تواجه العولمة أزمة حادة نتيجة تعقد ارتباط العلاقات بين الغرب والعالم اللاغربي والمواقف الاميركية من نظم الحكم السائدة في كثير من مجتمعات العالم الثالث وتدخلها السافر في الشؤون الداخلية لتلك المجتمعات ومحاولة فرض سياسات معينة عليها، بحيث تلتزم بها وإلا تعرضت للعقوبة. تراود الشكوك فكر الكثيرين من المثقفين ورجال السياسة في العالم الثالث، ويتراجعون عن سماع الدعايات الغربية من أن العولمة ستؤدي الى الارتفاع بمستوى الشعوب الفقيرة، بفضل تحرير التجارة العالمية والتحول الى اقتصاديات السوق وما ستحققه من تقارب بين الثقافات ودعم قواعد الديموقراطية ومشاركة الشعوب في اتخاذ القرار السياسي الذي يؤثر في حياتها، وما الى ذلك من دعاوى لم يلبث أن ظهر زيفها في الفترة الأخيرة منذ أحداث ايلول سبتمبر في العام الماضي. فأميركا التي تحمل لواء العولمة وتسخِّر لذلك جانباً كبيراً من إمكاناتها في مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والاعلام، بدأت تملي من مركز الشعور بالقوة ارادتها على المجتمع الدولي وعلى دول العالم الثالث بالذات، وتتدخل في تحديد أقدار الشعوب ومصائرها وترسم لها الطريق الذي يجب عليها ان تسلكه حتى تنال الرضى، ما يعني في آخر الأمر خضوع تلك الشعوب والدول سياسياً واقتصادياً وثقافياً لتوجهات الغرب عموماً وأميركا خصوصاً. والامثلة على ذلك كثيرة، وأقربها إلينا موقف الولاياتالمتحدة من العراق وإعلانها ضرورة تغيير نظام الحكم فيه ولو بالالتجاء الى القوة العسكرية، ومطالبتها الصريحة بضرورة إدخال تعديلات على السلطة الفلسطينية، وتدخلها في شؤون القضاء المصري، والتهديد بعدم تقديم أي مساعدات اضافية لمصر عقاباً لها على الحكم الصادر ضد أحد الرعايا المصريين الحاصلين على الجنسية الاميركية، ثم هناك اخيراً تصريح رئيس الاركان الاميركي - أو أحد مساعديه - أن للولايات المتحدة القدرة على ضرب أي مكان في العالم، وهو تهديد مباشر للدول التي لا تخضع للمشيئة الاميركية، وهذا يفسر حركات الاحتجاج والتظاهرات الصاخبة التي تثور في أنحاء العالم حين تعقد المؤتمرات الدولية ويحضرها ممثلو الدول الكبرى كما حدث في سياتل ودافوس وديربان. ومن الطبيعي ان تشعر الدول الغربية بالقلق ازاء تزايد حركات الاحتجاج والهجوم على العولمة ورفضها. فالغرب يرى أن العولمة أمر واقع ولا بد من التسليم به والانصياع الى القواعد والقوانين التي يحددها الغرب والاقوياء عموماً ويحاولون فرضها بكل الوسائل والسبل على الدول النامية. ولكن في الوقت الذي تتجاهل أميركا هذه الحركات المعارضة ويترفع رئيسها عن حضور مؤتمر قمة الأرض في جوهانسبورغ لإدراكه نوع الهجوم الذي ستتعرض له بلاده باعتبارها أكبر مصدر لتلويث البيئة، تنظر الدول الاوروبية الى هذه الحركات نظرة عقلانية، تحاول معرفة اسبابها، وكيفية التوفيق بين المواقف المتضاربة والتقريب بين مطالب الدول النامية والطبقات والفئات الفقيرة وبين المبادئ التي تقوم عليها الدعوة الى العولمة، بالعمل على توسيع نطاق الديموقراطية وتطبيق التعديلات الجذرية في الاقتصاد العالمي بما يكفل الارتقاء بالمستويات الاقتصادية للشعوب النامية على أساس أن الأخذ بالأساليب الديموقراطية في الحكم يساعد على الازدهار الاقتصادي. ظهر هذا الاتجاه واضحاً في المؤتمر الذي دعت مؤسسة فريدريش ايبرت الالمانية عقده في برلين يومي 15 و16 آذار مارس الماضي لمناقشة مشكلة "العولمة والديموقراطية" واقتراح الاستراتيجيات التي تحقق المشاركة السياسية والتقدم الاقتصادي في الاقتصاد المعولم، والتي تكفل في الوقت نفسه القضاء على المواقف السلبية الحالية من العولمة وازالة المخاوف السياسية والاقتصادية التي تسيطر على فكر الدول النامية والفئات المستضعفة في الدول المتقدمة. ولكي تضمن المؤسسة التعريف بالمؤتمر ورسالته على أوسع نطاق ممكن عهدت الى أحد اساتذة جامعة هارفارد، دالي رودريك، إعداد ورقة عن الموضوع بثتها من طريق شبكة الانترنت ودعت عدداً من المفكرين والعلماء من العالم الغربي والعالم الثالث لمناقشتها من طريق الانترنت ايضاً، لكي تتسلم أكبر قدر ممكن من آراء أو أفكار المهتمين بالعولمة وما فيها من ايجابيات وسلبيات. وفي ضوء هذه الافكار المتباينة دار النقاش حول عدد من التساؤلات عن التحديات الأساسية التي تواجه دول الغرب المتقدمة في محاولتها تطبيق المبادئ الاساسية للعولمة مثل مشكلة التوفيق بين السياسات الوطنية والسياسات العالمية، وإمكان مشاركة الدول النامية في صنع القرارات ذات الصلة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التقليدية والتي يصعب التخلي عنها بسهولة، والوسائل الكفيلة بتحقيق الديموقراطية والمشاركة الشعبية المدنية في شكل يتلاءم مع الفهم الغربي من دون إثارة حساسيات لدى تلك الشعوب، وإلى أي حد يمكن الاعتماد على الاتجاه المتزايد ظاهرياً في العالم اللاغربي نحو الديموقراطية في ترشيد العولمة الاقتصادية أو الاقتصاد المعولم، بحيث يحقق شيئاً من التقدم في الدول الفقيرة. والمهم في الاستجابات المتباينة لما طرحته المؤسسة الالمانية عن موضوع المؤتمر، هو وجود وعي وإدراك متزايدين في العالم الغربي ليس فقط بالأزمة التي تواجهها العولمة في الوقت الراهن، وازدياد النقد الموجه إليها والاحتجاج على مبادئها ومتطلباتها، وانما ايضاً ان العولمة عملية معقدة تتجاوز الأوضاع والمبادئ والأهداف الاقتصادية البحتة، وتدخل فيها ابعاد كثيرة متباينة لكنها ترتبط ببعضها بعضاً. فإلى جانب حركة رأس المال والسلع توجد حركة البشر عبر الحدود الدولية، كما يوجد ازدياد كثافة العلاقات بين الشعوب بفضل التقدم في تكنولوجيا الاتصال، كما ان العولمة ستفرض بالضرورة قيام نظام جديد لتقسيم العمل يأخذ في الاعتبار توزع عملية انتاج السلعة الواحدة بين مناطق مختلفة، كما أن الحركات السياسية المتزايدة في انحاء العالم ستعمل على التنسيق وتوحيد أنشطتها بقدر الإمكان، ما يسبب كثيراً من القلاقل في مناطق واسعة من العالم، أي أن العولمة التي تثير مخاوف العالم اللاغربي من السيطرة الغربية، خصوصاً سيطرة اميركا التي تكتسح - في ما يبدو - مقومات الشعوب الاخرى، وتسبب كثيراً من المتاعب للعالم العربي نفسه على المستوى السياسي حركات التحرر الوطني التي يطلق الغرب عليها اسم الارهاب والمستوى الاقتصادي ازدياد البطالة وهجرة الأيدي العاملة والمستوى الاجتماعي ازدياد العنف والجريمة والتهريب عبر الحدود الدولية، خصوصاً تهريب المخدرات. والعالم الثالث عموماً ينظر الى العولمة على أنها شكل جديد للاستعمار يتخفى تحت دعاوى براقة ووعود لن تتحقق، تماماً مثلما كان الاستعمار القديم يتخفى تحت دعاوى العمل على ارتقاء الشعوب المتخلفة وانقاذها من الهمجية والبربرية والارتفاع بها الى مستوى الكرامة الانسانية، لكنه تحول الى استغلال الموارد البشرية والطبيعية والقضاء على الثقافة التقليدية والنسق الاخلاقي المتوارث، وهذا ما ستفعله العولمة بالضبط، وربما كان الاختلاف الوحيد بين الاستعمار القديم والاستعمار الجديد أو المعولم هو أن العالم اللاغربي كله سيتحول تحت العولمة الى مستعمرة كبيرة تخضع لهيمنة مستعمر واحد كبير أو مستعمر رئيسي أميركا بمعاونة الدول التي تدور في فلكه. لكن الضغوط التي تبذلها اميركا والدول الغربية لإرساء قواعد العولمة بحيث تنضوي تحتها بقية دول العالم تواجه ضغوطاً اخرى مناوئة ورافضة ليس فقط في دول العالم الثالث ولكن ايضاً من قطاعات كبيرة من المفكرين والمثقفين في الغرب، فضلاً عن الفئات التي تعتقد أن مصالحها الخاصة ستضار تحت النظام الجديد. * انثربولوجي مصري.