Henry Panhuys et Hassan Zaoual ed.. Diversite des Cultures et Mondialisation. تنوع الثقافات والعولمة. L'Harmattan, Paris. 2000. 214 pages. اذا كانت الديموقراطية، في احد تعاريفها الممكنة، تقبل الرأي الآخر، فلأصارح القارئ بأن قراءتي لهذا الكتاب - وبالتالي كتابتي عنه - ما كان لها ان تكون ديموقراطية. فمن دون ان تنجح أية اطروحة من اطروحاته في انتزاع اقتناعي الشخصي، فإنه في جملته لم يفلح إلا في استفزاز حسي النقدي. الكتاب، الذي شارك في تأليفه سبعة باحثين تنمويين من بلدان وقارات مختلفة، هو ثمرة لتعاون مجموعتين دوليتين للبحث في مجال ثقافة التنمية: مجموعة البحث حول الاقتصادات المحلية التابعة لمعهد بحار الشمال في جامعة الساحل الفرنسية، وشبكة الجنوب - الشمال للثقافات والتنمية، وهي منظمة غير حكومية مقرها في بروكسيل في بلجيكا ولها امتدادات دولية في اوروبا وآسيا وافريقيا واميركا اللاتينية. وكما يشير عنوان الكتاب، فان موضوعه هو "العولمة" وما تمثله من خطر - فعلي او موهوم - على "تنوع الثقافات" في العالم، وليست هذه الاطروحة بحد ذاتها هي "الاستفزازية": فالعولمة كانت ولا تزال على مدى السنوات العشر من عمر هذا المفهوم الفتيّ مسألة "خلافية" يختصم الباحثون والمفكرون حول ايجابياتها وسلبياتها وتتوزع مواقفهم منها بين من يعتبرها "فخاً" وبين من يرى انها تمثل "فرصة" الى جانب كونها "تحدياً". ولكن ان تكن "العولمة" تقدم على هذا النحو المناسبة والذريعة، فان اكثر ما يفاجئ قارئ هذا الكتاب ويستفزّه ان يكتشف - وهو يتقدم في قراءة مساهمات المساهمين فيه - ان موضوع العداء الحقيقي لهؤلاء الباحثين "التنمويين" هو مفهوم "التنمية" نفسه. فالتنمية في اجماع نظرهم هي "اقنوم" من أقانيم ابشع "ثالوث" اخترعته الحضارة الرأسمالية الحديثة: الاستعمار - التنمية - العولمة. وهم لا يكتفون على هذا النحو بأن يضعوا مقولة "التنمية" في نقطة التوسط بين مقولتين مؤبلستين: "الاستعمار" و"العولمة" بل يصعّدون نقدهم لها الى حد اعتبارها أشد خطورة ومكراً لأنها بمثابة "حصان طروادة" الذي منه يستطيع شيطان الحضارة الصناعية الرأسمالية الغربية ان يتسلل الى القلعة المنيعة للثقافات الاخرى اللاغربية ويفتك بها من داخلها. هكذا يدفع تييري فرهلست وهو "المؤسس والمنسق الدولي" لشبكة الجنوب - الشمال للثقافات، "التنمية" بصفتها "حلم الرجل الابيض" ووسيلته الايديولوجية - مع غيرها من المفاهيم الموازية مثل "التقدم" و"النمو" و"التخطيط" - لغزو ثقافات العالم ولفرض "الديانة الاقتصادية" للحداثة الغربية على سائر ثقافات العالم المتميزة عنها، وربما المتفوقة عليها، برفضها - من موقع ديني وروحي في الغالب - مفهوم "الانسان ذي البعد الاقتصادي الواحد". ان "التنمية" و"التقدم" و"التحديث" لا تعني شيئاً آخر في نهاية المطاف، في نظر مؤسس "شبكة الثقافات"، سوى "التغريب". ومن ثم فلا عجب ان تكون برامج التنمية قد فشلت في جميع بلدان العالم غير الاوروبي. ففشلها هو "الدليل على الحيوية الثقافية للشعوب". فرفض التنمية هو تعبير عن مقاومة سافرة او ضمنية، لإمبريالية الشمال الثقافية، واثبات في الوقت نفسه لأصالة الجنوب الثقافية. فالتنمية ليست مسألة اقتصادية وتقنية، بل هي مسألة ثقافية. والمثل الاعلى للتنمية على الطريقة الغربية يناقض المُثل العليا للثقافات غير الغربية. فالمنطق الذي يحكم عملية التنمية على الطريقة الغربية هو منطق العقلانية الاقتصادية والتقنية المحضة، في حين ان رؤية العالم التي تصدر عنها الثقافات اللاغربية هي رؤية ما فوق عقلانية، لا تختزل الانسان الى محض انسان اقتصادي او عقلاني، بل تتعداه الى نوع من انسان اعلى او مفارق، جوعه الى القيم اعظم ومقدم على جوعه الى الخبز. ان الثالوث غير المقدس: الاستعمار - التنمية - العولمة قد حكم على الحضارة الغربية "المادية" بالإفقار الروحي والضمور القيمي، وهو يهدد اذا ما عمّ العالم بأن يقود الحضارات الاخرى، الافريقية والآسيوية والبوذية والاسلامية والطاوية والإحيائية الى فقر الدم الروحي نفسه. فالحضارة الغربية الصناعية - التقنية قد نزعت صفة المقدس عن كل شيء في الوجود، على حين ان كل ما في الوجود مقدس في نظر مختلف الثقافات اللاغربية. والواقع ان البؤس الروحي للعالم الغربي قد بدأ مع ابي الحداثة رينيه ديكارت. فهذا الفيلسوف هو اول من وضع الغرب على طريق الاستلاب عندما حدّد له كمهمة حضارية السيطرة على الطبيعة. فابتداء من لحظة ديكارت كفّ الغرب عن ان يكون "حكيماً" ليغدو "مخترعاً". وعلى عكس "الحكمة العتيقة"، حكمة المتصوفة والروحانيين في جميع الثقافات القديمة التي كانت ترى في العالم سراً لا يسبر له غور، حصرت الحداثة الديكارتية مهمتها بتجريد العالم من سره عن طريق الكشوف العلمية. لكن لئن يكن الغرب خان نفسه عندما استغنى بديكارت عن فرنسيس الأسيزي او عن المعلم ايكهارت كبير متصوفة المانيا في القرن الرابع عشر، فإن الثقافات اللاغربية الرافضة للكوجيتو الديكارتي ولعقل الهيمنة على الطبيعة، الذي هو العقل الديكارتي، تستطيع، بمقاومتها لأقانيم الثالوث غير المقدس، ان تعيد الى العالم سره وقداسته، بعيداً عن "الصخب والعنف" اللذين أغرق فيهما الغرب - ومعه العالم - نفسه. بلى، ان التنمية كانت حلم الحداثة الغربية. لكن هذا الحلم قد تكشف عن انه كابوس. والغرب بحاجة الىوم الى غير الغرب ليوقظه من كابوسه. ورفض التنمية على الطريقة الغربية هو اليوم الامل الوحيد للعالم - وللغرب نفسه - في الخلاص. فالبشرية، ببلايينها الستة اليوم وببلايينها العشرة في القرن القادم، لا تستطيع ان تعيش كما يعيش البليون من الغربيين اليوم. فلو استهلكت كما يستهلكون، ولو لوثت البيئة كما يلوثون، لنضبت موارد الارض ولانفجرت الكرة الارضية بمن فيها. وضداً على مادية الغرب وتبذير الغربيين، لا بد من العودة الى روحانية الثقافات اللاغربية وتقشف الانسان اللاغربي. وبهذا المعنى، فإن افريقيا برفضها اسلوب التنمية الغربي وبإصرارها على ان تبقى أفقر قارات الارض واكثرها تخلفاً، قد تكون الأكثر حكمة والأبعد نظراً بين سائر القارات الخمس. فهي لا تدفع من تخلفها ضريبة تقدم الغرب فحسب، بل تنهض، برفضها وعذاباتها، شاهداً شهيداً على ان تعميم النموذج الحضاري الغربي على مستوى العالم اجمع ليس قدراً محتوماً. هذه الاشادة باستعصاء افريقيا على التقدم على الطريقة الغربية تقترن بمديح لا يخفي نفسه لجميع اشكال المقاومة - او ما يفترض انه مقاومة - لحضارة الغرب الرأسمالية الصناعية "المادية". فمن علائم هذه المقاومة، كما يفترض تييري فرهلست، ظاهرة "الاقتصاد اللامرخّص" او "الاقتصاد الشعبي" كما يسمىه، في اميركا اللاتينية حيث تشير الاحصائيات الى ان 20 - 25 في المئة من اليد العاملة في مدن الصفيح في تشيلي باتت تعمل في القطاع اللامرخص، بعد ان اثبت الاقتصاد الرسمي عجزه عن استيعاب كامل قوة العمل المتاحة. ف "اقتصاد الفقراء" هذا لا تصدق عليه مقولات الرأسمالية ولا حتى مقولات "الماركسية" التي توزع الاقتصاد الى قطبين لا ثالث لهما: الرأسمال والعمل. والحال ان "مبادرة الجماهير الشعبية" في مدن الصفيح اضافت بعداً ثالثاً هو، كما يسميه مؤسس "شبكة الثقافات" "البعد ت" الذي هو في المقام الاول بعد اخلاقي تجهله النظرية المادية الرأسمالية والماركسية على حد سواء، والذي يتمثل بكل المقولات التي تبدأ بحرف التاء: التعاون، التضامن، التكافل والتآزر الخ. ومما يعزّز البعد "الروحي" لهذا الاقتصاد الشعبي كونه قد استغنى عن "العملة الرسمية" واخترع اشكالاً من عملات بديلة يحكمها منطق التقايض الاجتماعي، لامنطق الربح المادي والأناني. وخلاصة القول ان هذا الاقتصاد الشعبي، او "اقتصاد الناس الذين من تحت" هو اقتصاد غير اقتصادوي، اقتصاد متمرد على قوانين السوق، وهدفه تأمين الوجود لا مراكمة الرأسمال. وبكلمة واحدة، ومهما بدت العبارة مفارقة، انه "اقتصاد اخلاقي". ولن نتوقف هنا عند هذا التأويل الهذائي للقطاع اللامرخص على انه مقاومة شعبية للنظام الاقتصادي للرأسمالية العالمية. وانما حسبنا ان نشير الى ان هذا التصعيد المثالي لعذابات سكان مدن الصفيح في اميركا اللاتينية ليس من شأنه ان يساعد على وضع نهاية لها. فالاقتصاد اللامرخص هو بكل تأكيد اقتصاد "تحتي" ابتدعه مستبعَدو الهامش كاستراتيجية للبقاء في ظل نظام عاجز بالفعل عن استيعاب كامل قوة العمل المتاحة. لكن هذه الاستراتيجية المبتدعة تبقى استراتيجية دفاعية للبقاء على هامش الرأسمالية، وليست استراتيجية هجومية لتقويضها في مركزها. وبدلاً من الغنائية والمثالية الكاذبة، فانه لا يعسر علينا ان ندرك ماذا يمكن ان يكون الحلم الواقعي لفعلة القطاع اللامرخص في مدن الصفيح العالمثالثية: الدخول في مدار النظام الاقتصادي للرأسمالية العالمية وليس البقاء في هامشه وفي حالة استبعاد حتى من الاستغلال الرأسمالي. وبعبارة اخرى، انه ليس حلماً ثورياً بالمقاطعة الاقتصادية بل حلم امتثالي بالاندماج وبتحول القطاع اللامرخص نفسه في يوم من الايام الى قطاع "رسمي". والعجيب ان مؤلفي "تنوع الثقافات والعولمة" لا يكتفون بالتأكيد على ضرورة القطيعة الاقتصادية للحضارة الصناعية الغربية، بل يقولون بضرورة القطيعة مع ما يسمونه ب"الخطابة الغربية" او حتى مع "الابستيمولوجيا الغربية" كما يقول حسن زوال، منسق الكتاب. فالعلم الغربي منذ ديكارت، بل حتى منذ ارسطو، هو علم بالكليات، والحال ان ما يحتاجه العالم اللاغربي هو علم بالخصوصيات والفرادات. ومثل هذا العلم التفريدي لا يقدمه العلم الغربي الجاف والتعميمي، بل تقدمه الروحانيات والصوفيات اللاغربية، وكتاب "تنوع الثقافات والعولمة" ليس في محصلة الحسابات سوى دعوة مفتوحة الى القطيعة الثقافية الشاملة، اقتصاداً وخطابة وعلماً ورؤية للعالم. ولا اكتم القارئ ان أذنيّ مسدودتان سلفاً امام مثل هذه الدعوة. ولهذا قلت ان قراءتي لهذا الكتاب ما كان لها ان تكون ديموقراطية: فعندما يكون الرأي الآخر "آخراً" الى هذا الحد فانه يتعذّر عليّ ان أدخل في حوار معه.