ان يتهمك أعداؤك بعيوب معينة، يتطلب منك ذلك أن تبحث في صحة ما يتهمونك به، فإن تأكدت وجب عليك معالجتها وإلا استغلت ضدك وصارت وسيلة لإضعافك وإذلالك. ينطبق هذا على الأفراد كما ينطبق على الأمم. فحين يتحدث أعداؤنا عن غياب الديموقراطية في ديارنا، وعن اضطهاد الانسان واحتقار المرأة، وتخلف التعليم، وما الى ذلك فهل يعني هذا أن العدو منزعج لكل ذلك، أم أنه يستغل ادراكه لهذه العيوب والأخطاء كوسيلة إذلال، ومدخل للسيطرة والتدخل في المنطقة لضمان مصالحه. وإذا استمرينا في سبيلنا وتجاهلنا لأخطائنا وعدم معالجتها فإننا نضع أنفسنا في موقف الضعف، مما يجعل لاتهاماته صداها في الداخل والخارج. وبالتأكيد فإن العدو لا يسعى من وراء كشف عوراتنا الى ستر هذه العورات وانما الى إضعاف موقفنا أمام شعوبنا وأمام العالم بما يسهل مهماته. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نتحمل مسؤولياتنا ونقوّم أوضاعنا ونصحح أخطاءنا، فنحترم انساننا رجلاً وامرأة، ونصلح مناهجنا التعليمية من منطلقاتنا الدينية والثقافية ونحارب الفساد، فتوصد بذلك الأبواب في وجه التدخلات في شؤوننا. كلما مرّت بالأمة محنة تعالت الأصوات بتقويم أوضاع الأمة، وبتشخيص عللها وأمراضها التي أدت الى هذه المحنة. فإذا مرّت، نسينا ما قلنا وعدنا كأن شيئاً لم يحدث. ينطبق هذا على العرب جميعاً بصورة عامة وعلينا في الجزيرة والخليج بصورة خاصة. كانت محنة 1967 التي التهمت سيناء والجولان والضفة الغربية بما فيها القدس الشريف وغزة، ثم تلتها حرب 1973 التي ربما أعادت شيئاً من الثقة في الجندي العربي، ولكن محنتنا ليست عسكرية، بل هي أكبر من ذلك وأكثر تشعباً. ثم كانت حرب الخليج الأولى، بما ترتب عليها من استنزاف للطاقات العربية والاسلامية. وتلت ذلك أم المحن بغزو العراق للكويت الذي شرع الأبواب للوجود الأجنبي، وما زالت المنطقة تعيش عواقب ذلك. وأخيراً ماذا عن هجوم 11 أيلول سبتمبر على نيويوركوواشنطن، وما ترتب عليه من نتائج، وما يسود العالم عموماً ومنطقتنا العربية والاسلامية بصورة خاصة من قلق وانتظار وخوف. هل سيكون ذلك دافعاً لوضوح الرؤية والتغيير ومعالجة مشاكلنا، أم سنتعامل مع هذه المرحلة كما غيرها بالسلبية والصراخ، ونترك للآخرين يفكرون لنا، ويفرضون علينا الحلول بما يتفق مع رؤاهم ومصالحهم. طريقة تعاملنا مع قضايانا السياسية والفكرية وغيرها حتى الآن لا تشير الى اننا أدركنا الأخطار وتصرفنا بما يتفق ومصالحنا، فلا زلنا فاقدي الإرادة والقرار. وعلى رغم أنني لست يائساً ولا من محبي تعذيب الذات إلا أن أوقات الأزمات الكبرى هي الأوقات التي يجب التفكير فيها بصوت عال فذلك أقل الإيمان. وأتصور أن هذه الخواطر، وغيرها كثير يعتلج كل نفس عربية واسلامية، بل ربما كل نفس انسانية تعرف هذه المنطقة، وتعرف امكاناتها وثقافتها واسهاماتها الحضارية. ولذلك فمن حقنا أن ننزعج من دفن الرؤوس في الرمال حتى تمر الأزمة وتعود المياه الى مجاريها. ولقد اطلعت على دراسة صدرت عن مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت في تشرين الثاني نوفمبر تحت عنوان آن الأوان لقرارات تاريخية في منطقة الخليج، وكتب هذه الدراسة السيد فاهان زانويان الرئيس التنفيذي لشركة "بتروليوم فايننس" في واشنطن التي تقدم استشارات استراتيجية في حقل الطاقة العالمية. وأرى أن الدراسة على جانب كبير من الأهمية. ولاحظت سعة اطلاع كاتبها على الوضع في الخليج وفي الولاياتالمتحدة، وربما كان ذلك لتخصصه وكثرة تنقله بين العواصم العربية وواشنطن. كما لاحظت أيضاً غيرته وحرصه على المصلحة العربية بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، وربما كان لخلفيته اللبنانية دور في ذلك فهو لم يترك لبنان التي ولد فيها إلا عام 1975 حين انتقل الى واشنطن. يرى السيد فاهان زانويان أن أحداث الحادي عشر من أيلول خلّفت أضراراً بالغة بالموقع الجيوبولتيكي لمنطقة الخليج، فبينما كان هدف حرب الخليج الثانية هو الحفاظ على الأوضاع القائمة في المنطقة، أصبح الهدف المقبل هو تقويض هذا النظام وتدميره. وأن الوضع الراهن نشأ بسبب نهج هو عبارة عن مزيج من السلبية والاستكانة اتبعه العرب في حل مشكلات المنطقة من جهة، وسرعة حركة وهجوم اسرائيل في الساحة الاميركية من جهة ثانية، وجاءت أحداث أيلول لتجعل التيار اليميني المحافظ الجديد يكشر عن أنيابه، ويطرح أفكاره من دون قفاز ويتحالف مع اسرائيل. قد يقال ان هذه ليست الأزمة الأولى التي تواجه العرب ومنطقة الخليج، وأمكن تخطي الأزمات السابقة بالصبر، وترك الزمن يقوم بدوره. والسؤال هل تختلف هذه الأزمة عما سبقها من أزمات. الجواب نعم، فهذه المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي يشكك فيها صانع القرار السياسي في الولاياتالمتحدة في الدور الذي تلعبه المملكة العربية السعودية، وينتقد أوضاعاً داخلية يعتبرها مصدر إزعاج وأخطار على الولاياتالمتحدة. ومن العوامل الأخرى: أن التحديات المحلية في كل دولة من دول المنطقة وإن لم تكن جديدة في مضمونها إلا أنها جديدة في أبعادها، وتشكل التحديات التي تفرضها التركيبة السكانية في كل دولة خليجية - ان القمة الخليجية في الدوحة في كانون الأول ديسمبر استشعرت هذا الخطر، وكلفت الهيئة الاستشارية بدراسة وتقديم توصيات بخصوصه - بالاضافة الى الضعف والقصور في البنية الاقتصادية وغياب الحوافز الاقتصادية الضرورية للنمو والتوظيف، والأهمية الحيوية للقطاع الخاص والحاجة الى احداث توازن دقيق بين النزعة المحافظة ومتطلبات العصر ضغوطاً على دول المنطقة أكثر من أي وقت مضى في التاريخ. ومن العوامل الأخرى التي تجعل هذه المرحلة مختلفة سياسات الإبادة الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني والدعم الأميركي المطلق لهذه السياسات. كما أنه لم يحدث اطلاقاً في التاريخ الحديث أن تركز الاهتمام على مواطن الضعف الداخلي لدول الخليج ووضعها تحت المجهر كما هي الحال الآن، فالعالم اليوم أكثر انفتاحاً من أي وقت مضى. وأخيراً بروز فكر محافظ متطرف في الولاياتالمتحدة يضاعف من أهمية ما سلف، اذ يمكن استغلال ضعف المنطقة أبشع استغلال، وهذا ما يحدث فعلاً بالترويج لرؤية جديدة تزيد من محاسن الاستغناء عن الوضع القائم في دول المنطقة، وأضيف: تشتت العمل العربي المشترك، وغياب الحد الأدنى منه، بالاضافة الى التطور التعليمي والوعي الذي يتمتع به شعب الخليج. وتعتبر الدراسة ان منطقة الخليج تواجه اليوم قرارات وخيارات فورية كان يجب اتخاذها قبل زمن بعيد، ففي الثلاثين سنة الماضية انشغلت المنطقة بحماية الوضع القائم واحتواء مختلف الأخطار المحلية والخارجية. ويحتاج الأمر الى أكثر من مجرد حملة علاقات عامة وشراء اعلانات بل الى جهود مضنية لإعادة المصداقية، فالمنطقة على مفترق طرق. وتأتي أهمية الدراسة من تسليط الأضواء على خطورة تأجيل الحلول، وعلى رغم أن ما تطرحه الورقة من حلول قد تكون محل جدل من اضافة أو تعديل أو نقصان إلا أن ما تطرحه جدير بالتأمل، فالمشكلات التي نتجت عن الاهمال والتخبط الذي تواجهه المنطقة الآن، لا توجد لها وصفة واحدة يمكنها أن تزيل كل هذه التراكمات بين عشية وضحاها. والاجراءات طويلة الأمد ليست إلا مجموعة من الاجراءات القصيرة الأمد، ولكنها هادفة ومدروسة ضمن رؤية، وحان الوقت للتفكير بحزمة من الاجراءات ضمن استراتيجية شاملة وموحدة حتى وان تم تنفيذها على مراحل. ويجب أن تتضمن أبعاد هذه الاستراتيجية ادخال اصلاحات جذرية تهدف الى توسيع القاعدة المحلية وتعزيزها للدعم السياسي في كل دول المنطقة، وهذا يجب أن لا يتم لمواجهة الأخطار الوشيكة، اذ أنه إذا لم تتمتع كل حكوماته بالشعبية والثقة والأمن الداخلي فإنها حينئذ لن تكون فقط خاسرة للاستقرار المحلي بل لن تكون في وضع يسمح لها بالمبادرة، والمشاركة في صنع سياسات خارجية تراعي مصالحها. ويتطلب ذلك اصلاحات رئيسية في اسلوب الحكم بما يحقق الاحترام للحقوق المدنية والمشاركة الشعبية. وقد خطت بعض دول الخليج خطوات في هذا الاتجاه، ولكن البعض الآخر ما زال يراوح مكانه. أما على الصعيد الاقتصادي، فالتحدي هنا يكمن في التخلص من العادات السيئة للاقتصادات الريعية، وتغير تفكير صانع القرار بما هو أبعد من مجرد متطلبات ومخصصات العوائد النفطية القصيرة الأجل، وبالتالي ضرورة التركيز على اقتصاد متكامل قابل للتطبيق والديمومة وعلى القدرة التنافسية ومشاركة القطاع الخاص وتحقيق معدلات نمو اقتصادية ثابتة. ومن دون كل هذه الاصلاحات فإنه تستحيل القدرة على إعادة الارتباط بالعالم، والمبادرة والمساهمة في رسم السياسات في المنطقة. أحيي مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت، وأحثه وأمثاله من المراكز الاستراتيجية في الخليج على مثل هذه الدراسات المركزة، والمحرضة على التحليل لأوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وطرح اقتراحات للتعامل مع هذه الأوضاع. وإذا كان لي أن أختم المقالة فأختمها بما ختم به الباحث دراسته اقتناعاً مني بهذه الخاتمة: ان العدو الأكبر للعرب والخليج هو الاستكانة والسلبية والانتظار، وفي المناخ الجيوبوليتيكي الحالي يرتبط ضياع كل فرصة بأخطار مباشرة، فكل فرصة ضائعة وكل تردد في الترويج لرؤية ايجابية، سيفسح المجال بالضرورة أمام رؤى وتوجهات سلبية يتبناها أعداء المنطقة، وهذا بدوره قد يطيح بمستقبل العرب والخليج وآفاق خروجهم من مأزقهم الراهن. * سياسي قطري.