تؤكد النماذج المتميزة من الشعر العربي المكتوب او المنظوم باللغة المحكية أن هذا الشعر ليس هجيناً ولا طارئاً على الإبداع بل هو احد التجليات الكثيرة والمشروعة للشعرية العربية. والذين يرفضون التعاطي الإيجابي مع هذا النوع من الكتابة او التعبير فإنما يفعلون ذلك في الأعم الغالب لأسباب سياسية تتعلق بالحفاظ على وحدة الأمة ومنعها من التشرذم، منطلقين بالطبع من كون اللغة العربية الفصحى هي احدى الركائز الأساسية الجامعة للشمل العربي. على ان من يفعلون ذلك يسيئون ولو عن حسن نية للغة الضاد التي تمكنت من الصمود والمقاومة طوال قرون طويلة على رغم ما لحقها من تراجع وضمور خطيرين في ما عرف ب"عصر الانحطاط". كما ان هؤلاء ينسون ان الأمة لا تتفكك وتنهار بسبب انهيار لغتها وتفككها، بل ان هذه الأخيرة هي المرآة العاكسة لحال الأمة وصورتها في الهبوط او الصعود، في احتلال التاريخ او مغادرته الى غير رجعة. لقد بات الخوف على اللغة الفصحى يافطة كبرى للوقوف في وجه اي تغيير، سواء كان هذا التغيير من داخل الفصحى نفسها ام من خارجها، حيث كاد البعض باسم التعلق باللغة والحرص عليها ان يحوّلها الى وثن خالص او قالب لا حياة فيه من المماثلة والتكرار. والحقيقة ان اللغة كسائر الكائنات الحية لا تحتاج الى العيش في الملاجئ والأقفاص والغرف المقفلة بل الى رحابة الفضاء المفتوح والى الضوء والحرية والهواء النظيف. كما ان ديناميتها وثراءها لا يتولدان من التضييق المتعسف والمناداة بالويل والثبور كلما عثر مبدع على ضالته من خارج الشائع والمألوف بل من دينامية الأمة وقدرتها على تأهيل نفسها بما يتناسب مع روح العصر وتعبيراته، من دون ان يعني ذلك بالطبع تخلياً عن الأصالة ولا تنازلاً عن الثوابت والقيم الجوهرية. وإذا كان البعض كسعيد عقل جعلوا اللغة المحكية اداة لخدمة مشروعهم السياسي الكياني، فإن هذه الواقعة ليست حجة على المحكية بل على من يضعها حيث يجب الاّ توضع ويحولها الى حقل استثمار سياسي وإيديولوجي. غير ان ما سيبقى من سعيد عقل في اي حال لن يكون مشروعه السياسي او الإيديولوجي بل تلك الروائع الشعرية التي توزعت بين المحكية والفصحى من دون ان تقلل احداها من عظمة الأخرى. لا يتسع المجال هنا للدخول في تكوين اللهجات المحكية والنظريات المتعلقة بنشوئها، ولكن الحقيقة التي ينبغي ان تقال هي ان المحكية ليست ضرة الفصحى ولا عدوتها ولا بديلها في اي وجه. وإذا كانت المحكية تسمى لدى العامة "العامية" او "الدارجة" فلأن استخدامها وتداولها يعمان الجميع على اختلاف فئاتهم وأديانهم وطبقاتهم ومستويات ثقافتهم ولأنها تدرج على كل الألسنة وتجري بين النساء جريان الماء او الهواء، خصوصاً ان عالمنا العربي يسند ظهره الى حائط مرتفع من الأمية والجهل الفظيع باللغة الأم. على ان التهديد الماثل امام اعيننا لا يتأتى من هجوم المحكية على الفصحى بل من تخثرنا الفكري والعلمي والأدبي ومن عدم قدرتنا على الابتكار والتجدد ومواكبة العصر، حيث لا تجد اللغة بدورها ما يحفّزها على النمو والتوالد والاشتقاق والبحث عن الغامض وغير المأهول. لا بل ان المحكية بأنواعها وأنماطها المختلفة هي التي تسهم في دفع الفصحى الى الأمام من طريق التفاعل المستمر بين المعرفة والحياة أو بين المنطوق والمكتوب او بين الكتب والشوارع. ان نظرة متأملة وفاحصة باتجاه بعض النماذج الشعرية المكتوبة باللهجات المحكية وبخاصة في لبنان ومصر وبلاد الشام تظهر قدرة هذه النماذج على الارتفاع بالتعبير الشعبي والشفوي الشائع الى مستويات عالية ومتميزة تضاهي بروعتها اجمل ما تقدمه الفصحى من كشوف وتجليات. ومن يقرأ اشعار طلال حيدر وميشال طراد والأخوين رحباني وبيرم التونسي وعبدالرحمن الأبنودي ومحكيات مظفر النواب وسعيد عقل وعصام العبدالله تلفته من دون شك قدرة المحكية الحديثة على استيعاب المجازات والصور وسائر ضروب التخييل الشعري. صحيح ان هذا النوع من التعبير ارتبط لدى العامة بالزجل والإنشاد المنبري والفولكلور، لكنه في ما يتمثل هذه المصادر ويهضمها يتحرر من قيودها في المقابل ليتلمس ابعاداً ورؤى وأنماط تعبير موغلة في الجدة والابتكار والغوص الدلالي. ويجب ألاّ نغفل في هذا السياق كون اللغة المحكية متصلة في شكل وثيق بالفطرة الإنسانية المجرّدة، وبالتراب الحي للوجدان الشعبي العفوي والبعيد من التأنق والبهرجة. ان الشفوي في القصيدة المحكية ينسحب من موقع الارتجال والتسرع واللغو اليومي ليدخل في نسيج ابداعي فريد يوازن بين الجهد والتأليف الشخصيين من جهة وبين ذلك الهدير المندفع كالنهر من جهة الوجدان الجمعي للسلالة والحشد. وكما ان الفصحى غير بريئة من المتطفلين والأدعياء والمتبطلين فالمحكية كذلك. لا بل ان قربها من التناول وشيوع مفرداتها وتعابيرها بين الفئات والشرائح المختلفة يجعلانها اكثر من سواها عرضة للتسيب والفوضى ومنتحلي الصفة. وفي كل الأحوال يظل الزمن هو الفيصل والقاضي والحكم الأخير.