعيون العراقيون للبطش والتنكيل من جانب مخابرات صدام حسين، فلم يتمكن الحزب من استعادة قواه بعد الضربة القاسية. وركز نشاطه اساساً في كردستان. اما الشيوعيون السوريون استنزفوا قواهم في الانقسام الذي اسفر عن قيام حزبين متنافسين. وكان الحزب الشيوعي اللبناني يعوّض عن ضعفه النسبي بنشاطاته على صعيد العلاقات الدولية. ولم يكن ضعف الاحزاب الشيوعية العربية مصادفة. ويعود سببه الى الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتخلفة وغياب الايديولوجية الحزبية الرسمية المناسبة لتلك الظروف، وعمق العقيدة والتقاليد الاسلامية وتعارضها مع إلحاد الشيوعيين. الى ذلك عجزت الاحزاب الشيوعية العربية عن الرد على اتهامها بانها كانت طوع بنان موسكو. وفي هذا الشأن لا يجوز المبالغة في تأثير الحزب الشيوعي السوفياتي على الشيوعيين العرب وخصوصاً في المسائل "الداخلية". فان مشاركة الشيوعيين السودانيين مثلاً في محاولة اطاحة النميري جرت خلافاً لخط الحزب الشيوعي السوفياتي في التعاون مع القوميين العرب. وفي الثمانينات لم نتمكن من اقناع الشيوعيين العراقيين بانزال وشطب شعارات النضال ضد "الحرب العدوانية" والدعوة لاسقاط النظام بعد ان احتل الايرانيون جزءاً من اراضي العراق. كان حقدهم على صدام حسين شديداً للغاية. وعجزت موسكو آنذاك عن اقناع الشيوعيين السوريين بالمصالحة والحيلولة دون الانقسام. وفي الستينات صار جورج حاوي اميناً عاماً للحزب الشيوعي اللبناني مع ان موسكو لم تكن معجبة به. الا ان الاحزب الشيوعية العربية والحق يقال كانت تعمل في اقسى الظروف. كنا في علاقاتنا مع الشيوعيين العرب نهدف، ربما بشكل غير واع تماماً، الى بناء سند متين لنا في بلدانهم. وكان يسود تلك العلاقات طبعاً روح الزمالة الرفاقية، والمشاطرة في القضية المشتركة على رغم ميوعتها وغموضها. الا ان الصفة المشتركة في تلك العلاقات هي الروتين والممارسات المعلوكة. واعترف باننا لم نكن على علم جيد بالوضع في الاحزاب الشيوعية العربية. فان قادتها كانوا يزودوننا بمعلومات محدودة بل ومزوقة لاغراض محددة في انفسهم. وكانت اتصالاتنا مقتصرة على القيادات التي لم تشجع الخروج بها عن ذلك الإطار، وكانت لنا في تلك الحقبة اتصالات متقدمة مع بعض الأحزاب الحاكمة في الأقطار العربية، إلا أن العلاقات عموماً كانت شكلية في جوانب عديدة، يستثنى من ذلك سورية التي كانت العلاقة معها موفقة من أواسط الخمسينات، واتسع نطاقها من بداية السبعينات قامت العلاقات بين الحزبين الحاكمين في سورية والاتحاد السوفياتي منذ العام 1967. وقابلت موسكو حركة تشرين الثاني 1970 التي حملت الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة بمنتهى الحذر. إلا أن رئيس الوزراء يوسف زعين اقنعنا بتواصل السياسة السورية. وكان عبدالله الأحمر نائب الأمين العام لحزب البعث العربي الذي رافق رئيس الوزراء السوري في زيارته لموسكو في شباط فبراير 1971 جاءنا إلى قسم العلاقات الدولية وتحدث مع بوريس بونوماريوف، حتى ان السوريين طلبوا مناهج التدريس في معهد العلوم الاجتماعية في جميع المواد بما فيها الماركسية اللينينية. وتوارد على الاتحاد السوفياتي عدد كبير من الطلبة السوريين إلى درجة أن المؤسسات التدريسية السوفياتية أعدت في الفترة حتى العام 1992 أكثر من 40 ألف خريج واخصائي من مختلف الدرجات العلمية. والكثيرون منهم يشغلون حتى الآن مناصب حساسة في الحزب والدولة. ومن بين أعضاء القيادة القطرية الثمانية يتكلم أربعة اللغة الروسية. وعندما حدثت القطيعة بين موسكو والقاهرة غدت سورية الحليف الأول للاتحاد السوفياتي في المنطقة. وفي كل ما يتعلق بالعالم العربي كانت موسكو تصغي بانتباه إلى وجهة النظر السورية مع أنها لم تكن تتبناها دوماً. وأحياناً كنا نفضل ألا نؤيد منظمة التحرير الفلسطينية في علاقاتها مع دمشق على رغم ادراكنا أن الحق ليس مع السوريين. كانت علاقاتنا مع سورية متشعبة ومتعددة الجوانب، إلا أن ارساليات السلاح في السبعينات كانت كبيرة جداً، حتى اننا زودنا السوريين بآليات متقدمة نسبياً لم نكن قدمناها لغيرهم من العرب. بدأ ذلك من زيارة يوسف زعين الذي جلب قائمة من الطلبيات العسكرية الضخمة إلى درجة جعلت ليونيد بريجنيف يقول له: "كنت متوعكاً ممداً على السرير، وعندما علمت بقائمتكم تدفق الدم في رأسي حتى نهضت على قدمي". ورد عليه زعين من دون ارتباك بما معناه: طيب صرنا نعرف كيف نجعل فخامة الأمين العام ينهض على قدميه. وازداد بشكل ملحوظ عدد المستشارين والخبراء العسكريين السوفيات، وظهرت وحدات الدفاع الجوي السوفياتية في الأراضي السورية. وفي العام 1979 بعثنا إلى سورية فوجاً صاروخياً نقل موقتاً إلى لبنان على رغم ان ذلك كان ينطوي على خطر مواجهة مباشرة بيننا وبين إسرائيل وأخذ بحارتنا مواقعهم في اللاذقية. وبهذا المعنى لم يتقيد الزعماء السوفيات بالحذر الذي دأبوا عليه، ما يدل على قيمة سورية البالغة بالنسبة إلينا. وعلى رغم ذلك، لم تكن العلاقات مع سورية خالية من الشوائب. فالأصعدة المتوسطة من قيادات البعث والضباط كانوا يثقون بنا، أما صنّاع القرار السياسي وكبار الجنرالات فكانوا بالطبع يحافظون على مسافة معينة بيننا. كان الاتحاد السوفياتي على خلاف جدي مع دمشق في ما يخص العراق. فلم نكن نجد مبرراً للتشديد على معاداته اللهم إلا التناقضات القومية والشخصية التي علت على مصالح الأمة العربية. ولم تكن وجهة نظرنا متفقة مع السوريين في شأن لبنان. فالقيادة السورية كانت في قرارة نفسها تعتبره دولة مصطنعة طالما أنه جزء من بلاد الشام اقتطعه منها المستعمرون. وكانت تصرفاتها في لبنان ذات صفة قسرية أحياناً وما كان بوسع موسكو ان تؤيدها دوماً. وظهرت بيننا تناقضات في خصوص الحرب العراقية - الإيرانية، حين رفضت دمشق، وان بصيغة مؤدبة، محاولاتنا لاقناعها بضرورة العمل على انهاء تلك الحرب. ولم نكن نرى مبرراً للعداء السوري تجاه ياسر عرفات. وحتى التعاون العسكري ما كان يخلو من شوائب. فالسوريون انطلاقاً من مبدأ "التوازن الاستراتيجي" مع إسرائيل، طلبوا كميات متزايدة من السلاح، بينما كانت موسكو واثقة أنها زودت سورية بما يكفي ويزيد. إلا أنه كانت هنالك مع الأسف تعقيدات ومضاعفات ما أنزل الله بها من سلطان. ففي نهاية العام 1974 رفض بريجنيف من دون أي مبرر زيارة إلى دمشق أعددنا لها ثلاثة أشهر، فاعتبر السوريون ذلك إهانة لهم. ووجدنا صعوبة في اقناعهم بأن أي تبدل لم يطرأ على العلاقات من جانبنا. وعلى أية حال كان الاتحاد السوفياتي أيد سورية بالتمام والكمال أثناء تأزم الموقف في المنطقة. وكنت في زيارة دمشق في نيسان ابريل 1984 أثناء تصعيد جديد في الموقف المتأزم وأدليت بعدة تصريحات، بناء على تكليف من بوريس بونوماريوف، كررت فيها "تحذير" الاتحاد السوفياتي من أنه "لن يسمح للمعتدين بتطبيق خططهم" ضد سورية، ما جعل المسؤولين الإسرائيليين، ومنهم وزير الدفاع موشي آرينز، يعلنون ثلاث مرات في غضون يوم واحد أنهم لا ينوون مهاجمة سورية. ويقول البعض إن تعاوننا العسكري مع سورية دفعها إلى مواقف متطرفة في السياسة. الحقيقة ان اللقاءات بين الزعماء السوفيات والرئيس حافظ الأسد التي كنت احضرها شددت دوماً على التسوية السلمية. وكان الرئيس السوري يفهمنا جيداً ويتفهم رفضنا لسياسة "التوازن الاستراتيجي" السورية. إلا أن ضغطنا على سورية، في ظل غياب الضغط الأميركي على إسرائيل، كان سيعني دفع السوريين إلى تنازلات أحادية إن لم نقل إلى الاستسلام. وهذا شيء غير مقبول بالنسبة إلى السوفيات، لا سيما وأن السوريين يتحلون في منتهى العزيمة والتصميم على الدفاع عن مصالحهم. كان الرئيس الأسد طوال هذه السنين يرسم سياسة بلده بمثابرة تستحق أكبر التقدير. والتقيته في دمشق خمس أو ست مرات ويبدو أنه يحترمني حسب ما قاله لغورباتشوف في نيسان 1990. واعتقد ان أفضل وصف لهذا السياسي الكبير أنه يقود من أكثر من 27 عاماً بلداً تعاقبت عليه الانقلابات قبله في سلسلة متوالية. ولا شك في أنه أكبر رجالات الدولة في الشرق الأوسط. فهو يتحلى بحدس سياسي رهيف ورباطة جأش يحسد عليها، إضافة إلى ذاكرة خارقة تسعفه في الاسهاب في الحديث أثناء اللقاءات الرسمية، إذ يتخذ الذكريات والتأملات وسيلة تكتيكية لاستدراج محدثه واستمالته حتى يقول له في الأخير ما يريد ان يقول ويشدد عليه، خصوصاً إذا تطرق الكلام إلى "التوازن الاستراتيجي" الانف الذكر. والرئيس السوري رجل مبدئي متمسك بآرائه ويتعذر اقناعه بالعدول عنها. عموماً لم يحقق بريجنيف والقادة السوفيات الآخرون نجاحاً في هذا المضمار. وقد نشأ لديّ انطباع عن موقفه الطيب والصادق ازاء الاتحاد السوفياتي كبلد صديق، لكنه لم يتقبل ايديولوجيته وبذل جهده ليحول من دون تسرب هذه الايديولوجية إلى سورية. آخر مرة قابلت فيها الرئيس الأسد في 16 آب اغسطس 1991، وبعد حديث طويل ودعني راجياً ان أنقل تحياتي إلى غورباتشوف. وما كنا نتوقع آنذاك ان محاولة انقلابية ضد الرئيس السوفياتي ستدبر في موسكو بعد 48 ساعة من تلك اللحظة. كان الاهتمام بالقضية الفلسطينية من ابرز عناصر السياسة السوفياتية تجاه الشرق الأوسط. فخلافاً للولايات المتحدة كنا ندرك ان التسوية مستحيلة من دون الحل العادل للمسألة الفلسطينية. الا ان فهمنا للمسألة لم يأت دفعة واحدة، اذ تم اول اتصال سياسي في العام 1968 حين وصل جمال عبدالناصر الى موسكو وأدرج ضمن الوفد المرافق له ياسر عرفات من دون ان يبلغنا بذلك. وبعد لقائه مع ليونيد بريجنيف ابلغه الرئيس المصري ان الزعيم الفلسطيني ينتظر مقابلة في قصر فوروبيوف. وكلف بريجنيف السيد بونوماريوف بالتحدث الى عرفات. ومن ذلك الحين اخذ قسم العلاقات الدولية يعمل على تطوير الصلات مع منظمة التحرير الفلسطينية. اما وزارة الخارجية فلم تشارك في تلك الاتصالات في بادئ الأمر، الا انها بعد سنين، وعندما اتضح ان الفلسطينيين قناة في منتهى الأهمية للتأثير على مسار التسوية وآفاقها، اخذت تضيف علينا معتبرة العلاقات مع الفلسطينيين من اولوياتها. وكان من اهدافنا تقوية منظمة التحرير وزيادة تأثيرنا عليها وجعل موقف الفلسطينيين تجاه اسرائيل اكثر واقعية واعتدالاً وتمتين استقلالية الحركة الفلسطينية تجاه الاطراف العربية التي حاولت ان تفرض الوصاية عليها والعمل اخيراً على تحقيق الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير. وكانت كل تلك الاهداف موجودة داخل فلك السياسة السوفياتية الشرق أوسطية. وما كانت رغبتنا في التأثير على الخريطة الفلسطينية لتتعارض مع الطموح الصادق لمساعدة الفلسطينيين في استعادة دولتهم. وكان ذلك عموماً مبعث بعض التناقضات التي لازمت موقفنا منهم. فالأهداف المذكورة اعلاه لم تكن متناسقة دوماً فيما بينها. ولكن ثمار النهج السوفياتي هذا كانت بادية للعيان. فان كان غياب العلاقات مع اسرائيل نقطة ضعف كبيرة في السياسة السوفياتية فان العلاقات الودية مع الفلسطينيين كانت ورقة رابحة. وبالعكس تماماً كان حال الاميركان. في النصف الثاني من السبعينات ومطلع الثمانينات تطورت العلاقات السوفياتية - الفلسطينية بالخط الصاعد اساساً. واتسعت تلك العلاقات وغدت اكثر دفئاً على موجة العداء لكامب ديفيد، اذ ازدادت اهمية منظمة التحرير بالنسبة الينا. كما تعززت مواقعها الدولية بشكل ملحوظ، وبفضلنا بقدر ما. الا ان السمة الملازمة لسياسة الاتحاد السوفياتي في العلاقات مع المنظمة هي مراعاته الثابتة، وبقدر يتجاوز اللزوم احياناً، لمواقف سورية وبعض الدول العربية الاخرى. وجرت أول زيارة رسمية لياسر عرفات الينا في شباط فبراير 1970. وسرعان ما صرنا نستقبله على اعلى مستوى. وبدأ التعاون العسكري في الحال، حتى سبق الاتصالات السياسية احياناً: بعض الفلسطينيين كانوا يتدربون في المعسكرات السورية والمصرية على انهم من عسكريي هذين البلدين. ولم يكن عدد المتدربين في الاتحاد السوفياتي كبيراً، بضع عشرات سنوياً. اما الاسلحة فكانت ترسل الى السوريين، وكان بعضها يسلم من هناك الى الفلسطينيين وكنا نتغاضى عن ذلك. وفي شأن المساعدات المالية فان الفلسطينيين، والحق يقال، لم يطلبوا منا شيئاً على الاطلاق. وكان "الارهاب" مشكلة اختلف الرأي فيها. وخلط الكثيرون بينه وبين الكفاح التحرري. وعندما بدأ ارغام الطائرات المدنية على الهبوط فيما سمي بمطار الثورة في الأردن شجبت موسكو تلك الاعمال على رؤوس الاشهاد، فتقلصت تلك العمليات. وفي الظروف العادية سار العمل "المضاد للارهاب" بشكل هادف على جميع الاصعدة. وكانت لي محادثات خاصة في هذا الموضوع مع الزعماء الفلسطينيين محمود عباس وفارق القدومي وياسر عرفات نفسه. الا ان المصيبة ان عدداً من العمليات الارهابية قامت بها جماعات ومنظمات غير خاضعة لقيادة منظمة التحرير. ثم ان اعمال الفلسطينيين كانت في معظم الاحوال رداً على عمليات الدوائر الامنية الاسرائيلية والجيش الاسرائيلي التي استخدمت فيها الاساليب الارهابية على نطاق واسع. وحدث انعطاف جذري في موقف منظمة التحرير عندما ايد المجلس الوطني الفلسطيني مقترحات المؤتمر السادس والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في شأن التسوية السلمية للنزاع في الشرق الأوسط. الا ان برودا ساد العلاقات بين المنظمة وموسكو في 1983 - 1984 عندما اتهمت دول عربية ياسر عرفات بمخالفة قرارات المجلس الوطني وانساق الاتحاد السوفياتي وراء هذه الموجة فأخفق في فهم حقيقة الخطوات التي اقدم عليها عرفات واتضح صوابها لاحقاً. وبلغ الأمر بالسوفيات الى حد منع زيارات الزعيم الفلسطيني الى موسكو بعض الوقت. وانتهى ذلك "المنع" بلقاء ميخائيل غورباتشوف وياسر عرفات في 18 نيسان ابريل 1986. وبعد ذلك شهدت الاتصالات انقطاعاً دام حتى 9 نيسان 1988، موعد اللقاء الجديد بين غورباتشوف وعرفات، حيث جرى التشديد مجدداً على مغبة الانتقال من "الانتفاضة" الى الكفاح المسلح. ورد عرفات على ذلك مؤكداً: اننا نتمسك بقرار عدم استخدام السلاح. قابلت عرفات حوالى عشر مرات، الا انني لا اجازف بالقول اني اعرفه جيداً. فهو داهية يتحلى بمرونة اقرب الى تقلب الاهواء. وهو، كما قال لي فاروق القدومي "وزير خارجية" منظمة التحرير ذات مرة، رجل برغماتي يستطيع احياناً ان يستدير الى الجهة المعاكسة. وأعتقد ان لهذه الظاهرة اسبابها الموضوعية. فما اصعب الجلوس على كرسيين، ناهيك عن الكراسي التي يبلغ عددها عدد الدول الراغبة في "احتضان" منظمة التحرير. لكن عرفات لم يخالف نهجه يوماً بين تلك الكراسي. ولا جدال في بسالة هذا الزعيم الفلسطيني الذي كان طوال سنين الهدف الأول للدوائر الامنية الاسرائيلية. وهو رجل لا يعرف الكلل لحد مدهش. وعلى رغم رقته الظاهرية فهو شديد البأس في الممارسة السياسية يفرض ارادته على الآخرين. وكان احياناً يلجأ عند الاقتضاء الى اساليب غير مألوفة. ففي صيف 1982 اثناء اجتياح القوات الاسرائيلية الأراضي اللبنانية واضطرار الفلسطينيين الى النزوح منها جمع الصحافيين وأعلن لهم عن استلامه رسالة من بريجنيف تضمنت حسب قوله تأييداً تاماً للفلسطينيين. وربما فعل ذلك ليشجع رجاله ويؤثر على الولاياتالمتحدة واسرائيل. وفي الحقيقة لم تكن هناك اية رسالة من هذا النوع. وبعد شيء من التردد قررت موسكو الا تصدر تكذيباً في شأن الرسالة المختلقة. ولم تكن تلك هي الحادثة الوحيدة. وعلقت في ذهني بخاصة مقابلتان من مقابلاتي الكثيرة مع ابي عمار. احداهما في بيروت في كانون الأول ديسمبر 1977، وكانت منظمة التحرير تعتبر نفسها سيدة الموقف هناك. كنت مكلفاً ان الفت انتباه عرفات الى تعنت الفلسطينيين في لبنان آنذاك وأوصيه بأن يتخذ التدابير اللازمة لوقف الارهاب. لم يعترض عرفات لكنه قال ان تلك الاعمال تقوم بها المنظمات المعارضة، وحاول الا يعطي تعهدات. وفي الوقت نفسه، وكما هي عادته، طرح موضوع ارسال السلاح وموعد زيارة جديدة الى موسكو. وطالما تطرق الحديث الى لبنان اقول اني لا اريد ان اخلق انطباعاً في شأن سياسة سوفياتية متميزة مبدئياً تجاه هذا البلد. وكنت اعتباراً من العام 1964 غالباً ما ازور لبنان، والتقيت مراراً الرئيسين الياس سركيس وأمين الجميل ومعظم السياسيين البارزين. وكنت اتابع بألم واندهاش النزاعات الداخلية المقترنة الى التدخل الخارجي وتدمير هذا البلد الثري الخلاب. ورأيت كيف تحولت بيروت الحسناء الى مدينة يسودها الرعب والهلع. ومفهوم ان الاتحاد السوفياتي كان عاجزاً عن القيام بشيء للحيلولة دون هذا المصير. كان في كماشة المواجهة مع الاميركيين، مقيداً بالارتباطات مع سورية ومنظمة التحرير ومع احد اطراف النزاع الداخلي، فاكتفى بالدعوات الى وقف النزاع وحقن الدماء وصيانة استقلال لبنان. ويعود اللقاء الثاني مع عرفات الذي ظل عالقاً في الذاكرة الى بداية العام 1984. كانت مهمتي الأساسية اقناعه بالبحث عن سبل تطبيع العلاقات مع سورية. ودار الحديث مرة اخرى عن ضرورة اعتراف الفلسطينيين بالقرار 242، ورد عرفات كالعادة انه مستعد لاقناع قيادة منظمة التحرير فيما لو توافرت ضمانات حقوق الفلسطينيين. ولا بد لي ان اتوقف عند بعض جوانب العلاقات بين الاتحاد السوفياتي واليمن الجنوبي، تلك الدولة التي محتها احداث السنوات الاخيرة من الخريطة السياسية. فلتلك العلاقات اهمية تتجاوز حدود الكيان المشطوب. كانت علاقاتنا مع اليمن الجنوبي اوثق من علاقاتنا بأية دولة عربية اخرى. وكان هناك حوالى 500 مستشار عسكري سوفياتي وما بين 1500 و4000 خبير مدني حسب اختلاف الاوقات. الا اننا عجزنا عن التأثير في سير الاحداث في هذا البلد الصغير. "فاجعة" اليمن الجنوبي تسوق الدليل على بعد المسافة التي قطعتها الموجة اليسارية في اعماق "العالم الثالث" النائية في تلك السنين وكيف تحطمت هذه الموجة على صخرة الظروف المتخلفة غير المواتية. وبينت تلك المأساة ان السياسة السوفياتية التي اعتبرناها منطقية في اطار مخطط "زحف الاشتراكية ودعم حلفائنا الطبيعيين" لم تكن على المستوى الواقعي اللازم بل لعلي اقول انها كانت سياسة طوباوية، بالغت في تقويم امكاناتها من جهة وقدرات القوميين الثوريين العرب من جهة اخرى. في العام 1964 اعلنت لندن انها تنوي تحويل عدن قاعدة عسكرية دائمة لحماية المصالح البريطانية فيما وراء السويس. وبعد اقل من اربع سنوات ارغم اليمنيون الجنوبيون بريطانيا على مغادرة البلاد بقوة السلاح. واعترف الاتحاد السوفياتي بالدولة الوليدة بعد ثلاثة ايام من رفع علم الاستقلال في 3 كانون الأول ديسمبر 1967. وكانت موسكو مهتمة، من دون ريب، بموقع عدن الاستراتيجي، شأن اهتمام الانجليز به. ولعبت الدوافع الايديولوجية دورها ايضاً. فاذا تركنا الشيوعيين جانباً ففي اليمن الجنوبي "عششت" اكثر القوى يسارية في العالم العربي، وذلك باعتقادي لعاملين اساسيين اولهما الانفتاح على الخارج وثانيهما قصر نظر الانكليز الذين ساروا بالأمور في اليمن الجنوبي، خلافاً للهند، الى حد القتال المسلح، ما تحول عاملاً لنشوء الحركة اليسارية. وفي يوم اعلان الاستقلال اكدت "الجبهة القومية" انها تعمل لتأسيس "حزب طليعي".. وخلافاً لتوصيات الحزب الشيوعي السوفياتي ظهر بعد عشر سنوات الحزب الاشتراكي اليمني على اساس وحيد هو "مبادئ الشيوعية العلمية"، حتى ان عبدالفتاح اسماعيل سماه بالحزب الشيوعي. وحذرت موسكو في حينه من مغبة هذا "التحدي للعالم العربي والاسلامي". وكان ذلك كله بالطبع عملية مصطنعة على رغم حسن النوايا. فمن بين 32 الف عضو ومرشح لعضوية الحزب في العام 1986 كان هناك 2000 امي وكثير جداً ممن عجزوا عن التخلص من الترسبات والمخلفات العشائرية. ولا اعتقد ان ثمة فارقاً مبدئياً بين هذه اللوحة واللوحة الحزبية الشيوعية في آسيا الوسطى في مطلع العشرينات. الا ان تنظيمات الشيوعيين هناك كانت تعتمد على الهيكل الروسي وعلى دماغ الحزب الشيوعي السوفياتي.