مفهوم التنمية والمصطلحات المتصلة به مثل التنمية الشاملة والتنمية المستدامة، كلها صناعة غربية لجأ إليها العلماء والمفكرون والسياسيون في الغرب لترسيخ النظرة الغربية الاستعلائية في التمييز والتفرقة بين المجتمعات الغربية الراقية المتقدمة والمجتمعات اللاغربية التي يطلق عليها الآن اسم المجتمعات النامية كبديل مهذب عن كلمة المجتمعات المتخلفة التي كانت تستخدم إلى ما قبل العقد السادس من القرن الماضي. ترجع التفرقة بين زمرتي المجتمعات الغربية والشرقية إلى القرن التاسع عشر، وهو عصر التفكير التطوري وعصر الاستعمار والسيادة السياسية والسيطرة الاقتصادية الغربية على العالم اللاغربي. وكان من الطبيعي والمنطقي أن يضع الغرب المسيطر المعايير والمقاييس التي يميّز على أساسها بين ما هو متقدم وراق وما هو متخلف ولكنه يجاهد لتحقيق بعض النمو والارتقاء بمساعدة الغرب وتحت إشرافه. وكان الغرب يحرص دائماً على التنصل من مسؤولية تدهور الأوضاع في مجتمعات العالم الثالث التي خضعت للاستعمار ويرد ذلك التردي إلى طبيعة التكوين الذهني والاستعداد النفسي لهذه الشعوب، إلى جانب الظروف البيئية غير المؤاتية والتي تعجز تلك الشعوب عن السيطرة عليها والتحكم فيها نتيجة لذلك القصور الطبيعي في قدراتها. والدليل على ذلك هو أن هذه الشعوب ذاتها لم تفلح في الارتقاء بنفسها حتى بمساعدة الغرب بعد أن نالت استقلالها السياسي منذ أربعة عقود كاملة. وكل الندوات والمؤتمرات الدولية التي عقدت خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية لمناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم يسيطر عليها تبادل الاتهامات عن المسؤول عن حالة التردي التي تقاسي منها مجتمعات العالم الثالث النامية من دون أن تصل إلى نتيجة. كما أن معظم المناقشات ذاتها كانت تدور حول الأوضاع السياسية والاقتصادية ولا تكاد تتطرق إلى المشكلات الاجتماعية إلا إذا كان لها بعد اقتصادي مع إغفال الأبعاد الثقافية للتنمية إغفالاً يكاد يكون تاماً إلا في السنوات الأخيرة بعد أن ألقت اليونيسكو بثقلها في مجال التنمية وتنبهت الأذهان إلى أن أحد أهم أسباب فشل معظم جهود التنمية في العالم الثالث هو عدم الاهتمام بما فيه الكفاية بالثقافات الوطنية في تلك المجتمعات، وإغفال مقتضياتها ومتطلباتها عند التخطيط والتنفيذ اللذين يتولى أمرهما في العادة أشخاص أو هيئات قد يكونون على جانب كبير جداً من الكفاية العالية ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن تلك الثقافات الوطنية، ولذا يضعون مخططاتهم من منظور أجنبي غربي لا صلة له بواقع الحال في المجتمعات التي يخططون لتنميتها. وكما يقول جو ماري شانكر في مقال له عام 1998 في نشرة اكسبرس التي يصدرها المركز الدولي لمعلومات التنمية كندا "إن مفهوم التنمية لم يعد قاصراً الآن على محاولة اللحاق اقتصادياً بالدول الأكثر تقدماً بقدر ما يهتم بالكشف عن قدرات الشعوب النامية وإمكان استغلال هذه القدرات على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، ما يعني ضرورة تعرف ثقافات هذه الشعوب ودراستها دراسة عميقة لفهمها والاسترشاد بها. كما يعني أن التنمية ذاتها خرجت من نطاق الاقتصار على الاهتمام بمشكلات اقتصادية ضيقة محدودة ومحددة والانطلاق إلى مجالات أوسع وأرحب يصعب تناولها بكفاية من دون الإحاطة الشاملة والدقيقة بتلك الثقافات الوطنية. كما أن الالتفات إلى هذه الثقافات لا يعني فقط معرفة مدى تقبل تلك الثقافات للمشروعات المقترحة من الهيئات والمنظمات الغريبة ولا حتى مجرد الاسترشاد بالعادات والأعراف والقيم الثقافية التقليدية في وضع مشروعات التنمية، وإنما هو يقتضي في الوقت ذاته تعرف الهوية الثقافية للمجتمع لأن هذه الهوية تختلف من دولة لأخرى حتى داخل الدائرة الثقافية الواحدة التي تنتمي إليها هذه الدول. فإذا كانت مجتمعات الدائرة الثقافية الواحدة تشترك جميعها في بعض الخصائص والمقومات الثقافية الكلية أو العامة العموميات الثقافية، فإن كلاً منها ينفرد بخصائص وعناصر ثقافية معينة تميزه عن غيره الخصوصيات الثقافية، وهذه الخصوصيات الثقافية تلعب دوراً مهماً في قبول أو رفض مشروعات التنمية بحيث إن ما قد يتقبله المجتمع المصري والإنسان المصري من مشروعات قد يرفضها المجتمع السعودي والإنسان السعودي - مثلاً - على رغم انتماء المجتمعين وأعضائهما للدائرة الثقافية العربية الإسلامية، وذلك من دون نظر إلى توافر الإمكانات والحاجات المادية لتلك المشروعات. فالعامل الأساسي والحاكم هنا هو نوع النظرة إلى الذات وإلى العالم وإلى الحياة. وعلى سبيل المثال، فإن إغفال بُعد الهوية الثقافية كان وراء فشل مشروع كان يبشر في ظاهره بالنجاح وهو مشروع برنامج الغذاء العالمي الذي أريد تطبيقه في الصحراء الغربية بمصر، وبمقتضاه كانت المنظمة العالمية توفر الغذاء للبدو والأعلاف للقطعان، على أمل أن يؤدي ذلك إلى الاستقرار في الأرض والتحول إلى الزراعة. ولكن نظرة البدو المتعالية إلى أنفسهم وإلى الفلاحين وإلى استعباد الأرض الزراعية للفلاح الذي يرتبط بها والحرمان من حياة التنقل والترحال والحرية أدت إلى فشل المشروع تماماً على رغم حالة الشقاء والشظف التي يعاني منها البدو بحكم أسلوب الحياة البدوية في الصحراء. ومؤتمر اليونيسكو في مكسيكو سيتي عام 1982 عن السياسات الثقافية ينص على أن الثقافة تتخلل نسيج الحياة كله حيث قد يمكن الخلط بينها وبين الحياة ذاتها وعدم القدرة على الفصل بينهما. ومع ذلك فإنه كثيراً ما يعترض بعض المهتمين بالتنمية على أخذ الثقافات التقليدية في الاعتبار عند التخطيط والتنفيذ بزعم أن الثقافة محافظة بالضرورة بل ورجعية وتشد الإنسان إلى الماضي بحكم علاقتها بالتقاليد والقيم والأعراف المتوارثة وهو ما يتعارض مع مفهوم التنمية بأبعادها التقدمية والمستقبلية. وأنه لكي تلحق المجتمعات النامية بالعالم المتقدم فإنه يتعين عليها أن تتخلص أولاً من كثير من عناصر الثقافة التقليدية بكل ما تحمله من أوهام وغيبيات تمنعها من مسايرة الأوضاع المتغيرة في العالم المعاصر. وأن تتقبل القيم والأوضاع وأنماط السلوك وأساليب التفكير العقلاني السائدة في الغرب المتقدم حتى تستطيع تحقيق التقدم الاقتصادي المنشود والتحرر من نظم الحكم التقليدية الفاسدة وإقرار حقوق الإنسان. وهذه مطالب يصعب تحقيقها بلا شك لأنها تعني انسلاخ المجتمع من تاريخه وتراثه الذي يؤلف العنصر الأساسي في هويته الثقافية والاجتماعية. ولذا تعتبر هذه المطالب نوعاً من الانتحار بما يطلق عليه بعض الكتاب الغربيين أنفسهم اسم أسفكسيا الثقافة. وأنه مهما يكن من شأن الثقافات الوطنية التقليدية وارتباطها بالماضي أكثر من ارتباطها بالحاضر والمستقبل - كما يتصورهما الغرب - فإن هذه الثقافات تؤلف جزءاً مهماً من التراث الإنساني الذي لا يمكن التفريط فيه أو السماح بزواله واندثاره. ويبالغ البعض في ذلك إلى حد القول ان مشروعات التنمية التي تتعارض مع هذا التراث وتتطلب التنكر لبعض عناصره يجب الانصراف عنها تماماً حتى وإن كان ذلك على حساب المكاسب الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تحققها هذه المشروعات. ويمكن الخروج من هذا المأزق الناشئ عن تضارب وجهات النظر إذا أمكن توسيع النظرة إلى مفهوم الثقافة حتى يشمل إلى جانب الأبعاد الماضوية النظرة إلى العالم فتعتبر الثقافة أداة للاتصال والتواصل من خلال اللغة والفكر وعاملاً مساعداً في توجيه السلوك في الحاضر والمستقبل والتخطيط لذلك المستقبل من خلال الاستشهاد والاسترشاد بمسيرة المجتمع خلال التاريخ، واعتبارها معياراً مهماً للتفاضل الاجتماعي والتعاون المتبادل داخل المجتمع على ما يقول علي المزروعي أستاذ السياسة الكيني - الأميركي. والمشكلة الأساسية في هذا كله ناجمة من أن الغرب ينسى - أو يتناسى - أن ثقافات العالم اللاغربي بما في ذلك الثقافات البدائية كما كانت تسمى حتى وقت غير بعيد، كانت دائما مصدر إبداع بل وتجديد في حدود الإمكانات المتوافرة لها، كما كانت تتمتع بالقدرة على التشكل تبعاً لتغير الظروف المحيطة بها وأنها لم تكن في وقت من الأوقات جامدة أو عاجزة عن التطور على رغم الفوارق الشاسعة بينها وبين ثقافات الغرب التي ظهرت نتيجة ظروف وأوضاع مختلفة وخاصة بها. وليس المقصود من ذلك الدفاع بأي حال من الأحوال عن تدهور الأوضاع في العالم الثالث. ووجود هذه الفجوة الواسعة والسحيقة بين المجتمعات الغربية والمجتمعات اللاغربية عل المستويات كافة وتطلع شعوب العالم الثالث إلى ردم هذه الفجوة واللحاق بالعالم المتقدم واستعداد العالم الغربي - ولو على استحياء وبكثير من التردد - في المساعدة أمور تتطلب محاولة الفهم المتبادل، وهي مسألة غير هينة وتحوطها كثير من الشكوك الراسخة في العالم الثالث والمتوارثة عن تاريخ استعماري طويل مملوء بالمظالم ومظاهر الاستبداد والاستعباد والاستغلال. ولكن هذا لا يعني استحالة التوصل إلى درجة معقولة من التفاهم والتعاون مما يخفف من حدة الانقسامات القائمة الآن على أرض الواقع والتي تعبر عن نفسها في ذلك الصخب العالي الذي يصاحب المؤتمرات الدولية في استنكار ورفض واضحين لمواقف وسياسات وتاريخ الدول الغربية وعلى رأسها أميركا بطبيعة الحال. * أنثروبولوجي مصري.