كأنه غاب احتجاجاً. ليس من عادة العاصفة ان تغريها هدأة السرير. قدرها ان تقف وتذهب. ان ترتطم بعناوين النهار وشهيات الليل. ومن ذلك الارتطام يتدفق الشرر مظلة ترد وطأة الوقت والغربتين. نبيل خوري. كأنه غاب احتجاجاً. لا السلامة ترضي الملاكم. ولا الحيز الضيق يتسع للرجل المسرف. الرجل المسرف في عشق الاشياء يلاعبها بالحبر مرة وبالصوت اخرى متوكئاً دائما على قلب كلفه دائما مهمات عشق ينوء بها القلب فتشجعه على الغدر بصاحبه. انها قصة رجل مسرف. فهذا الفتى المقدسي طاردته رائحة اول الايام. وكلما ازداد احتمال اللقاء ابتعادا كان الوشم يستحكم بالقلب. ولم يكن من عادته ان يتنكر لمدينة. ولم يكن من خصاله ان يتنكر لصديق. كان الرجل الرحب يهرب الاماكن الممنوعة الى قلبه ليحمي القرميد من الغربة والاشجار من الاقتلاع والعصافير من غواية الهجرة. وحين كانت الاجراس تقرع في باحات الروح واوردة الرأس كان يطلق عليها ضحكة صافية كمن يغطي الدموع بالياسمين. اوجعه اغتيال القدس فانتظر في بيروت. وتضاعفت الأوجاع حين سقطت حبيبته الثانية تحت ركامها بفعل جريمتين: محاولة انتحار ومحاولة اغتيال. وراح نبيل خوري يداوي اوجاعه بالحبر. بالحبر السهل الوافد من صفاء الينابيع. بالحبر الصعب المحمّل بالرسائل الغاضبة التي ترمي الجسور ليتقدم القارئ مشاركاً الكاتب في حلمه. مقال يشبه البوح في اتصال رقيق. مقال هو مطلع صفحات تتسع لآخرين. كان نبيل خوري يحب السباحة بين المقالات الجميلة والتحقيقات اللافتة والاسماء المضيئة. كان رحباً يشجع انطلاق القناديل ووحده الكبير يجرؤ على احتمال لمعان الآخرين. ومن الضفة الى الضفة كان هاجس الأناقة حاضراً. كان نبيل خوري مسكوناً بهاجس الرحابة. يريد النهار اطول والليل اوسع. وكان يعرف قصة العمر لهذا كان يقطف الوقت بشراهة من يخشى نفاد الاشياء. وفي النهاية كان ينفرد بقلبه وقلمه مخبئا الحكايات والروايات والمقالات بين سطرين. قبل عشرة اعوام جاءني صوته في الهاتف ولم تكن بيننا معرفة. قال هل يتسع صدرك لملاحظتين فشكرت واستمعت. ومنذ ذلك اليوم راح الصوت يعود كلما عادت سلسلة "يتذكر" الى قرائها وكان ينتقد بتواضع الكبار واسلوب الاستاذ المحب. وفي لقاءات قصيرة اعقبت الاتصال الأول كان نبيل خوري رجلا يشعر محدثه بخسارة ان تأتي الصداقة متأخرة. ذات ليلة في الفندق في دمشق غلب الحزن الرجل وهو يتحدث عن حال الأمة. ولم يكن سراً ان الرجل يشتهي لو يرد عقارب العمر الى الوراء ليعاود المعارك من اولها دفاعاً عن احلامه. وحين دهمته هدأة "الغياب" وسمرته توقعت ان لا يطيق الملاكم هدأة السرير. من عادة الملاكم المسرف ان يتشهى النهاية على الحلبات بنبل الفرسان في مقارعة الآخرين وبقسوة الفرسان على انفسهم. فالقلب غدّار والحبر غدار.