أثارت مشكلة الديموقراطية في العالم الثالث وأساليب تطبيقها وطرق الخروج على مقتضياتها، كثيراً من الاهتمام أثناء انعقاد مؤتمر "التنمية والأخلاقيات الثقافية" الذي عُقد في هافانا من 7 إلى 11 حزيران يونيو الماضي، وشارك فيه ما يقرب من ألف عضو يمثلون 34 دولة ينتمي معظمها الى العالم الثالث في افريقيا وأميركا اللاتينية وشرق آسيا. ولم تقتصر المناقشات حول الديموقراطية كنظام سياسي أو شكل من أشكال الحكم وإنما تعدت ذلك الى الديموقراطية كأسلوب للحياة، تحكمه منظومة متكاملة من القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تنظم العلاقات بين الناس في حياتهم اليومية العادية، وأنها تتطلب توافر عدد من الشروط ربما كان أهمها حرية الرأي والتعبير بالطرق والوسائل كافة، في الأمور التي تتعلق بحياة الفرد والمجتمع. ومن هنا تأتي علاقة الديموقراطية كقيمة بتنمية المجتمع، خصوصاً التنمية البشرية، وكانت تلك فرصة رائعة لتعرّف وجهات النظر المختلفة التي تعتنقها مجتمعات العالم الثالث حول مفهوم الديموقراطية بحيث إن بعض الدول الخاضعة للحكم العسكري مثلاً، أو تخضع لنظام الحزب الواحد كانت تزعم أنها مجتمعات ديموقراطية وأنها تعترف بالحقوق المدنية والسياسية لشعوبها، ومثلها في ذلك مثل أعرق الديموقراطية في الغرب. وكان طريفاً أن يهاجم بعض دول اميركا اللاتينية، بالذات الغرب ممثلاً في اميركا الشمالية لأن الغرب الديموقراطي كثيراً ما يخرج على مقتضيات الديموقراطية حين تتطلب مصالحه ذلك وأنه كثيراً ما كان يؤازر النظم الديكتاتورية ويساعدها على البقاء ضد رغبة شعوبها، بل وقد يشجع من وراء ستار عمليات الإرهاب كما حدث في كثير من دول اميركا اللاتينية سواء أيام الحرب الباردة أو بعدها، وكان المؤتمر مناسبة دولية فريدة لفضح كثير من الممارسات الاميركية في دول اميركا اللاتينية واميركا الوسطى، بحيث تحول بعض الجلسات الى نوع من المحاكمة الأخلاقية العلنية لأميركا والغرب عموماً في مؤازرتها لبعض الحكام الطغاة المستبدين ثم تحُوّل عنهم، بل المطالبة بمحاكمتهم ومطاردتهم باسم الدفاع عن الديموقراطية، كما كان المؤتمر مناسبة أيضاً للكشف عن كثير من العمليات الإرهابية التي قامت وتقوم بها الC.I.A في مؤازرة الحكم الديكتاتوري والتدخل في عمليات الانتخابات حين كانت تبشر بنتائج لا تتفق مع السياسة الاميركية ومصالحها. والأمثلة كثيرة اعتباراً من التدخل في تشيلي العام 1973 وقبلها في البرازيل العام 1961 والتدخل في انتخابات، نيكاراغوا العام 1982 وهكذا، مما يعني أن الغرب واميركا خصوصاً تستخدم مفهوم الديموقراطية بمعايير مختلفة لتحقيق سياسات خاصة بها، وأنه مستعد للذهاب في ذلك الى حد مساعدة العسكر ضد المدنيين والعمل على تحجيم أو حتى القضاء على فاعلية الأحزاب السياسية والنقابات العمالية التي تعتنق ايديولوجيات مخالفة. فالديموقراطية إذن لعبة في ايدي الدول الغربية ذاتها، كما يرى بعض دول العالم الثالث، مثلما هي لعبة في ايدي الطغاة والمستبدين الذين يزعمون أنهم يحكمون باسم الشعب ولمصلحة الشعب، كما أن دعاوى الديموقراطية يمكن استخدامها في تحقيق أهداف خاصة، وأن الغرب الديموقراطي كثيراً ما يخرج على قواعد وأصول اللعبة الديموقراطية. فالبعد الأخلاقي في مفهوم الديموقراطية كثيراً ما يختفي ويتوارى أو يتم إغفاله والقفز فوقه إن كان في ذلك ما يحقق مصلحة الجماعات والدول والأنظمة، التي تنادي بالديموقراطية كمبدأ ونظام للحكم وأسلوب للحياة وتنظيم للعلاقات بين الناس وإقرار حقوقهم السياسية. وهنا لا يمنع من أن يكون الغرب حريصاً على نشر الديموقراطية كنظام سياسي في دول العالم الثالث بالطرق والوسائل كافة، بما في ذلك منع المعونات الاقتصادية التي تحتاجها الدول النامية لتحقيق مشروعاتها التنموية والارتفاع بمستوى شعوبها الاقتصادي والاجتماعي، وهو اسلوب يرى فيه بعض دول العالم الثالث نوعاً من فرض الهيمنة السياسية والاقتصادية من الغرب على بقية شعوب العالم. ولكن المهم هنا هو أن فهم ديموقراطية العالم الثالث - حيث توجد هذه الديموقراطية - يجب أن ينظر إليها في إطار علاقات الغرب المتقدم بالعالم الثالث الذي يعتمد على الغرب في كثير من مقومات الحياة الحديثة المعقدة. والواقع أن كثيراً من مجتمعات العالم الثالث كان اتجه الى الديموقراطية مع نهاية الحرب العالمية الثانية وما تبعها من استقلال كثير من المستعمرات في افريقيا خصوصاً ورغبة تلك الدول الناشئة في الأخذ بأسلوب الغرب في الحكم. وفي ما سيتعلق بافريقيا مثلاً كان الزعماء الافارقة الذين حملوا لواء الصراع من اجل الاستقلال ذوي ثقافة غربية عموماً، وذلك ابتداء من ليوبولد سنغور زعيم السنغال الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة الفرنسية على رغم أنه تزعم في وقت من الأوقات حركة الزنوجة أو الدعوة الى الزنجية التي أنشأها مع شاعر المرتنيك العظيم إيميه سيزير، الى كوامي نكروما، أول رئيس لغانا بعد استقلالها العام 1957 والذي درس في اميركا وبريطانيا، الى جومو كنياتا الذي قاد حركة "ماو ماو" التحررية، ولكنه كان تلقى تعليمه في النثربولوجية في لندن، وألف كتابا عن وطنه عنوانه "في مواجهة جبل كينيا"، يدرس في المجتمع الكيني من وجهة نظر وطنية، ثم أصبح رئيساً لوطنه بعد الاستقلال أيضاًَ. وهناك كثيرون غير هؤلاء تلقوا تعليمهم وثقافتهم في الغرب وكانوا يشجعون الديموقراطية كنظام مهم، ولكن لم يلبث هذا الاتجاه نحو الديموقراطية أن انحرف عن المسار النموذجي نتيجة لعوامل واعتبارات قبلية وصراعات عرقية قائمة في تلك المجتمعات، وهو ما لا تتعرض له الديموقراطية في الغرب في العادة، وتتراوح مظاهر هذا الانحراف بين تزييف الانتخابات وشراء الاصوات أو حتى سرقة صناديق الانتخاب، الى استخدام العنف الفيزيقي ضد الطرف المعارض، الى التصفية الجسدية للمعارضين كما يحدث في كثير من الدول الافريقية ودول اميركا اللاتينية. ولم يترفع عن الالتجاء الى هذه الوسائل بعض الزعماء الوطنيين انفسهم مثلما حدث مع نكروما، الذي سجن صديقه المثقف دنكاه ونفى صديقه الآخر كوفي بوزيه، أو مثلما حدث مع كنياتا الذي تغاضى عن مقتل رجل مثل كاريوكي، وهكذا. وكثيراً ما تنشأ المعارضة في دول العالم الثالث نتيجة للاختلافات الشخصية، أو النزاعات القبلية والعرقية، او الرغبة في تحقيق بعض المطامع الخاصة ولكنها قليلاً ما تظهر نتيجة الاختلاف حول مبادئ الحكم وقيم الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان مثلاً. فالمعارضة في عدد كبير من الدول الافريقية ظهرت نتيجة انقسام "الصفوة السياسية" الحاكمة على نفسها بحيث انفصلت عنها "صفوة" معارضة تعمل على الوصول الى الحكم من خلال مهاجمة "الصفوة" الحاكمة فعلاً واتهامها بالتسلط والديكتاتورية والتنكر لمبادئ الديموقراطية والتخلي عن تحقيق مطالب الشعب وغير ذلك من قائمة الاتهامات الطويلة المعتادة والمعروفة في مثل هذه الأحوال. ولكن هذه "الصفوة المعارضة" لا تلبث أن تنهج هي ذاتها النهج نفسه حين تصل "إذا وصلت على الاطلاق" الى كراسي الحكم، ما يعني في آخر الأمر أن الانتخابات في كثير من دول العالم الثالث ليست أكثر من وسيلة لتحديد واختيار "الصفوة" التي تمارس القهر والتسلط والاستبداد. أي أن المسألة في حقيقتها هي مسألة اختيار بين مجموعتين أو أكثر من الحكام المستبدين. وهذا هو ما اسفرت عنه سلسلة الانتخابات التي اجريت خلال العقود الأخيرة في افريقيا منذ الاستقلال، وكذلك في كثير من دول اميركا اللاتينية منذ الحرب العالمية الثانية. فكثيراً ما كانت الانتخابات الديموقراطية الحرة تؤدي الى تركيز السلطة في يد رئيس الدولة الذي يخفي ديكتاتوريته وراء نظام حزبي مزيف وخادع، وما يبدو على أنه تعدد حزبي في بعض تلك المجتمعات هو انقسام للصفوة السياسية على ذاتها لأسباب لا تتصل بالمبادئ في كثير من الأحيان، وينشأ عن ذلك الانقسام ظهور صفوة تمسك في يديها مقاليد الحكم بينما تقوم الصفوة المضادة بمهمة المعارضة والنقد والتحدي وإن كان هناك شك في مدى صدقية الصفوتين في الإيمان بالديموقراطية كمبدأ وقيمة. فهناك إذن نوع من "الوحدة الجدلية" بين كثير من الذين يتولون السلطة في المجتمعات النامية، وافريقيا، هي مثال واضح لذلك، وبين الذين يتزعمون المعارضة ويتنادون بتطبيق الديموقراطية التي يرون أن الصفوة الحاكمة اخفقت في تحقيقها. وكانت كلتا الصفوتين تنتميان في الأصل الى جماعة حاكمة واحدة قبل أن تطفو المطامع الشخصية والحزازات القبلية والصراعات العرقية على السطح. والسؤال الذي يجب أن تسأله دول العالم الثالث وتصل فيه الى إجابة واضحة، وصريحة هو: ما مصير وما مستقبل الديموقراطية بعد انفراد الغرب واميركا بالذات بالهيمنة على مقدرات شعوب العالم؟ وفي هذا السؤال دعوة الى وضع الغرب وسياساته واخلاقياته وسلوكياته وأنماط تفكيره تحت مجهر البحث مثلما جعل الغرب من العالم اللاغربي موضوعاًَ للبحث والدراسة خلال عقود طويلة. * انثروبولوجي مصري.