اذا تسنّى ان يُكتب تاريخ الموسيقى في لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين يوماً ما، فلا بد ان يتصدر الاسماء خمسة ملحنين هم زكي ناصيف والاخوان رحباني وفلمون وهبي وتوفيق الباشا، الى جانب الاصوات الكبيرة وديع الصافي وفيروز وصباح ونور الهدى. اما اسم توفيق الباشا فقد دخل في تاريخ الموسيقى العربية في لبنان من بابين عريضين: باب الموسيقى المَدَنية العربية، وباب الموسيقى الريفية الشامية. توفيق الباشا من القامات البارزة في كليهما، اذ انه صنع مع آخرين، بنتاجهم الراقي، تاريخ الموسيقى في لبنان، في هذه الحقبة الذهبية الآيلة الى رحيل مع نهاية هذا القرن. ففي الموسيقى المدَنية العربية، تخصص توفيق الباشا زمناً في فن الموشح والدور العربيين، فعمل على الاخص في إحياء الموشحات العظيمة وتوزيعها وإعادة تقديمها للمستمع في إطار الأوركسترا الكبيرة والجوق الغنائي المدرب. فغنت من توزيعه وتوضيبه المطربة العربية الكبيرة سعاد محمد "ملا الكاسات وسقاني" لمحمد عثمان، فأصبحت هذه الصيغة من كلاسيكيات الغناء العربي التراثي. كذلك غنى جوق الإذاعة اللبنانية حين كان يضم مطربين ومطربات بينهم حسن عبدالنبي وميشال بريدي ونهى هاشم زوجة توفيق الباشا الآن، عدداً كبيراً من الموشحات منها "يا شادي الألحان" لسيد درويش، و"لما بدا يتثنّى" لمحمد عبدالرحيم المسلوب. كذلك أعاد توزيع وتوضيب عدد من الادوار الخالدة، فغناها الصوت الجميل الراحل محمد غازي، ومنها دوران جميلان للغاية من ألحان الشيخ زكريا أحمد: "الفؤاد ليله نهاره"، و"إنت فاهم قلبي تاني يرق لك". كذلك غنّى غازي رائعة خالدة وزّعها الباشا ووضّبها هي مغناة "أسق العطاش" التي بدا فيها العمل التوزيعي واضحاً جداً وبلغ مراتب عالية من الجمال تناسبت تماماً مع جمال اللحن وجمال صوت المطرب الفلسطيني الكبير. كذلك انتج توفيق الباشا عدداً كبيراً جداً من البرامج الاذاعية التي احتوت على ثروة من القصائد والموشحات. وكان ذلك في مرحلة طويلة امتدت بين أوائل الستينات وأواسط الثمانينات 1961-1984. وكان في هذه المرحلة يشرف على فرقة الاذاعة اللبنانية الموسيقية، وهي فرقة ضمت كبار العازفين اللبنانيين في مرحلة زاهرة. فكان من العوادين فيها بهيج ميقاتي وسعيد سلام، ومن عازفي الكمان عبود عبدالعال، ومن عازفي القانون احمد منيمنة ومحمد السبسبي ثم محي الدين الغالي، ومن عازفي الناي سمير السبليني، ومن عازفي الرق عبدالكريم القزموز، وغيرهم ممن يفوتك اسمهم سهواً، ولا يبخسهم ذلك قدرهم. في تلك المرحلة كان محمد عبدالوهاب وفريد الاطرش وفلمون وهبي ووديع الصافي وغيرهم من الكبار، ينفّذون أعمالهم في استوديوهات اذاعة لبنان، لوجود هذه الفرقة الموسيقية الممتازة، ووجود توفيق الباشا على رأسها توزيعاً وتوضيباً. ولم يشهد لبنان، لا قبل ولا بعد، فرقة اذاعية دائمة في هذا المستوى. فاذا كانت هذه الثروة الفنية مدفونة اليوم في محفوظات مكتبة الاذاعة اللبنانية واذاعة دمشق وغيرهما من الاذاعات العربية، فانما هذا من أبرز ملامح الازمة الحضارية التي نعانيها، فينزوي الممتاز من نتاجنا الحضاري ولا يطفو على السطح الا سقط المتاع. الموسيقى الريفية الشامية أما في الموسيقى الريفية، فان عمل توفيق الباشا تاريخي بكل معنى الكلمة، نقولها بلا تردد ونؤكدها تكراراً كلما استعرضنا ما خلا من سنواتٍ خصوصاً سنوات الحركة الموسيقية التي كان محورها مهرجانات بعلبك ومهرجانات الانوار بين 1957 و1974. فماذا جرى في تلك السنوات الثماني عشرة السمان؟ كان المعنّى والقرّادي والشروقي والقصيد وأبو الزلف والميجانا والعتابا فناً ريفياً عربياً ينتشر في كل اريافنا الزراعية في بلاد الشام، من عريش مصر الى لواء الاسكندرون. لكن المجتمعات المدنية كانت منصرفة الى فنونها هي، لا تسمع من الفن الريفي الا زاوية "الغناء البلدي" في اذاعات انشئت في الاربعينات. في سنة 1957 تقرر ان تقدّم مهرجانات بعلبك "ليالي لبنانية". فاجتمعت صفوة من الفنانين الشبان على رأسهم توفيق الباشا وزكي ناصيف والاخوان رحباني وفلمون وهبي ووديع الصافي وصباح وفيروز وعفيف رضوان وغيرهم. فجاء وديع وصباح وزكي من الريف: وديع مشبعاً بأزجال جده بو بشارة والمعنّى وأبو الزلف الذي كان يؤلفه ويغنيه، وصباح متشربة من عمها الزجال الخالد أسعد الخوري فغالي شحرور الوادي، وزكي متخماً من غناء الحدا ورقصة الدلعونا. وجاء الرحابنة وتوفيق الباشا وفيروز وفلمون من المدينة، فاجتمع هذا الفريق التاريخي ليقدّم في بعلبك الليالي اللبنانية، فكان عملهم سنة 1957 المدماك الاول الذي انطلقت منه حركة مَدَّنت موسيقانا الريفية. واذا استخدمنا عبارة التمدين، فانما نقصد معنيين معاً: فهذه الحركة الموسيقية التاريخية استمدت قماشتها الموسيقية ومادتها الاولى من موسيقى الارياف الشامية وغنائها وفنونها: دبكة الدلعونا والميجانا والعتابا والمعنّى وأبو الزلف... فوزّعتها توزيعاً مدنياً لا توزعه الارياف، وقدمتها في إطار متقنٍ مرفّه راق، هو من سمات فن المدن. اما المعنى الثاني للتمدين فهو ان هذه الحركة الموسيقية في لبنان نقلت موسيقى أريافنا الشامية، من قرى جبل لبنان وفلسطين وسورية وبادية الشام الممتدة في شمال العراق، فنشرتها في المدينة العربية، من أقصى المغرب الى اقصى المشرق، وأدرجتها في ذوق المدنيين وفنونهم، بعدما كانت تتداولها أريافنا وحدها. وكان توفيق الباشا، في مساهماته الخمس الاساسية ضمن هذا النطاق: مهرجانات 1957 و1959 و1974 في بعلبك ومهرجاني "الأنوار": حكاية لبنان 1960 وأرضنا الى الابد 1964، كان الموزّع وقائد الأوركسترا الذي أشرف عن كثب على هذا التحوّل التاريخي. كان زكي ناصيف يوزّع ألحانه، وكان الاخوان رحباني يوزعان ألحانهما. اما توفيق الباشا فكان يوزّع ألحانه وألحان جميع الآخرين، ويدرّب الفرقة الموسيقية ثم يقودها. وبذلك شاهدنا في كازينو لبنان وفي بعلبك وباريس وألمانيا وقبرص، وكذلك في القاهرة والكويت وغيرهما من عواصم العرب والعالم، موسيقانا الريفية وهي تقدّم في مظهر لائق وأصيل معاً. وحين يكتب التاريخ غداً كلمته الاخيرة في ما جرى في هذه السنوات الذهبية الزاخرة، سيكون اسم توفيق الباشا بين اسماء الصدارة ولا شك، في هذا العصر، الذي لا يكفي الافتخار به، بل لا بد من ان يُقتدى به حتى نأمل نهوضاً جديداً. فأمام الموسيقيين العرب عمل كثير على غرار ما شهدنا في هذا العصر. ذلك ان موسيقى الارياف المصرية، وموسيقى البحارة في الخليج، وموسيقى أرياف المغارب العربية، لا تزال تنتظر من يمدّنها لتدخل في نسيج الموسيقى المدنية وتدرج في ذوق المدن العربية وفنونها. ففي مصر ظهرت ملامح بداية خجولة محصورة في أغنيات لحنها بليغ حمدي وغناها عبدالحليم حافظ، استمدت قماشتها الموسيقية من موسيقى الريف في وادي النيل، ووزّعت توزيعاً مدنياً: على حسب وداد قلبي، وزي الهوى، والهوى هوايا، والتوبة وغيرها. كذلك غنى محمد عبدالمطّلب: يا بو العيون السود. وغنّى غيره: سلّم علي. ورقصت فرقة رضا رقصات ريفية مصرية. الا ان هذه الحركة تنتظر الاكتمال، لتشكل رافداً كبيراً من روافد الموسيقى المدنية العربية. ولا بد من حركة مماثلة في أرياف المغرب وفي سواحل الخليج. فالأمثولة الناجحة التي أتت بها حركة الموسيقيين اللبنانيين المذكورة، وفي صدارتهم توفيق الباشا ورفاقه، تؤكد ان ثمة كنوزاً في باطن الارض العربية لا بد من استنباطها واستخراج معدنها وجوهرها، وصوغها في نتاج عصري راقٍ وأصيل معاً.