تبدأ الاسبوع الجاري جلسات استماع ضمن إطار لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب في الكونغرس للنظر في مشروع قانون محاسبة سورية للعام 2002 Syria Accountability Act of 2002. وعلى رغم معارضة حكومة الرئيس بوش لمشروع القانون هذا، فإن الراجح هو أنه سيطرح أمام التصويت في الكونغرس وسيتم إقراره. إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تبدلاً في السياسة الأميركية إزاء سورية أو إزاء الوجود السوري في لبنان. "التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل لا تصدر عن الفلسطينيين فقط. فسورية تحتفظ بآلاف الجنود عند الحدود الشمالية لإسرائيل، وتؤوي الكثير من المنظمات الإرهابية وتدعمها، وتسيطر على لبنان بواسطة جيش احتلال قوامه 25 ألف جندي. فهي عامل تأزيم جدي للوضع في المنطقة. لذلك فإنني تقدمت أخيراً بمشروع قانون محاسبة سورية للعام 2002، وهو مشروع مدعوم من الحزبين، قدمه معي زعيم الأكثرية في مجلس النواب، في سبيل معاقبة دمشق لتصرفها. فإلى أن تتوقف سورية عن دعم الإرهاب، وتنسحب من لبنان كما فعلت إسرائيل لتوّها، وتنهي مساعيها لتطوير أسلحة الدمار الشامل، وتمتنع عن انتهاك حظر استيراد النفط من العراق، يجب أن تحد الولاياتالمتحدة من علاقتها بالنظام السوري". على رغم أن إليوت إنغل، المؤلف الرئيسي لمشروع قانون محاسبة سورية، حاول خلال مقابلات صحافية وضع هذا المشروع في إطار الحرص على استقلال لبنان تارة، أو العمل على مكافحة الإرهاب تارة أخرى، فإن بيت القصيد بالنسبة اليه، كما يتضح من هذا النص المقتطف من بياناته الرسمية، هو الموضوع الإسرائيلي. ولا يجد إنغل حرجاً أمام ناخبيه في أن يربط مشروع قانونه بحرصه الدائم والشديد على إسرائيل. فإنغل، وهو عضو مجلس النواب في الكونغرس عن ولاية نيويورك، يقدّم نفسه دوماً على أنه الصديق الوفي لإسرائيل في السلطة التشريعية، وهو لا يفوت فرصة لإدراج الإدانة لخصومها والتشديد على ضرورة تعزيز التحالف معها في محاضر الجلسات النيابية، ثم أنه سبق له إعداد عدد من القوانين المهمة لمصلحتها المفترضة، ولا سيما القانون الذي يلزم اعتبار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل كمدينة غير قابلة للتجزئة ويفرض على الحكومة الأميركية نقل سفارتها إليها. والدائرة الانتخابية التي يمثلها إنغل، والتي تضم نسبة كبيرة من الأميركيين اليهود، تشهد في كل موسم انتخابي تعبئة حاسمة لمصلحة إنغل على أساس موقفه الصارم إزاء إسرائيل. لكن إسرائيل لا ترد إلا في طيات المشروع. أما الأهداف المعلنة منه فهي "إيقاف دعم سورية للإرهاب، وإنهاء احتلالها للبنان، والتوقف عن تطوير أسلحة الدمار الشامل، ووضع حد للاستيراد غير المشروع للنفط العراقي، ومن خلال ذلك محاسبة سورية لمشكلات الأمن الدولية الجدية التي تسببت بها في الشرق الأوسط، ولأغراض أخرى". وفي أجواء "الحرب على الإرهاب" التي أعلنتها حكومة جورج بوش التي تراوح في خطابياتها وتطبيقاتها بين الضبابية الخيالية والواقع القاتل، يأتي إيراد موضوع الإرهاب على رأس قائمة الأهداف ليضفي صدقية فورية على مشروع القانون. لكن لهذا الربط بين مشروع القانون والإرهاب هدفاً آخر هو السعي إلى إلزام حكومة الرئيس بوش تأييده على أساس أنه ينسجم مع مجمل سياستها. يبتدئ مشروع القانون بسرد معطيات تلحظ أنه على رغم تصنيف وزارة الخارجية الأميركية لسورية كدولة داعمة للإرهاب، فإنها تخضع لقدر من العقوبات أقل من تلك المفروضة على سائر الدول المصنفة إرهابية، وذلك على رغم احتضانها منظمات "إرهابية"، ك"حزب الله" و"حماس" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"الجبهة الشعبية - القيادة العامة". وتلحظ أيضاً أنه على رغم القرار 520 الصادر عن مجلس الأمن والداعي إلى احترام سيادة لبنان، فإن ثمة 20 ألف جندي سوري ما زالوا موجودين على أراضيه، متجاهلين دعوات الكونغرس الأميركي المتتالية للانسحاب منها، ومتجاهلين المعارضة اللبنانية المتنامية لوجودهم. وتلحظ هذه المعطيات أيضاً أن إسرائيل أنهت انسحابها من لبنان، وفق القرار 425 لمجلس الأمن وبتصديق من الأممالمتحدة، لكن "حزب الله" بدعم سوري ما زال مستمراً بعملياته في مزارع شبعا، وما زال مسيطراً بمباركة سورية على مجمل المنطقة الحدودية، متسبباً بزعزعة الاستقرار فيها ومستقدماً الحرس الثوري الإيراني إليها. ومن المعطيات الأخرى التي يسردها مشروع القانون أن الولاياتالمتحدة تقدم 40 مليون دولار من المساعدات للبنان، وأن سورية تسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل والأنظمة الصاروخية وتنتهك الحظر على استيراد النفط العراقي. وينتقل مشروع القانون بعد سرد المعطيات إلى تحديد مطالب الكونغرس، وهي إعلان الحكومة السورية التزامها عدم دعم المنظمات "الإرهابية" المذكورة، والانسحاب من لبنان، على أن تنشر الحكومة اللبنانية الجيش اللبناني في كل الأراضي اللبنانية وتطرد جميع المنظمات "الإرهابية" والقوى الغريبة منها، وأن تمتنع الحكومة السورية عن السعي الى امتلاك أسلحة الدمار الشامل والأنظمة الصاروخية وعن استيراد النفظ العراقي خارج إطار الحظر، وعلى أن تباشر كل من الحكومتين السورية واللبنانية بمفاوضات سلام غير مشروطة مع إسرائيل، وأن تقتصر المساعدات الأميركية للبنان على المنظمات غير الحكومية إلى أن تفرض الحكومة اللبنانية سلطتها على كل الأراضي اللبنانية. ويحدد مشروع القانون السياسة الأميركية بمكافحة الإرهاب الدولي وتحميل سورية مسؤولية أي هجوم يقدم عليه "حزب الله" وسائر المنظمات، والاستمرار في تصنيف سورية دولة راعية للإرهاب، وبالسعي إلى تحقيق السيادة الكاملة للبنان، وباعتبار سورية مخالفة لقرارات مجلس الأمن 520 و660 في شأن استيراد النفط من العراق خارج إطار الحظر. ويلزم مشروع القانون الحكومة الأميركية فرض العقوبات على سورية، من منع تصدير الأسلحة والعتاد الحربي لها وفق ما هو قائم لتوّه، والمقاطعة الرسمية المالية والتجارية، والاستثناء من برامج الاستثمار الخارجي ولكنه يقرّ للرئيس بإمكان رفع العمل بهاتين العقوبتين الأخيرتين، ثم يمنح الرئيس خيار فرض اثنتين من جملة عقوبات هي منع تصدير أي مواد باستثناء الغذاء والدواء، ومنع القطاع الخاص من الاستثمار في سورية، وتقييد حركة الديبلوماسيين السوريين في الولاياتالمتحدة، ومنع الطائرات السورية من استعمال المجال الجوي الأميركي، وتقليص الاتصالات الديبلوماسية، والحجر على ممتلكات الحكومة السورية في الولاياتالمتحدة. ثم يرسم مشروع القانون الإطار الإداري للتصديق على الخطوات التي يلزم الحكومة اتخاذها. والواقع أنه تتداخل في إصدار مشروع القانون هذا عوامل عدة. أول هذه العوامل التجاذب بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، إذ يشكل مشروع القانون هذا، كالكثير غيره، محاولات تراكمية للسلطة التشريعية المتمثلة بالكونغرس، لتأطير حركة السلطة التنفيذية المتمثلة بالرئيس وحكومته، في مقابل المساعي الدائمة التي تبذلها الحكومة لتوسيع رقعة تحركها خارج إطار المساءلة التي يفرضها عليها الكونغرس. وهذه العلاقة التنافسية على السلطة بين الجانبين التشريعي والتنفيذي هي احد أسس نظام الحكم في الولاياتالمتحدة، إذ تضع كل جانب في موضع الرقيب على الآخر، وتكون للسلطة القضائية الكلمة الفصل في حال عدم انفضاض الخلاف. ويلاحظ إذاً أن مشروع قانون "محاسبة سورية للعام 2002" يضع قيوداً على قدرة الحكومة على المناورة من خلال إلزامها فرض عقوبات. ولكنه، حرصاً على الطبيعة التراكمية لتدخل السلطة التشريعية بعمل السلطة التنفيذية، وللتقليل من قدرة الحكومة على التعبئة الحزبية لمنع إقراره، يقدم قائمة خيارات من العقوبات ويقرّ للسلطة التنفيذية بحق رفع العمل بعدد من القرارات التي يتضمنها. أي أن مشروع القانون هذا يحتوي في طياته على عناصر إبطال العمل بمعظمه، فلا يبقى منه كحد أدنى إلا قدر من العقوبات الصورية. وفي المقابل، فإن السلطة التنفيذية، على لسان مصادر من وزارة الخارجية، تعارض مشروع القانون هذا لتقييده حرية عملها وقدرتها على رسم سياستها في موضوعه أي العلاقة مع سورية. والواقع أن صوغ مشروع القانون في إطار التجاذب بين السلطتين يجعل منه في نهاية المطاف شكلاً من دون مضمون، يمكن من عمل على إقراره توظيف نجاحه لأغراضه الخاصة، ولا سيما الانتخابية منها. أما العمل الفعلي على تطبيق المضمون وهو هنا تقييد سورية ومعاقبتها، فيبقى رهناً بقرار سياسي لدى السلطة التنفيذية، سواء أقر مشروع القانون أم لا. والنموذج الأشهر في هذا المضمار القانون الآخر الذي اجتهد إليوت إنغل نفسه لإقراره، أي القانون الذي فرض على الحكومة الأميركية الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل. فكل السياسيين الأميركيين، ومنهم الرئيس الحالي جورج دبليو بوش خلال حملته وحاجته الانتخابيتين، أعربوا عن تأييدهم ودعمهم لهذا القانون ورغبتهم في وضعه موضع التنفيذ. ولكن الواقع يبقى مخالفاً للكلام، والسفارة الأميركية تبقى في تل أبيب. العامل الثاني هو حاجة كتلة الضغط المؤيدة لإسرائيل الى اظهار نفوذها في الكونغرس من خلال إقرار أكبر عدد ممكن من القوانين المتوافقة مع أهدافها، حتى إذا كانت فاعلية بعض هذه القوانين محدودة، اذ إن وفرة هذه القوانين، إضافة إلى وفرة الموقعين عليها، تضمن لكتلة الضغط المؤيدة لإسرائيل المحافظة على صورتها ككتلة فعّالة، وبالتالي تشجع المزيد من الانضواء تحت لواء مشاريع القوانين الأكثر أهمية التي قد تحتاج إلى إقرارها مستقبلاً. أي أنه لا شك في أن كتلة الضغط المؤيدة لإسرائيل تحبذ مشروع قانون "محاسبة سورية للعام 2002" لما يشكله، على أقل تقدير، من إحراج إعلامي لسورية ومن تعزيز للربط بينها وبين الإرهاب. ولكن الناشطين في هذه الكتلة يدركون أن فاعلية هذا القانون في حال إقراره تبقى رهناً بالقرار السياسي للرئيس والحكومة. فنشاطهم لإقراره يأتي بالدرجة الأولى من باب تمتين العلاقات مع مختلف أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس والذين تهافتوا للتوقيع على المشروع، بغضّ النظر عن حجم النتيجة الفعلية للقانون في حال إقراره. العامل الثالث، وهو الأقل أهمية من وجهة نظر أميركية، ولكنه الأهم من وجهة نظر لبنانية، هو سعي عدد من الأطراف اللبنانية المقيمة في الولاياتالمتحدة إلى تنظيم نشاطها السياسي وتفعيله، في اتجاه إنهاء الوجود السوري في لبنان. ولا بد هنا لكل هذه الأطراف من الإقرار، ضمنياً على الأقل حتى إذا تظاهرت بخلافه، بأن فاعلية نشاطها كانت لتكون شبه معدومة لولا تبني جهات مؤيدة لإسرائيل مطلبها. وعلى رغم صدق النيات لدى معظم هذه الأطراف، وعلى رغم اعتبارها أن التوافق مع هذه الجهات المؤيدة لإسرائيل ليس إلا توافقاً مرحلياً يقوم على مصالح مشتركة، فالواقع أن التفاوت بين الطرفين في هذا التحالف المضعضع من حيث الإمكانات والخبرة والعلاقات والتنظيم، يجعل من الجانب المؤيد لإسرائيل صاحب القرار، ويضع الأطراف اللبنانية في موقع شاهد زور في عملية طقوسية أقصى حدود الافادة منها لبنانياً يبقى كلامياً، في مقابل خسارة مضاعفة على مستوى التواصل الوطني. ويجوز هنا الحديث عن فشل لبناني مزدوج. الأول، وهو سوري أيضاً بقدر ما هو لبناني، نظراً للنفوذ الفعلي للجانب السوري على الساحة السياسية اللبنانية، هو في فرز للمقبول وإقصاء لغير المقبول من الطروحات السياسية أخرج هذه الأطراف اللبنانية من إطارها الطبيعي في المجتمع اللبناني، وبعث بها إلى المنفى حيث تاه الكثير منها في تصورات يتداخل فيها الواقعي بالوهمي، فأصبح التعاون مع الجهات المؤيدة لإسرائيل خياراً مقبولاً بالنسبة اليها. أما الفشل الثاني، فهو فشل هذه الأطراف نفسها في تطوير خطابها بعيداً من المهاترات الطائفية العلنية أو المبطنة، وعجزها عن استقطاب حتى قاعدتها المفترضة من اللبنانيين الأميركيين. فعلى رغم المزاعم الفضفاضة التي تنم عنها أسماء بعض هذه الأطراف، فإنها على الغالب تبقى تجمعات لأعداد قليلة من الوافدين الجدد. والواقع أنه يبدو أن هذه الأطراف، للأسف، ترضى بالانتصار الصوري الموقت، في حال أقر مشروع القانون، على حساب تأزيم الوضع الداخلي اللبناني. مع طرح مشروع قانون محاسبة سورية للعام 2002، تتابع العملية السياسية في الولاياتالمتحدة دورتها الاعتيادية في التجاذب الصحي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتستمر الجهات المؤيدة لإسرائيل في نشاطها الدؤوب لتعزيز فاعليتها. وبما أن السياسة الخارجية الأميركية تبقى في نهاية الأمر بيد حكومة الرئيس بوش، فإقرار مشروع القانون أو عدمه لن يكون ذا تأثير ضخم في سورية. أما لبنان، فسواء منه من تورط بدعم مشروع القانون، أو من ساهم منه في تغذية الأرضية لهذا التورط، فيبدو أنه الخاسر الأول، حتى إذا تعالت أصوات لبنانية ترحب بهذه النتيجة أو تلك. * كاتب لبناني.