تفاءلت بعض العائلات السورية قبيل بدء العام الدراسي الحالي بإشاعات عن تغيير لون اللباس المدرسي لتلاميذ المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، فسرت توقعات تحمل طابعاً اجتهادياً للألوان البديلة لما هو معمول به "الكاكي - العسكري". منهم من توقع اعتماد اللون الكحلي للسروال واللون الأبيض للقميص أو السماوي على غرار الكثير من المدارس الخاصة في سورية. وعلى رغم كل الأقاويل والتوقعات التي تحمل في داخلها طابع الرغبة في التغيير والتجديد فإن الألوان المرغوبة لا تفرض اي ايحاءات سوى انها زاهية لها تأثير ايجابي في مزاج الطلاب وفي سلوكيات التلاميذ. وسرعان ما تلاشت التكهنات عندما وضعت الإذاعة حداً للإشاعات وأكدت استمرار والزي المعمول بهما. وتكمن رغبة الأهالي في الانعتاق من اطار اللون الواحد وتالياً الإيديولوجية الواحدة التي عكست نفسها على الكثير من القضايا المهمة في المجتمع وخصوصاً لجهة وحدانية الأشياء والقضايا المفروضة، ومنها اللون الذي لا يقع خارج إطار تلك الرؤية. ونلاحظ ان اللون الواحد للطلاب في سورية له إيحاءات عقائدية تتعلق بمرحلة ما وفهم معين لتعبئة وتهيئة الطلاب والشباب بشكل عام، حيث لعب الصراع مع إسرائيل وتكرار الحروب معها منذ عام 1948 وحتى عهد قريب دوراً في اعتبار الطلاب وتلاميذ المدارس وحتى الجامعات أجيالاً في طريقها للانخراط في هموم الوطن وبالتالي لا بد من تهيئتهم نفسياً للانخراط في الجو العسكري باكراً. في هذا السياق وبالعودة الى خمسين سنة فائتة تتضح اهمية تأثير الصراع مع اسرائيل على الحياة الداخلية للسوريين من خلال التشريع التالي المتعلق بمادة التربية العسكرية وإدخال نظام الفتوة على المنهاج الدراسي الذي ينص على: "سيدخل نظام الفتوة على المدارس السورية عامة ابتداء من العام الدراسي المقبل. وقد بوشر الآن ببحث الموضوع ليصار الى وضع قانون يتحول بالنشء الطالع الى ما يرجوه كل مواطن. وقد درب في الموسم الدراسي الماضي عدد من الأساتذة. ومن المنتظر تدريب عدد آخر ليقوموا بالتعاون مع الجهات المختصة من اجل القضاء على الميوعة وتبديدها من الوجود لتحل محلها الجرأة والإقدام". وربما يرد البعض طغيان اللون الكاكي في المدارس السورية الى علاقة البلد بالكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي سابقاً، حيث لم يكن اختيار الألوان في تلك المرحلة خارج سياق الأدلجة والإعداد لجيل مقاتل "مستعد دائماً لبناء الوطن العربي الموحد". وربما ما زلنا نشهد في سورية مدى تأثير اللون على قناعات بعض الشباب لناحية اختيارهم لفكر معين، فنرى البعض يرتدي وبشكل دائم طقم "السفاري" ويعتبر ذلك الاختيار مسألة عقائدية كونه يرتدي ما أنتجته الثورة في مرحلة ما. ولكن، مهما بدت تلك المسألة غريبة اليوم في التغييرات التي شهدها العالم على مستوى نهاية ما سمي بزمن الإيديولوجيا، فإنها ما زالت تثير حساسية بعض كوادر الجيل القديم في بعض الأحزاب السورية. وفي هذا السياق يلاحظ ان التوجه العام للمنظمات الشبابية والطالبية "طلائع البعث وشبيبة الثورة" ما زالت تفرض قيماً ومفاهيم جعلها الحزب القائد من الثوابت الأساسية في بناء الشباب. لكن على رغم ذلك، يلاحظ في سلوك الطلاب الرغبة الجامحة في التحرر ما يثير التساؤلات حول مدى ضرورة ربط الزي المدرسي بالتوجهات السياسية ومدى ملاءمة ضرورات الأمس وقناعات الجيل الحزبي القديم بمقتضيات هذا الزمان وظروفه. وتؤكد جملة من المظاهر حقيقة ما نرمي إليه حيث نرى الكثير من الطلاب يقضون وقتهم بالتفكير بطرق ملتوية للتملص من الالتزام بانتعال الحذاء العسكري، ويحاولون ايجاد الأعذار لذلك، خصوصاً في المرحلة الثانوية. عندما لا يستطيع بعضهم ايجاد عذر مناسب يقوم بارتكاب مخالفات من خلال انتعال حذاء مغاير ذي لون مختلف، كما نرى الكثير منهم يرتدي لباساً آخر ذا لون جميل تحت السترة المدرسية ذات اللون العسكري ليبرزه بشكل او بآخر حين انتهاء الدوام المدرسي وليعبر عن خصوصيته وعن تميزه عن الآخرين. وبالفعل لم يكن اللون الكاكي لطلاب المدارس معززاً لقناعاتهم او محصناً لهم من الأفكار "الغريبة الدخيلة" على المجتمع. فاللباس بحسب بعض الطلاب والأهالي لا يمكن ان يكون مقياساً ودليلاً صادقاً الى ما يرغب به الطالب ويتمناه ولا الى قناعاته فما هو إلا لون عسكري لجيل غير عسكري معني بالدراسة والعلم والتحصيل اولاً وأخيراً.