كتب أحد المعلقين الغربيين يقول إن العالم تخترقه انقسامات متعددة، بين الشمال والجنوب مثلا من حيث النمو والتطور الاقتصادي أو بين الغرب والعالم الإسلامي ثقافيا وسياسيا. لكن أحد أبرز تلك الانقسامات هو ذلك القائم بين الولاياتالمتحدة وبقية العالم. مثل هذا التوصيف لا يخلو من صحة. والمراقب لمجريات أمور هذا العالم، خصوصا منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر، قد لا يجد صعوبة في تبين أن الولاياتالمتحدة ما عادت تنخرط في معسكر بعينه بل أضحت، بمفردها، معسكرا قائم الذات، يقوم منفردا بتعريف المخاطر وبتحديد طبيعتها، ويتولى مواجهتها، وحيدا إن دعت الحاجة: حاجته حصرا أو في المقام الأول. فواشنطن تتصرف في كل ذلك بمقتضى اقتناع يبدو لديها راسخا مفاده أن حاجة حلفائها المحتملين إليها أكثر من حاجتها إليهم، فهي من يمتلك الإرادة السياسية وهي من يحوز وسائل القوة العسكرية، على نحو لا يضاهيها فيه أحد، حجما وتقدما تكنولوجيا. أما الحلفاء أولئك، فهم بين ملتمس حمايتها، وبين ساعٍ، لدى نشوب نزاع من نزاعاتها، إلى مساهمةٍ له فيه، تبقى غالبا رمزية، حتى يحفظ لنفسه موقعا ويشاطر أميركا انتصارها. والأمر ذاك لا يمثل، في خطوطه العريضة، وجهة مُستجدة، أقله منذ نهاية الحرب الباردة، حيث سبق لجورج بوش الأب، كما لبيل كلينتون أن مارسا تلك الأرجحية الأميركية، أو بعض صيغها المبشرة بها: الأول في أثناء حرب تحرير الكويت والثاني في النزاعات البلقانية، خصوصا في آخر أطوارها، أي حرب كوسوفو. إلا أن الإدارة الأميركية الحالية، والتيار المتشدد داخلها ممثلاً في وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومستشارة الأمن القومي كوندوليسا رايس وشيعتهما، يبدو أنهما أقدما على تحول جذري في ما يتعلق بالنظرة إلى دور الولاياتالمتحدة في العالم. ووفق تلك النظرة، ما عادت واشنطن "تكتفي" بقيادة العالم، لأن قوتها قد وضعتها في ذلك الموقع، بل باتت تطمح إلى السيادة عليه. والفارق، بطبيعة الحال، شاسع بين المفهومين. فالقيادة يقوم التسليم بها من قبل الآخرين، خصوصا الحلفاء، على قدر من طوعية الانضواء تحتها، حيث يكون الحليف شريكا، وإن صغيرا، وحيث يستعيض عن تواضع إمكاناته، وإن تفاوت ذلك التواضع من حالة إلى أخرى، بقدرته على تقديم التغطية السياسية، أي على المشاركة في إسباغ الشرعية على هذا التحرك العسكري أو ذاك، بل حتى في تقديم دعم عسكري قد يكون ضروريا، خصوصا إذا ما كان من طبيعة لوجستية. أما السيادة على العالم، والانفراد بها، فيقومان على قاعدة التحلل من أية مصادقة دولية، فتُفضّل الآحادية على التشاركية، ويحل الإملاء، أو التجاهل، محل الإقناع والتفاوض. هذه هي عقيدة بوش الجديدة، كما لاحت بوادرها في أكثر من مناسبة: من الإقدام آحادياً على التنكر لاتفاقية كيوتو حول البيئة، إلى الابتزاز الذي لجأت إليه مؤخرا من أجل إفشال مشروع "المحكمة الجنائية الدولية"، من خلال تشبثها باستثناء جنودها العاملين في قوات حفظ السلام الدولية عبر العالم من صلاحية تلك الهيئة القضائية، وهو ما نجحت فيه. أي أن الولاياتالمتحدة لا تعتبر أن قوانين العالم أو اتفاقاته مُلزمة لها، في حين أنها لا تتردد في اعتبار قانونها مُلزما للعالم. وتوجه مثل هذا من شأنه أن يكون أبلغ خطرا على الصعيد العسكري، خصوصا أن هذا الأخير بات يبدو أكثر فأكثر عنوان الحضور الأميركي الوحيد، أو الغالب في العالم، بعد أن تنصّلت الولاياتالمتحدة من سائر التزاماتها الدولية الأخرى، سواء تمثلت في السعي إلى حل النزاعات سلميا الشرق الأوسط مثلا لا حصرا أو في تنشيط ودعم هيئات التداول والإجماع الدوليين، من الأممالمتحدة إلى سائر المنظمات الأخرى، أو مساعدة الدول الفقيرة على تحقيق التنمية، حيث أن إسهام أميركا في ذلك، وهي البلد الأغنى في كوننا هذا، هو الأدنى قياسا إلى بقية الدول المصنّعة والأقل تصنيعا. وحتى التأثير الثقافي الذي كان من بين أبرز وجوه الحضور الأميركي في العالم، ما انفك يخضع للعسكرة، على ما تدل الصلاحيات التي باتت مناطة بمُبدعي وكالة الاستخبارات الأميركية في مجال الإنتاج السينمائي، وعلى ما يشاع حول ما تزمعه واشنطن من جهد تبشيري "ثقافي" ترمي من ورائه إلى معالجة تلك المعضلة الكأداء التي تواجهها، والتي عنوانها "لماذا يكرهوننا؟". وإذا كانت العقيدة تلك قد انطلقت، إن لم يكن كتصوّر فكسياسة، بعد عدوان 11 أيلول ومن خلال الحرب الأفغانية، فإن بلورتها قد جاءت في ما بعد، أو أن التحول الحقيقي في صدد تلك العقيدة، لم يكن قد أنجز آنذاك بالكامل، بحيث لم توضع إلا لبناته الأولى. فواشنطن، وإن كانت انتهزت تلك الحرب للتعبير عن مفهومها الجديد للتحالف، بوصفه مشاركة آنية موضعية هي من ينفرد بتقرير لحظتها ومداها، إلا أنها خاضت في أفغانستان حربا أقرّها العالم، وحظيت بقدر من التغطية السياسية الدولية وبنصيب من شرعية. لذلك ربما أمكن القول إن المعركة الفعلية والحاسمة من أجل فرض تلك العقيدة الجديدة إنما هي تلك الجارية حاليا، حول مسألة مهاجمة العراق. تلك حرب لا أحد يريدها، بإجماع يكاد أن يكون ناجزا، لا تشذ عنه سوى إسرائيل وبريطانيا، وإن بشيء من التململ بالنسبة إلى هذه الأخيرة. الدول العربية المعتدلة، تلك الحليفة لواشنطن إذا ما بقي لهذه الصفة من دلالة تعترض عليها بشدة، وتخشى تبعاتها المدمرة على أكثر من صعيد، وكذلك شأن بلدان الاتحاد الأوروبي أو أبرز الدول الفاعلة فيه، على ما دلت القمة الألمانية الفرنسية الأخيرة، والبلدان تلك تنتقد افتقار تلك الحرب المزمعة إلى المبررات القانونية وتتوجس انعكاساتها على صعيد إمدادات الطاقة. هذا ناهيك عن روسيا وعن الأممالمتحدة، بلسان سكرتيرها العام كوفي أنان، وذلك على رغم أن هذه الأخيرة لم تعوّدنا على إبداء التمرد حيال واشنطن. لكن جورج بوش، ورجال حاشيته المتشددة، ماضون في الإعداد لتلك الحرب، لا ينفكون يسرّبون سيناريوهاتها المحتملة عبر وسائل الإعلام، لتهيئة الرأي العام، ذلك الداخلي أي الوحيد الذي يعنيهم، غير عابئين بآراء العالم الخارجي، حتى وإن تأتت من بعض المقربين. وإذا ما نشبت تلك الحرب على العراق، والأرجح أنها ستنشب، فإن ذلك سيكون أول تطبيق فعلي لعقيدة بوش الجديدة، تلك المتمثلة في الانتقال من طور قيادة العالم، على رغم كل المآخذ على تلك الوظيفة وعلى طريقة الولاياتالمتحدة في الاضطلاع بها، إلى طور الاستبداد بمقاليد العالم، أي إرساء ضرب من دكتاتورية كونية لم يشهد التاريخ لها مثيلا. وكون الولاياتالمتحدة ديموقراطية قد لا يلغي تلك المخاوف، فكم من ديمقراطية كانت حكرا على "أبنائها" واستبدادا محضا حيال الأغراب أو الأغيار؟ هو، إذاً وبقطع النظر عن العراق في حد ذاته، سيناريو مرعب، والأنكى أن إمكانية تحقيقه واردة إلى أبعد الحدود. فإرادة واشنطن يبدو أنها لا تقاوم، خصوصا أن المعترضين لا يقترحون خيارا بديلا عن خيار الحرب، سوى استمرار الأوضاع في بلاد الرافدين على الحال التي آلت إليها منذ نهاية حرب الخليج، في حين أنه ليس من المستبعد أن يتبرع حاكم بغداد بذريعة للإجهاز عليه، من شأنها أن تبرر للمعترضين وللمترددين الانضواء تحت لواء واشنطن...