الولايات المتحدة ليست بصدد العودة الى الأحادية، على ما يقول معلقون كثيرون، إذ هي لم تبارحها يوماً... وحربها في أفغانستان لم تشكل في ذلك الصدد استثناء، بل على العكس من ذلك كانت تأكيداً لذات المنحى الانفرادي وإمعاناً فيه. لم يوجد تحالف دولي مناهض للارهاب، خاض الحرب في افغانستان، إلا على الورق وفي تصريحات المسؤولين، وبالتالي فإن توهم أن تكون الخشية من انفراط ذلك التحالف العتيد من الروادع التي قد تلجم في نظر البعض جموح الادارة الأميركية، ضرب من التمني دوماً، ومضحك أحياناً. الحرب الأفغانية كانت حرباً أميركية صادق عليها العالم، متحمساً أو مضطراً، ربما لأن فعلة بن لادن لم تترك له من خيار غير ذاك، أما أن تكون بلدان كثيرة قد اعتبرت مصادقتها تلك تحالفاً مع واشنطن، فذلك شأن تلك البلدان ولا يُلزم الادارة الأميركية في شيء أو بشيء. فهذه الأخيرة لم تحالف أحداً، وأفصحت عن ذلك بأجلى التعبيرات وأوضحها، قولا وفعلا، حين حدّت من اندفاع بلدان حلف شمال الأطلسي التي كانت تريد مناصرتها في حملتها الأفغانية، مشيرة الى أن طبيعة العمليات هي التي تفرض التحالفات والاستعانة بهذا البلد أو ذاك، بصفته الفردية، وقد لا تفرضها، وهي في نهاية المطاف لم تفرضها، حتى قال مسؤول الماني بأن دور بلدان أوروبا الغربية قد توقف في تلك الحرب عند الاضطلاع بوظيفة "خادمة البيت". ثم ان الاستعانة بهذا الطرف أو ذاك قد تنال قسراً، بالترهيب أو بالترغيب أو بكليهما معاً، ولا تتطلب تحالفا، شأن ما كانت عليه الحال بالنسبة الى حكومة باكستان، تلك التي جندت في الحملة على نظام "طالبان"، نابذة، بين عشية وضحاها، توجهاً في دعم الحركة الأصولية الأفغانية دأبت عليه طيلة سنين، ومخاطرة بإغضاب رأيها العام، أو قطاع منه واسع، وبالتفكك الداخلي... كما لو أنه لم تعد للولايات المتحدة، في عهدها الجمهوري البوشي هذا، من مصالح مشتركة مع أحد، على قدر من ثبات أو من استدامة، بل ليست لها إلا مصالح وطنية، مطلقة الأحادية، تقرّب على أساسها من تريد وتقصي من تريد، وفق ما تمليه الظروف والملابسات. حتى أنها تكاد أن تلغي شيئاً اسمه الديبلوماسية والسياسة الخارجية. ولعل ذلك ما يفسر تضاؤل دور وزير الخارجية كولن باول في الادارة الحالية، قياساً بما كانته نظيرته في الادارة الديموقراطية السابقة مادلين أولبرايت، ولعل ذلك ما يفسر أيضاً تلك الغلبة المتزايدة التي باتت من نصيب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس، وسواهما من الصقور، ممن مجالهم قضايا الأمن والدفاع. وهذه مما أمسى القناة الأساسية التي تتعاطى بواسطتها الولاياتالمتحدة مع شؤون العالم، ذلك الذي لم يتبق للولايات المتحدة في عداده غير حليفين، تصح عليهما هذه الصفة فعلا، هما بريطانيا واسرائيل. لا يكون مفاجئاً، والحال هذه أن يبادر الرئيس بوش، في خطابه الأخير حول حال الاتحاد، الى تحديد ل"محور الشر" أدرج فيه بلداً مثل ايران، بدا خلال الحرب الأفغانية الأخيرة بأن تقارباً ملحوظاً وغير مسبوق قد قام بينه وبين الولاياتالمتحدة. فالتقارب ذاك قد لا يعني واشنطن، وقد لا يؤسس لشيء في نظرها، وفق رؤيتها الجديدة الى الحياة الدولية، تلك التي يبدو أنها قائمة على مبدأ مفاده أن القوة ثابتة وأن كل ما عداها آني وزائل. وأن الدور المحوري الذي اضطلعت به ايران في محاربة "طالبان"، ليس قابلاً لأي استثمار مستقبلي وأنه يمكن لأبسط حدث يجدّ، من قبيل سفينة الأسلحة التي يقال بأن طهران ارسلتها الى السلطة الفلسطينية، وقامت اسرائيل باعتراضها في البحر، أن يجبّ كل ما أنجز أو اعتقد الايرانيون بأنه قد أُنجز. الولاياتالمتحدة إذاً بصدد عسكرة الحياة الدولية، على نحو لم يسبق له مثيل أقله في التاريخ الحديث، عدا عن فترات النزاعات الدولية الكبرى، في أثناء الحربين العالميتين. حتى حقبة الباردة، عندما كان العالم يعيش تحت كابوس الدمار الكوني المتبادل بين المعسكرين آنذاك والشامل، لم تبلغ درجة من العسكرة كتلك التي تنصرف إدارة الرئيس بوش الى إرسائها حالياً، بل كانت تتسع إلى السياسة، تلك التي كانت تجد في اختلاف المعسكرين السابقين رحمة، أي حيزاً ومجالاً. ميزانية الدفاع التي أعلن عنها الرئيس بوش مؤخراً، والتي وصفت بأنها الأعلى منذ عشرين سنة، هي خير تعبير عن ذلك السعي الى عسكرة الحياة الدولية، بل هي بمثابة اعلان السيادة على العالم بأسره، ما دامت تعني بأن الولاياتالمتحدة بصدد تحويل أرجحيتها العسكرية الساحقة، من حيث الامكانات المالية ومن حيث القدرات التكنولوجية، الى احتكار للقوة ولأسبابها على الصعيد الكوني، في هذا العالم الذي ربما باتت كل دوله، مهما بلغت من علو الشأن أو من وضاعته، محدودة السيادة عملياً، ولم تبق من دولة ذات سيادة سوى الولاياتالمتحدة، تلك التي تنفرد دون سواها بقرار الحرب والسلام، وترجمت كل عناصر قوتها، الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية وسواها، الى سطوة عسكرية صرف أو تكاد. ما العمل في مواجهة كل ذلك؟ العمل على تطوير قطب مواز للولايات المتحدة؟ ذلك ما يبدو متعذراً حتى الآن، فلا بلدان الاتحاد الأوروبي ولا الصين ولا روسيا، مجتمعة أو منفردة، استطاعت أن تتحدى الغلبة الأميركية. فمن امتلك العدد أعوزه التقدم التكنولوجي، ومن حاز على الارادة السياسية افتقر الى الامكانات الاقتصادية، وهذه كلها لا تكاد تجتمع إلا لدى الجانب الأميركي. المراهنة على التقدم الاقتصادي؟ ذلك قد يكون أفضل الخيارات، إلا أن هذا الاقتصاد الكوني المعولم، على ما دل "منتدى دافوس" الأخير المنعقد في نيويورك، لا تزال له قاطرة، قاطرة واحدة، يتقدم بتقدمها وينتكس بانتكاسها، والقاطرة تلك هي الاقتصاد الأميركي. سلوك سبيل القوة في مواجهة السطوة الأميركية؟ تلك مغامرة لا قبل لأية دولة في العالم بخوض غمارها. اما الضلوع فيها على ذلك الوجه النضالي أو "الجهادي" الذي كانت اعتداءات الحادي عشر من أيلول سبتمبر مثلا عليه، فنتائجه معلومة جلية بما يغني عن كل إسهاب في ايرادها. أنكى ما في الأمر ان القوة الأميركية باتت تتطابق مع العالم مدىً، فلم يبق شيء خارجها، عدا تجارب من قبيل حكم "طالبان" السيئ الذكر، ومن لم يخضع للنفوذ الأميركي عسكرياً فعل ثقافياً، ومن تحصن ثقافياً خضع اقتصادياً، وها أن إقدام واشنطن على عسكرة الحياة الدولية، على النحو ووفق المنطق اللذين سبقت الاشارة اليهما، بصدد استكمال عملية السيطرة تلك وبصدد إحكامها. "كل قوة للضعف راجعة" يقول المثل التونسي، ولكن متى؟ في انتظار أن يحدث ذلك في يوم من الأيام، في ما يتعلق بالولاياتالمتحدة، ربما كانت المقاربة الأسلم، في اطار ما هو متاح، تلك المتمثلة في السعي الى ترشيد القوة الأميركية وفي النضال من أجل ذلك... ولنا في ذلك أنموذج قد لا يكون ناجزاً إلا انه مشجع، هو المتمثل في الجهد الذي تبذله منظمات "المجتمع المدني العالمي"، تلك التي التأمت أخيراً في بورتو اليغري في البرازيل، ضمن "منتدى اجتماعي عالمي"، والتي تواجه العولمة الليبرالية والنفوذ الأميركي بنقد ديموقراطي، صارم ومشرع على اقتراح البدائل، ما انفك يزداد مصداقية لدى الرأي العام، أي لدى الناخبين بما في ذلك في الولاياتالمتحدة، حتى قالت بعض الدراسات بأن ثقة الجمهور بالمنظمات غير الحكومية، قد باتت، في الكثير من بلدان الغرب، تفوق ثقتها بالحكومات وبالأحزاب التقليدية.