جدد اقتصاديون في صندوق النقد الدولي ثقتهم في مرونة النظام المالي الدولي وقدرته على التكيف في مواجهة الازمات، لكنهم شددوا على ضرورة اتخاذ الحيطة من سيناريو يُهدد استقرار هذا النظام المالي ويقوض انتعاش الاقتصاد الدولي ويشمل حدوث انسحاب جماعي للمستثمرين، سيما الأفراد منهم، من أسواق المال تحت ضغط الخسائر وعجز الشركات عن تنمية أرباحها وتآكل الثقة في ممارساتها المحاسبية وكذلك حدوث انكماش حاد في تدفق الاستثمارات الدولية الى اميركا. واكد الاقتصاديون ان السيناريو موضع التحذير لم يبدأ بعد، على رغم التطورات الدراماتيكية التي شهدتها أسواق المال الدولية، لكنهم اعتبروه محتمل الحدوث، في ما برزت أخيرا مؤشرات عدة تدعو للقلق اهمها تسجيل رقم قياسي في انسحاب المستثمرين الأفراد من أسواق المال وتحديدا الصناديق الاستثمارية الاميركية وتعرض التدفقات الاستثمارية المتجهة الى أميركا، بنوعيها المباشر والخاص، الى تراجعات حادة بالمقارنة مع النصف الثاني من التسعينات. جاء ذلك في تقرير "الاستقرار المالي العالمي" الثالث الذي اصدره صندوق النقد الدولي نهاية الاسبوع الماضي في اطار مهمته الجديدة التي اجمعت عليها الدول الاعضاء وتدعو الى اعداد تقويم دوري فصلي عن اوضاع اسواق المال والصرف والائتمان في الدول الصناعية والاقتصادات الناشئة ورصد مؤشرات الضعف في المؤسسات المالية في محاولة لدرء مخاطر الازمات قبل وقوعها والمساهمة في استقرار النظام المالي والاقتصاد الدوليين. وفي تعامله مع الاحداث والتطورات التي ميزت الفصل الثاني من السنة والفترة حتى منتصف الشهر الماضي اشار التقرير الى ان اسواق المال الدولية تأثرت جميعها بتداعيات جملة من التطورات الدراماتيكية: تآكل ثقة المستثمرين بسبب الفضائح المحاسبية وتعاظم القلق ازاء كل من انتعاش الاقتصاد الدولي وارباح الشركات وتزايد مخاوف الممولين من مسألة تقبل المخاطر الاستثمارية التي تعتبر العامل الحاسم في تحريك أسواق المال والائتمان. ولتبيان حجم الأضرار عرض الاقتصاديون فاتورة الخسائر التي اظهرت أن أسواق المال الدولية لم تفشل بشكل ذريع في تحقيق أي تقدم سواء في الفصل الأول أو الثاني من السنة الجارية أو حتى الشهرين الأولين من الفصل الثالث بل ارتفعت خسائرها من المستويات المتدنية نسبياً التي سجلتها في اسبوع أحداث أيلول سبتمبر كما أن التحسن الملحوظ الذي حققته المؤشرات الرئيسية أواخر الشهر الماضي وبداية الشهر الجاري لم يصمد طويلاً. ومنذ نهاية الفصل الأول بلغت خسائر مؤشر "ستاندرد آند بورز 500"، الذي يعتبر الاكثر تمثيلاً للاقتصاد الأميركي، 21.2 في المئة من قيمته الدولارية ليرفع بذلك خسائره الاجماليه منذ الذروة في آذار مارس سنة ألفين الى 40.8 في المئة، واقتربت خسائر مؤشر التكنولوجيا والاتصالات "ناسداك" من 29 في المئة و74 في المئة منذ الذروة في ما بلغت خسائر مؤشر "فوتسي 300" في لندن 26.3 في المئة و43 في المئة منذ الذروة. وفي أسواق الصرف رفع الدولار خسائره مقابل كل من العملة اليابانية الين والعملة الأوروبية الموحدة اليورو وكذلك سلة عملات 7 من كبار الشركاء التجاريين للولايات المتحدة في الفترة المشار اليها واستقرت أسعار صرفه في نهايتها منخفضة بنسبة 10.4 في المئة مقابل الين و10.9 في المئة مقابل اليورو و7 في المئة مقابل عملات الشركاء التجاريين أو ما يصفه مجلس الاحتياط الفيديرالي بالعملات الرئيسية. وعلاوة على التطورات الدراماتيكية التي خفضت مؤشرات اسواق المال الرئيسية الى مستويات خريف 1998 لفت الاقتصاديون الى متاعب اسواق الائتمان مشيرين الى ان تسجيل الشركات الاميركية رقما قياسيا في الافلاسات اثار مخاوف المؤسسات الاستثمارية والمصارف واضطرها الى تقييد عملياتها الائتمانية، ما ساهم في ارتفاع كلفة الاقتراض، سيما بالنسبة للمقترض ذي المخاطر العالية، وأدى الى اخفاق المزيد من الشركات. وحسب تقرير صندوق النقد الدولي لم تنحصر الانعكاسات الائتمانية في منطقة بعينها اذ على رغم تقديم اسواق السندات والاسهم الناشئة اداء افضل من الاميركية والاوروبية حتى الآن الا ان الاوضاع المتردية في اسواق المال الدولية وتراجع الآمال بحدوث انتعاش قوي في الاقتصاد الدولي دفعا المؤسسات الاستثمارية الى اعادة النظر في سياساتها، ما انعكس سلبا على الاسواق الناشئة وبشكل خاص الدول التي تواجه برامجها الاصلاحية اوضاعا سياسية داخلية غامضة. واشار التقرير الى ان قلق المؤسسات الاستثمارية ازاء آفاق الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي في الاقتصادات الناشئة حد من الفرص المتاحة للتمويل بالنسبة للشركات في اميركا الجنوبية حيث نجحت حكومات المنطقة في تلبية احتياجاتها التمويلية في وقت مبكر، ولاحظ ان فرص التمويل بقيت متاحة امام المقترضين ذوي السمعة الاستثمارية العالية في كل مكان وكذلك الباحثين عن التمويل في الاسواق الناشئة الاخرى في آسيا وشرق اوروبا والشرق الاوسط. وخلص الاقتصاديون الى ان التطورات التي ضربت اسواق المال والصرف والائتمان، وعلى رغم خطورتها، لم تنجح، حتى الآن، في زعزعة استقرار النظام المالي الدولي او خفض قدرته على التكيف، وعزوا ذلك الى اسباب ابرزها عاملين رئيسيين هما توزع المخاطر الاستثمارية على نطاق واسع بحيث شملت المؤسسات والشركات غير المصرفية والمشاركة الضخمة للمستثمرين الافراد في اسواق المال الاميركية وانتشار هذه الظاهرة الاستثمارية في الاسواق الاوروبية. واستبعدوا احتمال تأثر استقرار النظام المالي الدولي في الفترة المقبلة وعزوا السبب الى ان الاقتصاد الدولي لا يزال في تحسن وان بسرعة اقل مما كان متوقعاً وان عمليات التصحيح خفضت اسعار بعض الاسهم، لا سيما قطاعي التكنولوجيا والاتصالات، من مستويات غير واقعية جعلتها في السابق مصدراً للمخاطر وان التقلبات الاوسع نطاقاً التي سجلتها اسواق المال افرزت، حتى الآن، القليل من المؤشرات عن امكانية حدوث مشاكل هيكلية حادة في النظام المالي. لكن الاقتصاديين حذروا من ان الاسواق لا تزال تعيش الهواجس والقلق سواء ما يتعلق بمتانة ارباح الشركات او صدقية بياناتها المالية علاوة على المخاوف من احتمال تفجر فضائح محاسبية في مناطق اخرى في العالم. وشددوا على ان النتيجة النهائية ستتوقف على رد فعل المستثمرين الافراد وقدرتهم على تحمل تآكل مدخراتهم محذرين من ان حدوث عمليات انسحاب جماعية سيطلق جولة جديدة من عمليات التصحيح في اسواق المال ويحول متاعب السيولة والائتمان الراهنة الى ازمات. ورأوا في احتمال حدوث تباطؤ سريع وحاد في التدفقات الاستثمارية الى اميركا احد اهم المخاطر التي تهدد استقرار النظام المالي العالمي من واقع ان اميركا اجتذبت في المتوسط 70 في المئة من اجمالي المدخرات الدولية فوائض الحسابات الجارية في الاعوام القليلة الماضية وبلغ صافي التدفقات الذي استوعبه اقتصادها العام الماضي نحو 400 بليون دولار واعترفوا في الوقت نفسه ان هذه التدفقات الضخمة كانت احد الاسباب التي ادت الى ارتفاع اسعار الاصول الاميركية الى مستويات مبالغ فيها. وفي ما يتعلق بالاقتصاد كشف الصندوق الدولي في تقريره عن آفاق الاقتصاد الدولي الذي يصدره الاسبوع المقبل ان الاقتصاد الدولي يحتمل ان ينمو في الفترة المقبلة بسرعة ابطأ مما كان متوقعاً وابدى الاقتصاديون في هذا المجال خشيتهم من اثر عمليات التصحيح في اسواق المال على القدرات الشرائية للمستهلكين التي تُعتبر بمثابة عامل حاسم في تقرير اتجاهات الانتعاش الاقتصادي سيما في الولاياتالمتحدة حيث يشكل الانفاق الاستهلاكي ثلثي الناتج المحلي. وترافقت التحذيرات مع بروز مؤشرات مقلقة اذ كشف معهد الاستثمار في احدث تقاريره ان صناديق الاستثمار السهمية التي تضمن مشاركة نحو 90 مليون اميركي في اسواق المال سجلت في تموز يوليو الماضي انسحابات صافية بقيمة 52.6 بليون دولار ما جعلها الاضخم من نوعها وساهمت جزئياً في تراجع اجمالي اصول هذه الصناديق السهمية من 4.3 تريليون دولار في تشرين الاول اكتوبر سنة الفين الى 2.8 تريليون دولار في تموز ما يعادل انخفاضا بنسبة 36 في المئة. ولا تبدو ارباح الشركات الاميركية افضل حالاً فمع اقتراب موسم اعلان نتائج الفصل الثالث بلغ عدد الشركات التي اعلنت ان نتائجها ستعلن اقل المتوقعات ضعف عدد الشركات التي تتوقع نتائج افضل، ما اعتبرته مؤسسة "فيرست كول" المتخصصة في هذا المجال مؤشراً يدعو الى القلق ازاء ما ستُسفر عنه النتائج النهائية وقت اعلانها في الاسابيع القليلة المقبلة. يُشار الى ان الشركات عانت من تراجع ارباحها على مدى خمسة فصول متتالية وجاءت نتائجها في الفصل الاول مثيرة للجدل. وتمثل احد اهم المؤشرات المقلقة في تراجع التدفقات الاستثمارية الى اميركا اذ انخفضت الاستثمارات المباشرة على سبيل المثال من نحو 300 بليون دولار عام الفين الى 124 بليون دولار العام الماضي ثم عادت وانخفضت بنسبة 42 في المئة في الفصل الاول من السنة، وفي الوقت نفسه سجلت الاستثمارات الخاصة الموجهة الى شراء الاوراق المالية انخفاضاً مماثلا علاوة على تذبذبات حادة تبدو واضحة في الشهور الاربعة الاولى من السنة: 11 بليون دولار، 15 بليون دولار، 67 بليون دولار، 38 بليون دولار. وتشير بيانات مجلس الاحتياط المصرف المركزي الى ان الدولار استعاد نصف خسائره مقابل العملات الرئيسية في الاسبوعين الاخيرين لكن اقتصاديين بارزين من خارج صندوق النقد الدولي باتوا يطالبون بل ويحذرون من ان انخفاض قيمة الدولار بنسبة تراوح بين 15 و20 في المئة يشكل الحل الوحيد امام اميركا للتعامل مع آثار فقاعة التكنولوجيا والاتصالات التي تهدد نمو الاقتصاد الاميركي وتتطلب معالجتها: خفض العجز الضخم في الحساب الجاري وبدء عملية سداد الدين العام ورفع معدلات الادخار لدى المستهلكين الاميركيين من مستوياتها الراهنة المتدنية.