الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    "الملك سلمان للإغاثة" يوزع 25.000 ربطة خبز للأسر اللاجئة في شمال لبنان    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    المملكة تؤكد على أهمية استدامة الفضاء الخارجي وضمان استمرار الفوائد التكنولوجياته    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    التزامات المقاولين    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    سلامة المرضى    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل العمل الإسلامي في ضوء تداعيات 11 أيلول سبتمبر : حركات المقاومة وحركات الرفض ... هل هناك مستقبل للعنف ؟
نشر في الحياة يوم 24 - 09 - 2002

إذا كان التقويم الموضوعي يبيّن أن خسائر "الإخوان المسلمين" كأكبر الحركات السلمية في المنطقة العربية كانت قليلة إلى حد ما خلال السنة الأولى بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر، وهي غالباً ما تكون أصعب السنوات، وإذا كانوا خرجوا أكثر اقتناعاً بصحة موقفهم الداعي إلى العمل السلمي الدعوي التربوي والساعي إلى التغيير عبر القنوات السياسية الدستورية. فهم يحتاجون بعد حسم هذا الأمر بصورة نهائية إلى اجتهادات كثيرة، بخاصة في المجالات كلها تربوياً لإعداد رجالهم للتعامل مع الآخر بانفتاح وقبول أملاً في التنسيق والتعاون في المجالات المشتركة، ودعوياً لتبني خطاب أكثر تسامحاً وواقعية بين الأفراد، وسياسياً بتطوير برامجهم وخطط عملهم لاعتماد المصالحة مع النظم الحاكمة والمشاركة مع القوى السياسية الفاعلة، واجتماعياً لاستنهاض الأمة من جديد وبعث روح وثابة في شبابها وعلاج الأمراض التي تهددها كي تستطيع مواجهة التحديات الخطيرة "إما أن نكون أو لا نكون".
الوجه الآخر للعمل الإسلامي هو حركات الرفض التي اعتمدت العنف منهجاً وسبيلاً أو لجأت إليه لممارسة الضغوط على الحكومات المختلفة سعياً إلى تحقيق مكاسب مرحلية أو لرفع القيود عن نشاطها أو لدرء المظالم عن أعضائها، فهذه الحركات لحقَها أذى شديد وأثرت عليها الأحداث بصورة ضخمة وتباينت مواقفها بصورة واضحة، ولم يعد للعنف مستقبل في بلادنا.
وقبل أن ندلف إلى أثر أيلول سبتمبر على تلك الحركات فلا بد لنا أولاً أن نستبعد منها "حزب الله" في لبنان، حيث تصرّ الإدارة الاميركية على تصنيف ذلك الحزب ضمن هذه الاتجاهات، بل تضعه على رأسها أحياناً في خلط متعمد للأوراق وفق الرؤية الصهيونية التي لا تزال تلعق جراحها بعد الانسحاب المهين لقواتها من الجنوب اللبناني إثر الهزيمة التي ألحقها بها أبطال ورجال حزب الله، وسر الإصرار الصهيوني الاميركي هو منع الحركة الجهادية في فلسطين من اقتفاء خطى حزب الله، ولئلا يتحول إلى نموذج لحركات المقاومة الصلبة التي تدحر الاحتلال وتهزم الاستعمار.
حزب الله مثال فريد ساعدته ظروف خاصة بلبنان، وبالمنطقة على أداء دور ضخم لا يزال يؤثر فى الأحداث، وهو في حاجة ماسة إلى رسم رؤية استراتيجية جديدة لتناسب المرحلة الجديدة كي يبقى قادراً على الاستمرار في هذا الدور لأطول فترة ممكنة قبل التحول إلى دور جديد.
لا يزال حزب الله يضع المقاومة هدفاً استراتيجياً له لإكمال الانسحاب الصهيوني من مزارع شبعا وللوصول إلى هدنة أو نهاية للمشروع الصهيوني خصوصاً في ما يتعلق باحتلال الجولان، وقد أهدته السماء انتفاضة الأقصى المباركة كي يحشد طاقته خلفها دعماً للشعب الفلسطيني الشجاع، ولم تحسم دوائر الحزب حتى اليوم رؤية مستقبلية في ظل التطورات الجديدة، ولا يزال الحزب يراوح بين دوره كحزب سياسي مدني يشارك في الانتخابات وينافس على المقاعد البرلمانية والبلدية ويتفاعل كجزء نشط في المجتمع المدني الأهلي اللبناني ويقوم بأدوار اجتماعية ضخمة لرعاية الطائفة الشيعية ويمد نشاطه إلى أبعد من ذلك، ولكن كل ذلك لم يكن يضع الإكليل على غرة الحزب، بل رسم هالته البطولية قوافل الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم مقاومةً للاحتلال.
ساعد حزب الله على تحقيق دوره البطولي منذ نشأته 1982 عوامل عديدة في مقدمها الروح البطولية الاستشهادية التي شكلت عقيدة الحزب وتربى عليها أعضاؤه وكوادره ونجح الحزب
في ترسيخ وجوده على الأرض اللبنانية بسبب ضعف وهشاشة الدولة والحكومة نتيجة للحرب الأهلية الدامية والاحتلال الصهيوني للشريط الحدودي الذي انسحب منه بعد الاجتياح وساعد على ذلك السياسة المنفتحة الوطنية التي اتبعتها قيادة الحزب مع كل الطوائف خصوصاً مع الجيش اللبناني، وكان من أهم العوامل الرعاية السورية الإيرانية التي وفرت غطاءً سياسياً مهماً ودعماً ميدانياً لوجستياً وتدفق الإمدادات العسكرية بسهولة فضلاً عن التدريب.
ما الذي تغير بعد 11 أيلول سبتمبر وخلال عام صعب؟
يواجه حزب الله قصفاً إعلامياً شديداً من الدوائر الصهيونية التي رسمت له صورة إرهابية مشوهة في الوعي الاميركي، ولم يرضخ الحزب للضغوط حتى الآن ولم يؤثر في خطابه العام وضعه على رأس المنظمات الإرهابية، وكانت كل التهم الموجهة إليه متهافتة مثل الإدعاء بأنه على صلة بتنظيم "القاعدة". ونجح الحزب في بناء علاقة معقولة مع دوائر أوروبية خصوصاً في ألمانيا ساهمت في تخفيف الضغوط عنه رغم أنه يتعرض لحصار نشاطه في القارة الأوروبية بسبب الضغوط الاميركية.
أخطر ما يتعرض له الحزب بعد سنة هو مدى ما سيلحق بسورية وإيران من أذى أميركي، الأولى نتيجة حرص أميركا على وضع نهاية للانتفاضة الفلسطينية أملاً في فرض حل نهائي تاريخي على الفلسطينيين سيهدر الحقوق العربية ولو في حدها الأدنى وسيضع سورية أمام مأزق كبير بسبب احتلال الجولان، أو في حالة اندفاع أميركا للحرب على العراق لتغيير نظامه بالقوة مما سيؤدي بالتالي إلى انتشار الفوضى في المنطقة كلها وهو ما تريده أميركا، وتكون تداعياته "سايكس - بيكو" جديدة.
أما إيران فإن انشغالها اليوم بملفات صعبة مثل مستقبل أفغانستان، والوجود الاميركي القواعد العسكرية حولها من مختلف الجوانب، ومستقبل العراق إذا تعرض للحرب والفوضى التي ستنشأ في اسيا والشرق الأوسط العربي، فضلاً عن التجاذب الشديد داخل ايران بين محافظين وإصلاحيين، كل ذلك يخفف الغطاء السياسي والدعم الكبير الذي يحصل عليه حزب الله، ولا يقلل من أثر هذا التغيير لإثبات مواقف الأطراف جميعاً الحزب وسورية وإيران تجاه القضية الفلسطينية ودعم الانتفاضة ورفضهم جميعاً للضغوط الاميركية ومراهنتهم على فشل الحرب الاميركية الحالية والمستقبلية ضد الإرهاب.
يحتاج حزب الله إلى ترسيخ وجوده أكثر وأكثر في البنية اللبنانية السياسية والاجتماعية مما يقتضي تحولاً مهماً يعطي النشاطات المدنية حجماً أكبر من الحالي ولا يرتهن وجود الحزب نفسه بغطاء المقاومة فقط، وهذا يستدعي بالتالي حالة نفسية جديدة تريد الحياة كما تحب الشهادة، وخطاباً تربوياً ودعوياً مختلفاً بالقطع، فالحياة في سبيل الله قد تكون أصعب من الموت في سبيل الله.
إذا انتقلنا إلى الجماعات الأخرى وبدأنا بمصر فإن أكبر جماعتين تأثرتا بأحداث أيلول سبتمبر هما جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية.
أصبحت جماعة "الجهاد" في بؤرة الأحداث بسبب تحالف الدكتور أيمن الظواهري الذى أضحى المطلوب رقم 2 عالمياً بعد أسامة بن لادن مع تنظيم القاعدة وانضمامه إلى الجبهة العالمية للجهاد ضد الصليبيين التي أنشأها بن لادن قبل سنوات وكان أثر الأحداث على الجماعة كبيراً جداً.
فقبل الأحداث كان هناك تحول فكري أدى إلى انشقاق الجماعة بسبب تبني منهج جديد، فقد كانت فكرة الجماعة أساساً تركز على قلب نظم الحكم في الدول العربية عن طريق العمل العسكري أو حرب العصابات وتزهد في العمل الدعوي أو التربوي وتبتعد عن أضواء الإعلام تماماًَ.
حدث الانقلاب الفكري في أفغانستان، وبعد التحالف مع بن لادن الذي تبنى منهجاً آخر ضد الوجود الاميركي، في الخليج يركز على الضغط على أميركا للانسحاب من أرض الخليج، وبدلاً من أن تصبح الأراضي الأفغانية ساحة للتدريب والإعداد تمهيداً للعودة إلى البلاد العربية للإطاحة بنظم الحكم فيها، إذا بها تصبح ساحة للتحريض ضد الولايات المتحدة والسعي لإيذائها بكل الطرق بمنهج "اضرب واهرب" كما حدث في حادثتي المدمرة كول في اليمن، ونسف السفارتين في افريقيا.
لم تؤثر الانشقاقات السابقة على أحداث أيلول سبتمبر في بنية التنظيم بصورة كبيرة، الا أن ظهور الظواهري بجوار بن لادن في أشرطة الفيديو ومطاردة أميركا لتنظيم القاعدة والمتعاونين معه أدى إلى مراجعات كبيرة في السجون المصرية عند العناصر السجينة على ذمة قضايا تنظيم الجهاد، ولم تتبلور حتى الآن هذه المراجعات في بيانات أو إصدارات مثلما حدث مع الجماعة الإسلامية، إلا أن الشواهد تؤكد على أن أعضاء الجماعة في مصر من الجهاد سيعيدون النظر في هذا التحول الفكري، ولا يستبعد أن تمتد المراجعة إلى رفض اعتماد العنف والانقلابات العسكرية سبيلاً وطريقاً، وبالقطع فإن التحالف الذي أقامه الظواهري، باسمهم لن يلزمهم بعد ذلك إطلاقاً، هذا إذا خرجوا من السجون، وظل التنظيم قائماً وبنيته متماسكة، وهذا يخضع للتطورات السياسية العاصفة التي تموج بها المنطقة كلها، وهناك احتمال أن يتلاشى ذلك التنظيم كما تلاشى تنظيم الفنية العسكرية من قبل.
الجماعة الإسلامية في مصر قصتها مختلفة، فقد رفضت القيادات التاريخية كما يطلق عليها والتي تقضي أحكاماً بالسجن في مصر انتهت منذ شهور ما قام به أحد القيادات رفاعي طه من توقيع على بيان إنشاء الجبهة العالمية بزعامة ابن لادن ولم تشارك في هذه الجبهة أو اطلقت مبادرة شجاعة لوقف العنف في مصر والتحريض عليه من الخارج في عام 1997، عقب الأحداث المأسوية الدامية في الأقصر في معبد الدير البحري وتمسكت بهذه المبادرة إلى يومنا هذا، بل أدانت أحداث أيلول سبتمبر للمرة الأولى بعد مرور عشر شهور من حدوثها في حواراتها الصحافية التي أجراها رئيس تحرير "المصور" المصرية في السجون مع القيادات وهاجمت بن لادن هجوماً شديداً في هذه الحوارات الحديثة مع مكرم محمد أحمد. وقد اصدروا 4 كتب لبيان الخلفية الفقهية لمبادرتهم، تحدث البعض عن صفقة بين الحكومة المصرية وبين الجماعة الإسلامية للقيام بدور ما في الساحة الإسلامية والسياسية لمواجهة تيارات أخرى مقابل الإفراج عن القيادات والبدء في تصفية ملفات المعتقلين والمسجونين، وأعطى آخرون للمبادرة حجماً أكبر من حقيقتها، ودارت حوارات كثيرة وتمخضت الأحداث في النهاية عن بقاء الوضع على ما هو عليه، وعلى أحسن الفروض تأجيل حسم الملف الخاص بالجماعة الإسلامية في ظل تردد وتخبط في السياسة المصرية حيال المسألة الإسلامية الحركية كلها.
جدير بالذكر أن موقف التيارات الرافضة والعنيفة في الحركات الإسلامية من الغرب ومن أميركا أكثر حدة وأشد رفضاً، ولم يصدر شيء جديد بعد أيلول سبتمبر يشير إلى أي تغيير في هذا الموقف، بل إن أحد المبررات التي ساقتها الجماعة الإسلامية لحشد التأييد لمبادرة وقف العنف هو التصدي للهجمة الصهيونية والغربية على الأمة العربية والإسلامية.
يبقى أن "الجماعة الإسلامية" باعدت بينها وبين جبهة بن لادن، مما أعطاها موقفاً متميزاً ويعتقد الكثيرون أن الأحداث الدامية في أيلول سبتمبر وما ترتب عنه من حرب ضروس في أفغانستان شردت مئات من الشباب المسلم الذين عرفوا باسم "الأفغان العرب" والذين كان أنصار الجماعة هم العمود الفقري لهم في وقت من الأوقات قبل أن يستقطبهم تنظيم الجهاد إلى صف "القاعدة" وما حدث من مآسي لزوجاتهم وأولادهم وما تلا الأحداث من حرب مفتوحة شنتها أميركا على الإسلام بذريعة مكافحة الإرهاب وتهددت الثقافة والحضارة والخطاب الإسلامي نفسه، كل ذلك صب في صالح تأكيد نبذ العنف وحسم التوجه الجديد للجماعة الإسلامية، وهي التي بنت موقفها من الناحية الشرعية على أساس "المصلحة المعتبرة" فإذا كانت مصلحة الجماعة كتنظيم اقتضت مراجعة عشرين عاماً من العنف المتبادل ثم التوقف عنه، فما بالنا بمصلحة الأمة كلها حيث أصابها ضرر كبير جرّاء ما يمكن أو يتصور أن يكون قد قام به أفراد يتبعون تنظيم القاعدة في أيلول سبتمبر، هذا إذا صحت نسبته إليهم لأن البعض لا يزال يتشكك في ذلك.
تابعت أميركا والدوائر الأمنية فيها تطورات موقف "الجماعة الإسلامية" عن قرب ولم تطارد المنتسبين إليها وهم موجودون في أوروبا كما طاردت المنتسبين إلى تنظيم "القاعدة" أو "الجهاد" وطالبت دولاً أوروبية بتسليمهم لها، وبالفعل قدمت بعضهم للتحقيق واعتقلت المئات منهم، وبذلك كان لمواقف الجماعة أثر كبير في الحفاظ على أفرادها بعيداً عن المطاردة وإن بقوا في دائرة المتابعة والمراقبة مثلهم مثل كل الناشطين إسلامياً.
يعتبر انتقال "الجماعة الإسلامية" إلى مربع العمل السلمي بين الحركات الاسلامية، وتأثير أحداث أيلول سبتمبر في تأكيد هذا الانتقال وعدم التراجع عنه أو حسمه بصورة منهجية واستراتيجية أحد أهم تداعيات أيلول سبتمبر، وإن كانت مبادرة وقف العنف قد بدأت قبل ذلك بكثير إلا أن أحداث سبتمبر كما ظهرت في حوارات مجلة "المصور" - ساعدت قطعاً في ترسيخ هذا التحول المهم، ويكتسب هذا التحول أهميته من حقيقة يتناساها البعض وهي أن 90 في المئة من أعمال العنف في مصر خلال العقد الدامي 87 - 1997 كانت تنسب إلى مجموعات تابعة للجماعة الإسلامية وليس لتنظيم الجهاد، مما يعني أن مصر قد تطلق العنف الذي يمارسه إسلاميون إلى أمد بعيد في المستقبل خصوصاً أن الجميع ينتظر مبادرة أخرى من الجناح الداخلي المصري لتنظيم "الجهاد" بعدما فقدوا صلاتهم بالخارج تقريباً.
يعني ذلك أنه لم تبق هناك مبررات لفرض حالة الطوارئ في مصر، تلك التي خنقت الحياة العامة كلها، وأن الكرة انتقلت إلى ملعب الحكومة والنظام في مصر لعرض رؤيته واستراتيجيته للتعامل مع الملف الإسلامي كله باعتباره حالةً اجتماعية وملفاً سياسياً بعيداً عن الهيمنة الأمنية التي بسطت وفرضت هيمنتها على الملف طوال العشرين سنة الماضية مما أرهق البلاد والعباد وعطل أي تحولات ديموقراطية بل وتسبب في حالة ارتباك كبيرة ووهن اجتماعي وكسل ثقافي وفقدان للحيوية في المجتمع المصري كله.
لا نستطيع أن نصف حركة "طالبان" كإحدى جماعات العنف فهي ذات طبيعة خاصة ونشأت في ظروف خاصة بدعم ورعاية المخابرات الباكستانية وتأييد بعض الجماعات الاسلامية الباكستانية التي تنتمي للمدرسة الديوبندية واستطاعت أن تجتاح الأراضي الافغانية وتفرض عليها النظام والأمن عندما اختلفت فصائل المجاهدين الافغان بعد الهزيمة الثقيلة للسوفيات في المستنقع الأفغاني الذي تغرق فيه اميركا وتغوص في أوحاله ما يلحقها بامبراطوريات سابقة بدأت بالاسكندر الاكبر وانتهت بالامبراطورية السوفياتية مروراً بكثيرين منهم الانكليز.
وكان من أهم تداعيات احداث ايلول سبتمبر اقصاء طالبان عن الحكم في إمارة افغانستان وتنصيب حكومة موالية لاميركا ما زالت تعاني حتى الآن من فقدان الاستقرار والأمن والخلافات الداخلية.
ورغم الحرب الشعواء التي شنتها اميركا على "طالبان" فإن كبار القيادات لا يزالون احياء يتحركون كالملا عمر وحكام الولايات وأركان الحركة باستثناء "عبد السلام ضعيف" ووكيل متوكل وآلاف من الجنود الذين قتلتهم غدرا بعد تعذيبهم قوات التحالف الشمالي او الذين اسرتهم اميركا وما زالوا رهن معتقل "غوانتانامو" في كوبا او في افغانستان او باكستان وهكذا فإن الحركة تستعيد تنظيم صفوفها من جديد وتساعدها خلافات الحكومة أو فشلها او الامرين معا في ازعاج الوجود الاميركي وبدء حرب استنزاف او عصابات طويلة الامد، يعتمد ذلك في المقام الأول على جرأة أي نظام يريد انهاك الولايات المتحدة وازعاجها في رعاية طالبان من جديد وإمدادها بالدعم والتمويل والسلاح وقد لا تعدم ذلك في ظل عجائب السياسة الدولية، وأهواء أجهزة المخابرات.
الغالب أن "طالبان" قد تتبخر لأنها قامت برعاية باكستانية - اميركية مشتركة لهدف وتحقق وهو إنهاء وجود فصائل المجاهدين الذين مزقتهم الخلافات، لكن الواقع الأفغاني يعزز طالبان جديدة فالليالي حبلى بكل عجيب.
تنظيم "القاعدة" أمره لا يختلف كثيراً، فهو تحت الحصار والمطاردة، ورغم الفشل الاميركي في القبض على بن لادن والظواهري أو القضاء عليهما وعلى بقية زعماء التنظيم ما يعكس فشلاً كبيراً أو تراخياً اكبر لأننا لم نشاهد أحداً من كبار القادة باستثناء ابو حفص المصري وابو زبيدة اسيراً او شهيداً، فإن هناك شعوراً عاماً في الأوساط الاسلامية ان اميركا ضخمت من أمر التنظيم بصورة مبالغ فيها جداً ولا يتصور أن تنظيماً عمره حوالي 10 سنوات أو أقل يستطيع أن يكوّن كل هذه الخلايا القائمة أو يهدد الوضع الدولي برمته كما تصوره أميركا، ويتساءل هؤلاء عن الهدف الحقيقي لأميركا من رسم هذه الصورة المضخمة وهل يكون ذلك كما فعلت من قبل مع العراق الابقاء عليه في هذا الوضع وتزييف الوعي العالمي كله طوال عقد كامل حول التهديدات التي يمثلها، وها نحن نشهد بداية استفاقة وانقسام حول الحرب التي تريد واشنطن شنها على العراق لمصلحة الكيان الصهيوني فأوروبا تعترض وروسيا تنسحب وحتى لندن تصرح بأن الهدف ليس إطاحة النظام بل عودة المفتشين فهل نشهد بعد سنة أخرى عودة الوعي حول حقيقة تنظيم "القاعدة" وحجم التهديدات التي يمثلها على النظام الدولي؟
الحذر ينشأ من حالة انبهار - خصوصاً في الخليج والسعودية - بزعيم تنظيم "القاعدة" وتصديق المبالغات حول قوته وقدرته على إلحاق الأذى بالغرب وأميركا لاحظ أن اوروبا لم تكن مستهدفة قط من القاعدة ولا تنظيمات العنف كلها! هل بسبب سياستها المرنة تجاه استضافة لاجئي هؤلاء والسماح لهم بمنابر إعلامية؟! ما يؤدي الى بروز مجموعات متفرقة تنتهج سبيل العنف.
الواقع أن السياسة الحكيمة التي اتبعتها المملكة السعودية وسماحها بالتنفيس عن الاتجاهات الاسلامية واطلاقها سراح بعض المعتقلين والسماح لمعارضين مسالمين بالتعبير عن آرائهم يساعد في بلورة اتجاه أكثر اعتدالاً ما يؤدي الى تحجيم الانبهار الذي حدث خصوصاً بمرور الوقت كاف للتدبر في عواقب ما حدث في اميركا أياً كان الفاعل وخطورة ما ترتب على هذه الأحداث على الاسلام والمسلمين.
الحقيقة ان الاعتدال يولد الاعتدال، وان المتطرف والغلو في معاملة الاتجاه الاسلامي وسد الأبواب في وجه المعتدلين يفرز اتجاهات متطرفة بل وعدمية وعبثية كما شهدنا في مصر وفي الجزائر وغيرها. هذه معادلة اثبتتها حقائق التاريخ قديما وحديثا.
ونأتي على ذكر الجزائر وشمال افريقيا فإن تأثير أحداث ايلول سبتمبر لم يكن له ذكر إلا في المغرب التي لم تشهد منذ عقدين حركة متشددة، بل ان أكبر حركة اسلامية هناك وهي "العدل والاحسان" دانت العنف بكل صوره ودانت احداث ايلول سبتمبر مع إدانتها للسياسات الاميركية، وكذلك كان موقف حزب "العدالة والتنمية" الذي ضم عند نشأته فصائل اسلامية متعددة أهمها حركة "الاصلاح والتجديد" والعجيب أن البلد العربي الوحيد تقريباً الذي أعلن عن وجود خلايا لتنظيم "القاعدة" هو المغرب، ولا تزال التحقيقات معها سرية وكل ما تسرب ورشح عنها لا يشفي الغليل ويمكن ان يندرج تحت باب المبالغات الإعلامية والأمنية، ويفسره البعض - مع القبض على جماعات أخرى عنيفة باسم التكفير - على أنه محاولات قبل الانتخابات التشريعية لتحجيم الفوز الكبير المتوقع لحزب العدالة والتنمية الذي يعد منافساً قوياً لليسار الحاكم واليسار الجديد الذي تشكل أخيراً حيث ان الاحزاب الموالية للقصر باتت في حال ضعف لا يمكنها من المنافسة اذا جرت انتخابات حرة ونزيهة.
لا يزال العنف الأعمى يدور في الجزائر، وكلما قلنا إنه قاب قوسين أو أدنى من النهاية تفاجئنا الأحداث التي تتفجر من جديد، ولعل هؤلاء الهاربين في الجبال لم تصلهم بعد أخبار ايلول سبتمبر ولم يتسنَّ لهم دراسة أبعادها والتأمل في معانيها والاستفادة من دروسها.
العنف الجزائري جزء من لعبة كبرى مخابراتية، لذلك يتوقع له الاستمرار الى حين.
يبقى الامتدادات الموجودة لجماعات اسلامية في أوروبا واميركا:
أما أميركا فلم تعد قادرة على تحمل وجود أي امتدادات لحركة اسلامية على أرضها خصوصاً عندما طاردت وأغلقت مئات المؤسسات الاسلامية الاميركية التي تدعم الشعب الفلسطيني، وبات مناصرة "حماس" يؤدي الى الاعتقال والمحاكمة.
وفي أوروبا نجد حذراً شديداً وإن كان بدرجة أقل حساسية من اميركا من امتدادات جماعات العنف حتى تلك التي تصنف على أنها منابر اعلامية كالمرصد الاسلامي ومؤيدي جماعات العنف الجزائرية، وشخصيات مثل "أبي قتادة" و"ابو حمزة المصري" و"عمر بكري" وغيرهم، حتى انصار الجبهة الاسلامية للانقاذ الجزائرية التي دانت العنف ودانت أحداث ايلول لم يعد يسمح لهم بحرية الحركة.
اتهمت الدول العربية خاصة مصر والجزائر اللتين شهدتا احداث عنف دامية، اتهمتا اميركا وأوروبا بالنفاق في محاربة الارهاب، وبالسعي خلف مصالحهما فقط، واتباع معايير مزدوجة بسبب ايواء مناصري جماعات الرفض والعنف، وباستثناء حالات قليلة شهدتها فرنسا فإن اوروبا كانت تنعم بهدوء شديد ما يثير اسئلة كثيرة حول علاقات انصار جماعات العنف أصحاب الصوت العالي ضد الغرب يعتبرونه مجرد عنوان للاقامة او يصرحون بكفره وضرورة القضاء على نظمه وضمه الى البلاد الاسلامية. كيف؟ لا تجد اجابة راجع حوارات حازم أمين في "الحياة" مع ابي حمزة المصري وعمر بكري والى مدى يمكن أن يصح استخدام هؤلاء لأغراض أمنية الرصد والمتابعة وإعلامية التشويه والتنفير من الاسلام: خلق حالة اسلاموفوبيا أو استراتيجية تفجير الجالية الاسلامية من الداخل تمهيداً لإنهاء وجودها تماماً.
على العكس من هؤلاء الذين - في الغالب - لا يمثلون إلا أنفسهم نجحت جهود مخلصة من المراكز والجمعيات الاسلامية في الغرب في تصحيح الصورة وتقليل الخسائر.
لم يتبق إلا جماعة "ابو سياف" في الفلبين، ولا نعرف عنها إلا ما تنقله الصحف والوكالات وهي تصورها كجماعة خاطفين ومبتزين وليسوا أصحاب قضية مثل "جبهة تحرير مورو" التي فاوضت الحكومة من قبل ونجحت حينا وفشلت أحياناً في الوصول الى حل لإنصاف مسلمي الفيليبين، ورغم المناورات المشتركة بين قوات أميركية وأخرى فيليبينية فإن نشاط جماعة "ابو سياف" عاد من جديد في خطف الرهائن في جزيرة "هولي" مقرهم المفضل، وتزامن ذلك مع قرب الذكرى السنوية الاولى لأحداث ايلول سبتمبر.
الخلاصة: إن مستقبل العنف المستند الى جماعات اسلامية اصبح مسدوداً في البلاد العربية، وغالبية الاتجاهات التي تصورت انها تستطيع تغيير الأوضاع عن طريق انتهاج العنف باتت مقتنعة - بعد أحداث ايلول - بالاقلاع عن هذا السبيل، إلا أن انسداد الاوضاع السياسية والاحتقان الاجتماعي والفقر الفكري والثقافي في بلادنا يمكن ان يشكل تربة خصبة لنشأة تيارات عنف جديدة، خصوصاً مع رفض النظم الحاكمة الاعتراف بفشلها في علاج مشكلات البلاد والعباد، واصرارها على استبعاد الجميع وفي مقدمهم التيارات الاسلامية المعتدلة كالاخوان المسلمين.
وستبقى حركات المقاومة التحريرية ضد العدو الصهيوني او ضد الوجود الهندي في كشمير تقوم بدورها لمناصرة قضايا أمتها وشعوبها كما في الشيشان ايضا لأن تلك قضايا حقيقية، وهذه ليست جماعات عنف بل هي مقاومة مشروعة ما يدل على فشل الجهود المستميتة للصهاينة وأنصارهم في خلط الأوراق.
* نائب سابق في البرلمان المصري عن "الاخوان المسلمين".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.