ماذا يمكن أن يحدث لحياتنا إذا خلت من القيمة؟ يخبو الدافع الخلاّق للحياة، فلا تندفع صاعدة بوعودها إلى الأمام، ولا تؤسس تطورها المبدع بإرادة الإنسان الفاعلة في التاريخ وبالتاريخ، بل تتقهقر إلى الوراء، متخلية عن كل ما يمنحها دلالات الحضور الفاعل في الوجود، وتنقلب إلى غابة مخيفة، ليس فيها سوى شروط الضرورة التي يغدو معها الإنسان حيواناً يصارع غيره، عارياً من كل ما يميزه عن أدنى المخلوقات أو أشرسها، خاوياً من كل الفضائل التي تعطفه على غيره والكون حوله، كي يؤسس حضوره الفاعل في الوجود. وعندما تخلو الحياة من القيمة، تغيض معاني الحب والتعاطف والتعاون والإخاء والإيثار والمساواة، وتهجرنا مشاعر الكرامة والعزة والنخوة، ونستبدل بمبدأ الرغبة الخلاّقة مبدأ الواقع الكئيب بما يفرضه من شروط مخيفة مدمرة. وفي الوقت نفسه، تتقلص لهفة المعرفة وشوق التجريب، والتطلع اللاهب إلى اكتشاف ما يظل في حاجة إلى الكشف، فتتقهقر المعرفة الإنسانية باحتمالات ثرائها ونمائها وتقدمها، وتصعد جهالة التوحش، مقترنة بجدب النفوس وخواء الأرواح وتدني العقول، مخلفة الفوضى التي تنتشر كالوباء أو الدمار الذي لا يبقي ولا يذر. ويغيب معنى الجمال في النظام، أو حضور العقل في الوجود، ويغدو العقل مغترباً، منبوذاً، مطارداً، محكوماً عليه بالنفي أو الاستئصال، مجبراً على أن يترك مكانه لأدنى الغرائز وأحط الشهوات، فتنمحي دوافع التمدن وأحلام الصعود الدائم في سلم الحضارة الذي لا نهاية لوعود تقدمه أو صعوده. وتسقط من حياتنا مبادئ الحرية والعدل والتقدم مع سقوط قيم الحق والخير والجمال، فلا تبقى سوى تجليات العبودية والظلم والتخلف، مقرونة بالشر والقمع والقهر والرعب، منتجة كل لوازم القبح والرداءة والتدني الذي لا نهاية لإمكانات تَسَفُّلِه. ولذلك فإن الاحتفاء بالقيمة احتفاء بالحياة في أصفى حالاتها، وفي أرقى أشكال تقدمها الصاعد إلى ما لا نهاية. والاحتفاء بالقيمة احتفاء بالإنسان بصفته الحضور الحر الفاعل في الوجود، الحضور الذي يستبدل الحرية بالضرورة، والعدل بالظلم، والتقدم بالتخلف، والاستنارة بالإظلام، والحق بالباطل، والجمال بالقبح، والخير بالشر، وكل المعاني السامية بنقائضها الخسيسة التي تهدد الحياة وتسلبها أروع وأنبل وأطهر ما فيها. هذا الحضور الحر الفاعل في الوجود هو الفضاء الإبداعي للإنسان الذي لا يكفّ عن صنع العالم الأجمل على عينه، ولا يرى للعالم الأجمل نهاية بل أفقاً مفتوحاً على كل الاحتمالات الواعدة بالمزيد من تجليات الحق والخير والجمال. ولذلك فهو الفضاء الذي تتجسَّد به وفيه المواقف الخلاقة للإنسان عندما يتحدى الضرورة، ويواجه الشر، ويأبى الظلم، وينكر الباطل، ويرفض القبح، مصارعاً نقائض القيم التي تعمر الحياة وتدفعها إلى الأمام. وهو الفضاء الذي تتحد به وفيه كل المعارك التي يخوضها الإنسان دفاعاً عما يراه عدلاً، وما يصنعه بصفته تقدماً وتطوراً، وسعياً إلى مستقبل لا حدّ لوعوده الإيجابية. ويمكن أن نصف عناصر القيمة بأنها مطلقة كما فعل البعض، أو نصفها بالنسبية كما ذهب البعض الثاني، أو بأنها مطلقة ونسبية معاً كما انتهى فريق ثالث. أما الفريق الأول فقد ذهب إلى أن كل قيمة تنطوي على مبادئ تجريدية ثابتة، لا تتغير من عصر إلى عصر، ولا تتبدل بتبدل الزمان أو المكان، فقرن القيمة بالإطلاق، وجعل من مبادئها المجردة تبريراً لعمومية حضورها المجاوز لتغيرات الزمان وتحولات المكان. هكذا، أصبحت عناصر القيمة مطلقة، ثابتة ثبات تجلياتها التي لا تقبل التغير، أو ثبات ممارساتها التي تخضع للإطار المرجعي نفسه على امتداد العصور، فالخير هو هو في كل عصر، والحق في زمن هو الحق في كل زمان ومكان، والجمال لا يمكن أن يتحول إلى قبح، ويستحيل أن تتبدل أحواله من مجتمع إلى مجتمع، وذلك بما يجعل من النسبية معنى غائباً عن بنية القيم، والتغير لا يقع على مجالاتها التي لا تفنى ولا تتبدل، تماماً كالحب الذي وجد مع الإنسان، وسيبقى معه ما بقي الإنسان حريصاً على الحق والخير والجمال في كل زمان ومكان. وعلى النقيض من هذا الفهم، ذهب كثيرون إلى أن النسبية تقع حتى على القيم، وأن التغير مثل النسبية صفة لا تخلو منها أىة قيمة في تفاعلها مع شروط الزمان والمكان. ولذلك يختلف الجمال في أشكاله وتجلياته من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، فيبدو قرين ملامح محبوبة في زمان ومكان بعينه، ومرفوضة في مكان مغاير وزمن مختلف. ولولا ذلك ما وصف العرب القدماء المرأة الجميلة بالسمنة البالغة، إلى درجة أن شبَّهوا مشية المرأة الجميلة البهكنة السمينة بمشية الجمل الجريح، وتحدثوا عن جمال عجيزتها الهائلة التي تباعد ظهرها عن الأرض بما يتيح للأطفال تقاذف الكرات الصغيرة من تحت ظهرها، كما تحدَّثوا عن الروادف الهائلة والأثداء الكبيرة التي تمس الثياب وتضغط عليها، بينما البطن الخمصانة لا تمس هذه الثياب التي تتشكل بحجم الأرداف والأثداء. ويمكن أن أذكر الكثير من التشبيهات التي قيلت في هذا النوع من الجمال، ابتداء من السمنة التي كانت علامة نعمة، وانتهاء بصورة المرأة التي وصفها الشاعر القديم بأنها نؤوم الضحى لا تنتطق عن تفضّل. وكلها صفات مذمومة في عصرنا الذي يجد مثله الأعلى في الرشاقة، ويستبدل بصورة المرأة التي تشبه شجرة الجميز عارضة الأزياء التي لا تعرف سوى مشية الغزال ورِقَّة الأزهار. ولكن من الواضح أن هذا الرأي يغالي في مسألة نسبية القيمة إلى الدرجة التي تفقدها معناها، فمن الحق أن الجمال تتغاير مظاهره وتجلياته من عصر إلى عصر، ولكن جوهره الثابت يظل باقياً، قرين الانسجام والتوازن والتناغم بين المكونات، أما الكيفية التي يتشكل بها الانسجام أو يتحقق التوازن أو يتجسَّد فتختلف من عصر إلى عصر، لكن بما لا يحيل الجمال إلى قبح في كل الأحوال، أو يقلب الشيء إلى نقيضه تماماً، خصوصاً حين نضع في اعتبارنا أن الجمال ليس مجرد صفات خارجة، وإنما هو تجاوب بين الداخلي والخارجي، المادي والروحي، الجسدي والمعنوي، الأمر الذي يجعل صفات انسجامه وتوازنه وتناغمه أكثر شمولاً من أن تقع على جانب بعينه، وأكثر تعقيداً من أن تختزلها أو تختصرها حال واحدة. ولذلك ذهب كثر، وأنا منهم، إلى موقف يتوسَّط بين أنصار الإطلاق وأنصار النسبية في موضوع القيم، وانتهوا إلى أن كل قيمة للحق أو الخير والجمال تتأسس بعناصر ثابتة ترفض التغير السريع أو التحول السهل، وتشبه مفهوم النظام أو النسق في الفكر البنيوي، أو حتى مفهوم "اللغة" عند دي سوسير، خصوصاً من حيث الثبات والانتظام والاطراد في المكونات الأساسية. وتقابل العناصر الثابتة لهذه المكونات عناصر متغيرة تختص بها المكونات الثانوية، حالها أشبه بحال "الكلام" في علم اللغة عند دي سوسير، أو أشبه بتجليات النظام التي تتخذ صوراً متباينة، لكن من غير أن تنقض انتظام النظام أو اطراد النسق. والعناصر الثابتة هي العناصر التي تقاوم تغير الأزمنة وتحولات الأمكنة، فلا تجعل القيمة تنقلب إلى نقيضها. أما العناصر المتغيرة فهي التي تفضي إلى تغير التجليات الظاهرة، أو الأشكال التي لا تفارق سطح القيمة، أو التباينات الفرعية التي لا تقضي على الجذر الأصلي للقيمة أو إطارها المرجعي الثابت. ولذلك يمكن أن تتغير تجليات الجمال الظاهري من عصر إلى عصر، وتختلف شروطه المادية من مكان إلى مكان، لكن الجوهر الثابت للقيمة يظل باقياً، يشع في كل اتجاه كالماسة المصقولة التي تشع الكثير من الأضواء، بحسب انعكاس الضوء على كل سطح من أسطحها، لكن من دون أن يتغير جوهرها الأصلي الذي هو مصدر كل الأضواء، وذلك في كل أحوال الانعكاسات المتغيرة بتغير الضوء الواقع على أسطح الماسة نفسها. ويمكن البعض أن يجادل حتى في هذا الموقف المتوسط، فيذهب إلى أن عناصر القيمة لا تظل ثابتة إلى الأبد، أو في المطلق، وأنها يمكن أن يصيبها التغير، كما أن العلاقة بينها والعناصر الثانوية ليست علاقة أحادية البعد، فقد يحدث أن تؤثر العناصر الثانوية المتغيرة في العناصر الأصلية والثابتة، أو تحدث حال جدل يتبادل فيها الطرفان التأثر والتأثير. لكن حتى لو صح هذا الفهم، فإن تغير العناصر الثابتة بطيء للغاية، ويتم عبر أزمنة متباعدة، وعلى نحو متدرِّج لا يلحظ، وبما لا ينقض الوضع الأصلي تماماً، بل بما ينتج من التراكم الطويل لتحولات العناصر الثانوية المتغيرة، تلك العناصر التي لا تتحول علاقاتها بالعناصر الثابتة إلى علاقة جدل بالمعنى المألوف لتبادل التأثر والتأثير إلا على المستوى الذي لا ينقض البطء البالغ لتحولات العناصر الأصلية التي لا ترى من منظور آني أو حتى متعاقب في مدى قصير. ومهما يكن من أمر العناصر المتغيرة، أو الثابتة، فإن كليهما يؤكد حضور القيمة من حيث هي معانٍ تكتسبها الحياة فتغدو أرقى، متلبسة رغبة التطور وقدرة الخلق والابتكار، فالقيمة هي النور الذي يضيء للروح بحثها عن الكمال، والغاية التي تمنح الحواس الظاهرة والباطنة عشقها للجمال، والمعيار الذي تبني به النفس الأخلاق الفاضلة التي تزداد بها الحياة حياة، فهي الهدف الأسمى الذي يؤسس الحق في الوجود مقترناً بالخير والجمال. ولكن القيمة - من هذا المنظور - لا توجد مجردة، حتى وإن أمكن للعقل تجريد خصائصها العامة، وإنما توجد متجسِّدة في مواقف لشخصيات عظيمة، تنطق ممارساتها النوعية بحضور القيمة على مستوى الإفراد أو مستوى الجمع. هذه الشخصيات التي أطلق توماس كارلايل على الاستثنائي منها صفة "الأبطال" هي التي تتولى الريادة الروحية والمعنوية للماضين في طريقها، وهي التي تنقل مجالاتها النوعية من حال إلى حال، وهي التي تنقض شروط الضرورة في كل مجال بما لا تكفّ عن تأسيسه من لوازم الحرية. وأخيراً، هي الطليعة الجسورة التي لا تكفّ عن السعي للانتقال بمجتمعاتها من الإظلام إلى الاستنارة، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلّف إلى التقدم، كما تعمل على أن تنقل ممارسات كل الذين حولها من الظلم إلى العدل، ومن الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، ومن القبح إلى الجمال، ولذلك فهي الطليعة التي يتحول أفرادها إلى أمثلة تحتذى، وإلى نماذج تربوية لا بد من المضيّ على طريقها، والبدء من حيث انتهت بصفته دافعاً على التقدم إلى ما بعدها. وإذا كان الاحتفاء بالقيم يتأكد بالإعلاء من شأن مبادئها، وتحويل هذه المبادئ - بعد إشاعتها - إلى أطر مرجعية عامة لسلوكنا ومواقفنا، فإن هذا الاحتفاء لا يكتمل إلا بالتقدير المستمر للشخصيات التي تتجسد فيها هذه القيم بأكثر من معنى، وإبراز الإنجازات التي أبدعتها هذه الشخصيات في المجالات التي تتصل بالحقل النوعي لكل منها. فالاحتفاء بالقيمة لا معنى له بعيداً من الاحتفاء بكل من تتجسد القيمة في إنجازاتهم الاستثنائية التي تركت، ولا تزال تترك، أعمق الأثر في وعينا الاجتماعي والسياسي والثقافي والإبداعي، فكانت، ولا تزال، دافعنا على الحركة الصاعدة في المدى الخلاق للفضاء الإبداعي الذي أسهموا في صنعه، وتركوا لنا مهمة المضي إلى أبعد مما مضوا.