لعل أول ما يجب ان يحسم عند الحديث عن الارهاب ان يُصار الى تعريفه، والى التفريق، من ثم، بينه وبين المقاومة المشروعة ضد الاحتلال. وهذان أمران تهربت منهما الادارة الاميركية، على رغم انها اعتبرت "محاربة الارهاب" أولى أولوياتها، لأن تعريفه سيدخل الكثير من سياساتها في اطار ارهاب الدولة، وذلك من خلال ممارساتها الخارجية ضد الشعوب الأخرى، حيث طبقت سياسات التدخل العسكري، تاريخياً، ابتداء من اميركا الجنوبية والوسطى ومروراً بقصفها للمدنيين بلا حساب ويكفي تذكر القائها قنبلتين نوويتين على اليابان في الحرب العالمية الثانية، أو في حروب التدخل والانقلابات العسكرية في مرحلة الحرب الباردة، وانتهاء باعتمادها استراتيجية الحرب العالمية الآن ودعمها غير المحدود لارهاب الدولة العبرية في فلسطين. وهو ما يتجلى بوضوح في الاستراتيجية التي تتبناها ادارة الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش بعد 11 ايلول. على ان اميركا تواجه مشكلة ثانية في التفريق بين الارهاب والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال لأنه سيهدم ركناً اساسياً من أركان استراتيجيتها في النطاق الفلسطيني - العربي والاسلامي وأماكن اخرى في العالم. ولكن عدم التفريق هذا سيظل يحرجها، ويضعف موقفها، ويكشف حقيقة مراميها من رفع راية محاربة الارهاب، وإلا ماذا تقول في المقاومة المسلحة التي شنها "الآباء المؤسسون" للولايات المتحدة ضد الاستعمار البريطاني، أو دعمها لحركات المقاومة ضد الاحتلال النازي أو الياباني في الحرب العالمية الثانية، وأخيراً دعمها للمقاومة المسلحة الافغانية ضد الغزو السوفياتي لافغانستان. ثم ما معنى مبدأ الدفاع عن النفس حين تحصره في تسويغ سياساتها في العدوان العسكري أو تغطية جرائىم الحرب التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني. وان ثاني ما ينبغي له ان يحسم في موضوع الارهاب، وبعد سنة من تجربة هجمات 11 ايلول، هو عقم هذا الأسلوب وكيف صب الحب في طاحونة من ظن انه يستهدفهم، فاتخذوه ذريعة ليلحقوا أشد الأضرار بالعرب والمسلمين وقضاياهم، وبالوضع العالمي الذي لم يكن قبل تلك الهجمات مؤاتياً لأميركا. والقائمة في هذا الصدد طويلة. عندما يقال ان العالم بعد 11 ايلول ليس العالم قبله، أو لن يعود كما كان قبل ذلك التاريخ، فهذا لا يعني ان الهجمات التي تعرضت لها واشنطن ونيويورك هي التي أدت الى ذلك الفصل بين العالمين. لأن اعتبارها صانعة هذا الانقلاب يفترض بقاء زمام المبادرة بيد من كانوا وراءها، في حين انهم بعد ان ضربوا ضربتهم فقدوا قاعدتهم في افغانستان لتصبح الآن، مع عدد من دول آسيا الوسطى، تحت الوجود العسكري والنفوذ السياسي الاميركيين، وليصبح من نجا من القتل والاعتقال منهم في حال فرار وشتات لا يدرون كيف يختفون، واين يختبئون، ناهيك عن لملمة صفوفهم. وهذه نتيجة لم يكن يتوقعها من نطقوا باسمهم، أي ألا يكون بمقدورهم ان يدافعوا هم وطالبان عن مواقعهم ودولتهم حتى على مستوى الحد الأدنى من الدفاع، ويعجزون عن القيام بعملية واحدة خلال عام عدا استمرار التهديد والوعيد في بيانات الانترنت. وهنا لا فائدة من اتخاذ كثافة القصف وقوة القنابل والصواريخ حجة تسوّغ ما حدث من انهيار عسكري سريع لا سيما بعد بدء الزحف من خلال قوات تحالف الشمال. لأن الجواب في هذه الحالة "إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة/ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم". علماً ان المشكلة الأولى ليست كثافة القصف وقوته وانما العزلة التي ضربتها طالبان على نفسها ونظرية "الفسطاطين"، فكيف يمكن ان تخوض حرباً وقد استعديت جيرانك جميعاً حتى باكستان، وكيف تضع نفسك وقلة ممن معك في فسطاط وتضع العالم كله وكثيرا من العرب والمسلمين والعلماء والحركات الاسلامية في الفسطاط الآخر وتعلنها حرباً حامية البعض يفعلها بالكلام ولا تتوقع هزيمة سريعة. ان كل ذلك يدل على ضعف شديد في فهم السيرة النبوية الشريفة في التعامل مع سنن التدافع، ناهيك عن معرفة عالمنا المعاصر وموازين قواه وطبيعتها. اما من الجهة الأخرى، فإن ادارة بوش منذ لحظة مجيئها الى السلطة بدأت تعد العدة لاستراتيجية اميركية جديدة تفرض على العالم ان يخضع لإراداتها بعد ان أفلت الزمام، خصوصاً، في السنتين الأخيرتين من عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون. فالكل يذكر قرار التهيئة للانسحاب من معاهدة 1972 حول الصواريخ البالستية، ومشروع الدرع الصاروخية، وتوتير الأجواء مع الصين وروسيا وأوروبا، والانسحاب من بروتوكول كيوتو، وما حدث في مؤتمر ديربان لمناهضة العنصرية حيث اضطرت للمغادرة بعد ان فشلت كل مساعيها لفرض اجندتها على المؤتمر. الأمر الذي يعني ان الاستراتيجية الاميركية التي راحت تعمل بعد 11 ايلول، جاءت تتويجاً لاستراتيجية كان يُعد لها. وقد أفادت الى الحد الأقصى من الذريعة التي وفرتها لها الهجمات على البنتاغون وبرجي التجارة العالمية. ولكن هذا التحليل يجب ألا يقود الى التقليل من خطوة الذريعة التي سمحت بضخامتها وضحاياها ومواقع تنفيذها بأن تذهب الى حدها الأقصى. وقد أربك العالم كله، بسبب تلك الهجمات التي راحت تستغلها ادارة بوش، متجنبة هيجانها ردحاً من الأشهر. على ان الاستراتيجية الأميركية التي ظنت انها تستطيع، وتلك الذريعة بيدها، ان تفعل ما تشاء أخذت الآن تفقد زخمها وتبدأ بالعد العكسي. وذلك بسبب ما اتسمت به من غلو وتطرف وعنجهية، والأهم محاولتها اخضاع حتى الحلفاء لتبعية متمادية قصوى. الأمر الذي يتعارض مع المصالح والاستراتيجيات الأساسية للدول الأخرى عموماً، ويستفز مشاعر النخب والرأي العام والشعوب. فأميركا الآن، وفي موضوع شن الحرب على العراق، لا تجد أحداً معها غير حكومة شارون، وقد تعاظمت المعارضة الداخلية، جمهورية وديموقراطية، ضد مجموعة بوش - ديك تشيني - رامسفيلد. ومن هنا تصريح دونالد رامسفيلد حول وجوب عودة المفتشين الى العراق. وكان الموقف الرسمي الأميركي قبل ذلك لا يأتي على ذكر لجان التفتيش وعودتها. بل هنالك تصريحات تقول: حتى لو عادت سنقوم بالعمل العسكري الذي يطيح النظام. ولهذا، فسواء كان هذا الموقف تراجعاً أم مناورة، فقد جاء نتيجة ضغوط هائلة عالمية وداخلية ضد استفراد ادارة بوش بالقرار في موضوع الحرب ضد العراق. مما يدلل على ان الوضع العالمي اخذ يسترجع بعض الملامح التي فقدها بعد 11 ايلول 2001، وهو ما يمكن ان يلحظ في مؤتمر "الأرض الثاني" في جوهانسبورغ في جنوب افريقيا، وكانت اميركا نفسها في عزلة اشد بسبب طبيعة المواضيع المتعلقة بالبيئة من تلك التي عرفتها في مؤتمر ديربان لمناهضة العنصرية. وهكذا فإن جردة أو محصلة للأحداث، خلال عام من هجمات 11 ايلول تؤكد على عقم ذلك الأسلوب واضراره الفادحة المتعددة الجوانب التي أخذت في طريقها، فضلاً عن أصحابه، شعوبا وقضايا ودماء بريئة عزيزة، ووضعاً عالمياً بأسره تنقله من مدّ الى جزر، وان بصورة موقتة. ولكنها تؤكد من ناحية ثانية على ان سوء استخدام تلك الذريعة، والنية السيئة في استخدامها لتحقيق مآرب اخرى من قبل الثلاثي بوش - تشيني - رامسفيلد، جعلاها قصيرة عمر سرعان ما افتضحت وقد ضجر العالم من طريقة استغلالها. ولن تفيدها محاولات تلميعها في الذكرى الأولى الا إذا جاء من "يتكرم" بواحدة من جنسها. وتبقى موضوعتان ينبغي لهما ان تترسخا في الوعي العام: الأولى ان قوة عالمية كبرى لا تقاوم بعضلات نخبة واجسادها وفعلها، وانما بحشد شعوب العالم وأغلب دوله ضد جبروتها وطغيانها. والثانية، ان الاخطاء والخطايا في ادارة الصراع تصب في مصلحة الخصم والعدو. مما يجعل صحة الخط السياسي واسلوب العمل حاسمين في النتائج.