قبل العملية "الانتحارية" المزدوجة في تل ابيب، التي نفت "كتائب الاقصى" التابعة لحركة "فتح" اي علاقة بها، كان الحديث بين الفلسطينيين يدور على نوع الضربات العسكرية التي يبيتها شارون لهم على ابواب انتخابات الكنيست الجديدة المقررة في 28 كانون الثاني يناير الجاري، او خلال الحرب الاميركية البريطانية المتوقعة على العراق، سواء حصل بوش وبلير ام لم يحصلا على دليل ضد بغداد. وكان اطراف النظام السياسي الفلسطيني، بمختلف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، على قناعة بأن المجتمع الاسرائيلي ظل بعد عامين من عمر "الانتفاضة والمقاومة"، ومن القتل المتبادل، يميل نحو التطرف، وان شارون واركانه، مدنيين وعسكريين، مصممون على كسب هذه الانتخابات على حساب آلام الفلسطينيين وعذابهم، وعازمون علي تصعيد اعمال القتل والاعتقال والاغلاق ونسف البيوت وتدمير الممتلكات، بأمل اشباع غليل جمهور المتطرفين وكسب اصواتهم الانتخابية. وعلى رغم عدم ارتياح الشارع الفلسطيني الى عجز القوى الوطنية والاسلامية عن حل خلافاتها السياسية والتنظيمية والعقائدية من دون تدخل الاشقاء، الا انهم تمنوا نجاح جهود القيادة المصرية في مساعدة السلطة والمعارضة على توحيد الصفوف وتجاوز الخلافات، والاتفاق على برنامج نضالي يصون الحقوق الوطنية، وبلورة رؤية واقعية تقلص الخسائر البشرية والاقتصادية التي يلحقها الاحتلال يومياً بالجميع. ويتمنى الناس في الضفة وقطاع غزة ان تكون الحركة المصرية على الجبهة الداخلية الفلسطينية منطلقاً لحركة مصرية عربية نشيطة وفاعلة في حقل السياسة الدولية، تخفف قلقهم من المسقبل، وتقلص من معاناتهم وترفع الظلم عنهم، وتشعرهم بعودة الروح لتضامن العرب معهم، وترغم شارون واركانه على وقف اعمال القتل والاعتقال والتدمير التي يقوم بها جيشه منذ شهور من دون رادع عربي او دولي. وبدلاً عن المساهمة في توفير المناخ السياسي الملائم لمتابعة حوار القاهرة وانجاحه واستثمار الجهود المصرية في تحقيق الامل الشعبي، ابى انصار هذا النمط من العمليات القتالية في "كتائب شهداء الاقصى" الا ان يبددوا آمال الناس بنجاح الجهود المصرية. وعوض مراجعة الذات واستخلاص العبر المفيدة من التجربة ومما يحصل للشعب الفلسطيني بعد كل عملية "انتحارية"، قرر بعضهم فرض موقفه على الجميع. وزادت عمليتهم المزدوجة في تل ابيب في قلق الناس في الضفة والقطاع حول المصير، وعمقوا قناعتهم بأن القوى الوطنية والاسلامية "سلطة ومعارضة"، تغلب مصالحها الحزبية الضيقة على المصلحة العامة، وتحرث في حقل لا يمت بصلة لهموم الناس اليومية. وبصرف النظر عن نوايا انصار العمليات الانتحارية في تنفيذ عمليتهم في قلب تل ابيب، في هذا الوقت بالذات، فإن هذه العملية الحقت اضراراً بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني اكبر واوسع من عمليات كثير سبقتها. وظهر من خططوا لها ومولوا تنفيذشها، وكأنهم ارادوها حاجزاً اعتراضياً في طريق الحوار والجهود المصرية، ولم يأبهوا بنتائجها السلبية على العلاقات المصرية - الفلسطينية. ويسجل لهم النجاح بامتياز… في خلط الاوراق واختيارهم التوقيت الملائم لارباك انعقاد الجولة الثانية من حوار القاهرة، وافشال المساعي العربية والاوروبية المبذولة لإنجاحها. ونجحوا بجدارة في اظهار ضعف السلطة وضعف انضباط كوادر حزب السلطة "فتح" وتصدع وحدته الداخلية. الى ذلك، اظهر تهليل اركان حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" في الفضائيات العربية بالعملية وبمقتل خمسة عشر مدنياً اسرائيلياً وسبعة عمال اجانب، ان المشاركين الاساسيين في حوار القاهرة حماس والجهاد وفتح ليسوا معنيين بنجاحه، وتصرفوا وكأن شيئاً لم يحصل في جولة الحوار الاولى. ولا اضيف جديداً اذا قلت ان هدف الحركة المصرية، كان ولا يزال، اقناع القوى الفلسطينية "انصار العمليات الانتحارية" ضد المدنيين الاسرائيليين، بوقف او تجميد عملياتهم فترة معقولة. وان اللواء عمر سليمان مدير المخابرات المصرية قال لقادة القوى الفلسطينية الذين التقى بهم في القاهرة الشهر الماضي: "العمليات الانتحارية في مرحلة الانتخابات الاسرائيلية ومرحلة التحضير لضرب العراق تلحق اضراراً واسعة بالامن المصري والامن القومي العربي، بجانب الاضرار الكبيرة التي تلحقها يومياً بالفلسطينيين شعباً وسلطة ومعارضة". ونصح سليمان ممثلي الفصائل الفلسطينية ادراك حجم المخاطر الكبيرة التي تحيط بشعبهم في هذه المرحلة، وبضرورة التخلص بكل السبل من تهمة الارهاب التي لحقت بالحركة الفلسطينية. ونبههم الى الابعاد المأسوية التي قد تلحق بهم وبقضيتهم في حال وقوع الحرب على العراق وهم متلبسون هذه التهمة الخطيرة. لا خلاف مع "كتائب شهداء الاقصى" و"حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"الجبهة الشعبية" حول عدالة الموقف الفلسطيني وشرعية مقاومة الاحتلال، لكن الخلاف الجوهري معهم يكمن حول تقدير الممكن تحقيقه من الاهداف الوطنية في هذه المرحلة من الصراع، وحول الوسائل والاساليب الانجع لتحقيقها. وتؤكد الخبرة التاريخية للشعوب وضمنها تجربة الشعب الفلسطيني، ان هناك دائما وسائل فعالة ومجدية في مقاومة الاحتلال، واخرى فعالة لكنها ضارة وتتسبب في الحاق الهزيمة بالأهداف وبالمناضلين من اجلها، وهذه الاسالييب يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث يحرمه القانون والمبادئ الاخلاقية وهذا ايضاً يجب تفاديه كليا. وليس من حق احد ان يورط الآخرين في ما يجب تفاديه، خصوصاً اذا كان ثمن التوريط دماً ودماراً وحصاراً. وأياً تكن دوافع مخططي عملية "تل ابيب" المزدوجة، فهذه العملية تندرج في خانة العمليات الضارة التي يحرمها القانون والمبادئ الاخلاقية. ولا يمكن لقادة وكوادر "كائب شهداء الاقصى" انكار ان عمليتهم شوهت صورة النضال الفلسطيني العادل والمشروع واضعفت الموقف الفلسطيني الرسمي في الحقلين العربي والدولي، ولم يقدروا ابعاد تكريس اتهام حزب السلطة "فتح" بالارهاب في مرحلة الحرب الشاملة المتواصلة ضد الارهاب والارهابيين منذ 11 ايلول سبتمبر 2001، ووفروا لشارون ذريعة لتفريغ حقده ضد الفلسطينيين وتصعيد اعمال التدمير والقتل والاغلاق والحصار والاعتقال التي يمارسها ضدهم منذ تولى الحكم في اسرائيل. الى ذلك، لا يستطيع انصار العمليات الانتحارية بمختلف انتماءاتهم الحزبية اثبات براءتهم من تهمة اضعاف تيار السلام في اسرائيل، وتعزيز التطرف في المجتمع الاسرائيلي، وحرف نظر الاسرائيليين عن مشاكل حزب ليكود الداخلية وفضائح شارون واولاده المالية. والمساهمة في دفع الاسرائيليين المترددين لحسم مواقفهم لصالح قوى اليمين المتطرف التي تنادي بالموت للعرب وترحيل الفلسطينيين، ومنح اصواتهم للكتلة اليمينية التي يرأسها شارون، وتبني برنامجه الانتخابي القائم على الحل العسكري والحاق هزيمة ساحقة بالفلسطينيين قبل العودة إلى طاولة المفاوضات. صحيح ان تواصل العمليات الانتحارية في قلب المدن الاسرائيلية يؤكد فشل نظرية الامن التي يعتمدها شارون في اخماد نهج "الانتفاضة والمقاومة"، وان هذا النهج الحق خسائر كبيرة بالاقتصاد الاسرائيلي، لكن الصحيح ايضاً ان هذا الفشل وتلك الخسائر تزيد في حال القلق والخوف في المجتمع الاسرائيلي، وتدفع قطاعات واسعة من الجمهور الاسرائيلي نحو التطرف وليس الاعتدال، تماماً كما يحصل في المجتمع الفلسطيني بعد عمليات الاغتيال والاقتحام ونسف البيوت والاذلال التي يقوم بها جيش الاحتلال والمستوطنون في الضفة والقطاع. لا جدال ايضاً في ان لدى شارون واركانه مشروعاً قديماً، كما يقول الفلسطينيون انصار العمليات الانتحارية، يقوم على قتل وتهجير اكبر قدر من الفلسطينيين وضم مساحات واسعة من الاراضي، وتدمير السلطة وفرض قيادة بديلة، وتدمير عملية السلام وشطب الاتفاقات التي تم التوصل اليها منذ العام 1993، وتحطيم مقومات قيام دولة فلسطينية بجانب دولة اسرائيل... الخ، لكن الصحيح ايضاً ان نهج العمليات "الانتحارية" ضد المدنيين الاسرائيليين وسقوط قتلى من جنسيات اخرى يسهلان على شارون اخفاء اهدافه ونواياه الحقيقية، ويخلطان الصورة امام الرأي العام العالمي ويحولان القاتل المجرم الى ضحية، ويظهران اسرائيل في مرآة السياسة الدولية كإحدى ضحايا "الارهاب" الفلسطيني. لا شك في ان التباين حول المواقف من العمليات الانتحارية مسألة طبيعية، مثله مثل الخلاف حول المشاركة في عملية السلام ومسائل فكرية وسياسية اخرى كبيرة كثيرة، لكن الاعراف الديموقراطية ومبدأ الحرص على الوحدة الوطنية يحرمان أي طرف حسم قضايا الخلاف بفرض رأيه بالأمر الواقع على الآخرين، وتنفيذ ما يحلو له حتى لو أدى الى كوارث وخرب العلاقات الفلسطينية - العربية. واذا كانت السلطة فقدت القدرة على فرض القانون وتوجيه التوجه الوطني المركزي، فالارتقاء بالإحساس بالمسؤولية هو الذي يجب أن يملأ الفراغ وليس الاندفاع نحو نشر الفوضى السياسية والاجتماعية. اعتقد ان عملية تل ابيب كانت خاطئة في زمانها ومكانها وهدفها، وحق الشعب الفلسطيني مطالبة كوادر "كتائب شهداء الاقصى" ومن شاركهم المسؤولية، الاعتراف بهذا الخطأ الجسيم والاعتذار عنه، تماماً كما اعتذرت قيادة "فتح" في قطاع غزة عن مسيرة المسلحين والملثمين التي ظهرت في شوارع مدينة غزة في ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع العام الجديد. وفي جميع الحالات يجب ان تبقى المصالح الفلسطينية العليا فوق كل الاعتبارات الاخرى، وتجسيد ذلك في الظرف الراهن يفرض على الوطنية والاسلامية استئناف الحوار برعاية مصرية او بدونها، وعدم اطالة النقاش والتوصل الى اتفاق يؤكد التزام الجميع بوقف العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين. واظن ان الجميع يدرك ان هذا الاتفاق يفقد معظم قيمته اذا تأخر عن موعد الانتخابات الاسرائيلية. ولن تلفت انتباه احد بعد بدء الحرب على العراق. كاتب فلسطيني.