بعد كل ضجيج المعارضة الأوروبية والروسية والعربية للحرب الأميركية على العراق، نجح الرئيس جورج بوش في انتزاع حشد دولي يساند استراتيجيته التي تبدأ بإنذار الفرصة الأخيرة لبغداد، لانتزاع اسنان ترسانتها المحظورة، وتنتهي بفخ لنظام الرئيس صدام حسين. المعارضات تحولت 180 درجة في غضون بضعة ايام، لتلتف على عنق بغداد: الأوروبيون سعداء بعودة بوش الى منبر الشرعية الدولية - الأممالمتحدة - للتعامل مع صدام الذي لم يقل الرئيس الأميركي صراحة في خطابه أمام الجمعية العامة انه ما زال مصراً على اطاحته، وعلى العالم ان يمشي وراء واشنطن كما فعل في جبهة "الحرب على الارهاب". الروس اختاروا نيويورك لينضموا الى ميسترو يوجه الانذارات الى بغداد: عودة المفتشين أو العواقب الوخيمة، فيما كانت الادارة الأميركية تنصحهم بعدم الرهان حتى على صفقة لمقايضة تعاطفهم مع العراق ورفضهم الخيار العسكري، بمساومة ولو مالية تعوض ديونهم المستحقة عليه. اما العرب فارتياحهم الى خطاب بوش لن يرضي صدام الذي حاول على مدى شهور اغراءهم بمنافع اقتصادية لاتفاقات مع بغداد. بعضهم استعجل في تفاؤله بالخطاب الذي سيجسد أول تطبيقاته القرار "القاسي جداً" الذي يعدّ على نار حامية في مشاورات واشنطن مع أعضاء مجلس الأمن، وسيتضمن آلية - مفاجأة لإزالة أسلحة الدمار الشامل العراقية. وبعض الوزراء العرب الذين التقاهم الوزير كولن باول لم يخف ارتياحه، لأن الأخير لم يطلب شيئاً... حتى الآن، وهو اذا طلب من قطر تسهيلات عسكرية لاستخدامها في ضرب العراق، في حال رفض تطبيق القرار المتوقع لمجلس الأمن، لن تفاجأ وستتفهم. حتى مصر بدأت تلمح الى احتمال تغيير موقفها المعارض للخيار العسكري، اذا لم ينتهز صدام الفرصة ويقبل بعودة المفتشين، فيما أوروبا جاهزة على الأرجح للمشاركة في قوة تدعمهم، يتوقع ان يتبناها المجلس لتسريع اغلاق ملف الأسلحة. ومثلما تسرع نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز في رفض "عروض" بوش وشروطه الخمسة لتفادي الحرب، كأن بغداد تملك خياراً آخر غير "تلقين الاميركيين درساً" كما يقول !، استعجل وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز في ابداء قلقه من ضياع فرصة الحرب، اذا استجابت بغداد تلك الشروط. وما لم يقرأه الوزير بعناية في خطاب الرئيس الأميركي، تلميح الأخير الى مرحلة ثانية عنوانها دور للأمم المتحدة في اقامة حكومة موسعة في العراق والإشراف على انتخابات تمهد ل"احترام حقوق الانسان وحرية الاقتصاد". ببساطة، انه الفخ الذي ينصبه بوش لصدام ولم ينجح في اخفائه كهدف نهائي لإدارته، ليشجع الرئيس العراقي بالتالي على التصلب والتمسك بخيار انتحاري، كون رأسه هو المطلوب ولو طبق الشروط الخمسة التي تعتبرها بغداد تعجيزية. وهكذا يسجل الرئيس الأميركي للمرة الأولى نجاحاً في استراتيجيته للعراق، ولو عبر تضليل الأوروبيين بفصل ظاهري بين مرحلتي إزالة أسلحة الدمار الشامل وإزالة نظام صدام. وليس الحلفاء وحدهم من ابتلعوا طعم تجنيد بوش للشرعية الدولية في التصدي ل"نظام الرعب وسفك الدماء وتهديد العالم بسلاح نووي سيتمكن العراق من صنعه في غضون سنة"، فها هم الروس الذين قاوموا بشراسة التفرد الأميركي يتخلون عن صدام في ساعات. وبصرف النظر عن تسليح المفتشين بقوة متعددة الجنسية أو بأسنان من نوع آخر، فإن التفاؤل بانحسار احتمالات الحرب لا يضلل إلا صاحبه، والنظام العراقي ربما يدرك هذه المرة ان الرهان على فرصة اللحظة الاخيرة لن يجدي. في بغداد من يقول ان المطلوب هو انتحار النظام، أو اغتياله. وفي كلا الحالين لا ينفعها قتال ب"السكاكين والعصي"... ولو كان شجاعاً.