تطرح هذه المقالة أربعة مداخل واقترابات منهجية، يمكن - وفقاً لها - التعامل مع تداعيات مبادرة إنهاء العنف التي أعلنتها "الجماعة الإسلامية" عام 1997، والتي بدأت تلقى تجاوباً رسمياً لا يخلو من بعض الشكوك الموضوعية والمبررة. أولاً: المدخل الإنساني وينطلق من التركيز على "الإنسان الفرد" لجهة حاجته لأن يجد من يصدقه حين يعلن أنه أخطأ، وأنه يتحمل نتائج خطأه، وبإرادته الحرة يريد الاقلاع عن هذا الخطأ. وفي المقابل، فإنه ينشد صفحاً وعفواً إجتماعياً حتى يلج أبواب الحياة الطبيعية ويلمس دفئها. ثم يجد من يصدق أنه وبالفعل دفع ثمن الخطأ وفقد حريته داخل السجون أو خارجها، بحكم القانون أو بحكم العزلة والخصومة مع المجتمع، ومن حقه، الآن، أن يمارس حريته الكاملة في حياته الخاصة والعامة، وهو، هنا، يحتاج دعماً إجتماعياً كاملاً. ثم هناك المطالب الملحة التي تتمثل في المقومات المادية والأدبية اللازمة لاستئناف حياة طبيعية. ووفقاً لهذا المدخل، فإن الغاية النهائية هي تمكين الفرد من استعادة انسانيته المسالمة. ثانياً: المدخل الدينى وهو يعني تأسيس دور جماعي جديد للجماعة كجماعة وليس كأفراد، حيث تتحول إلى جهاز للدعوة الدينية المحضة، في إطار أهلي مثل "الجمعية الشرعية"، في إطار عرفي مثل "جماعة الدعوة والتبليغ". إذ قالوا إنهم يريدون أن يكونوا "دعاة لا قضاة". ولكن هذا المدخل تعترضه مسائل عدة: - ان خبرة الجماعة الإسلامية، من الناحية العملية، هي خبرة مواجهة مسلحة وصدام عنيف. - أن التكوين العلمي الشرعي للجماعة الإسلامية ليست فيه إضافة جديدة، وهو مرّ في مرحلتين: الأولى لم تكن إلا قراءة متسرعة ومبتسرة وخاطئة للتراث الفقهي، وهي المرحلة التي دفعت نحو الصدام العنيف. والثانية: لم تكن إلا عودة، استغرقت 20 عاماً، لبدهيات الفقه الإسلامي التي يخبرها تلميذ أو طالب في الاعدادي. - وربما يكون من قبيل الصراحة المؤلمة، القول إنه مثلما اعترف أعضاء الجماعة بالخطأ حين قاموا بدور "القضاة" من دون ولاية أو تأهيل، وعادوا واعترفوا بقداسة هذا الدور وحمايته من المتطفلين وغير المؤهلين، فإنهم مدعوون الى التفكير في وظيفة "الدعاة" هذه الوظيفة التي تتعرض لاستباحة حدودها من كل الهواة. وأمام أعضاء الجماعة أن يفكروا في أمرين: أولهما: طبيعة الدور الدعوي الذي يمكنهم القيام به، من دون تكرار نموذج الأزهر، ونموذج جماعة "الدعوة والتبليغ"، ونموذج "أنصار السُنة المحمدية"، ونموذج "الإخوان". وثانيهما: مثلما قرروا الاعتراف "بحرمة الدولة" والامتناع عن منازعتها في اختصاصها واستباحة دورها، فإن "حرمة الدين" ليست أقل من حرمة الدولة، وعليهم أن يفكروا في عدم استباحته، والمغامرة بحمله، ومنازعة أهل الإختصاص وذوي التأهيل والكفاية. ثالثاً: المدخل السياسي، وهو يعني أن تكون المبادرة مصدراً لشرعية سياسية جديدة، تتحول الجماعة - بموجبها - إلى قوة سياسية علنية سلمية، سواء في شكل حزب أو جمعية ثقافية أو اجتماعية، أو في شكل توافقي. وهذا من شأنه أن يغير من التركيبة السياسية القائمة، لأن لدى الجماعة عضوية عاملة ونشطة وشابة وذات خصائص كفاحية تتمثل في 15 ألف شاب، وهم قوة ليست موجودة إلا لدى الإخوان. وإذا وجدت مثل هذه القوة إلى جانب قوة الإخوان، مع استمرار الأوضاع الحزبية المتردية على ما هو عليه، فإن المشهد السياسي سينحصر في الحزب الوطني الحاكم والإخوان والجماعة. وهذه القوى الثلاث ليست ذات خيارات واضحة أو حاسمة في ما يخص ضرورة بناء الدولة العصرية الحديثة. ومن المستبعد أن يجدوا موقعاً في الحزب الوطني، إلا كأفراد. ومن المستبعد أن يقبلوا - فردياً أو جماعياً - الانضواء في جماعة "الإخوان المسلمين"، نظراً الى سياسة الإخوان التي حاولت الانتفاع والتربح السياسي من عنف "الجماعة الإسلامية"، إذ دأب الخطاب الإخواني على طرح الجماعة باعتبارها القوة المعتدلة القادرة على مساعدة الدولة في كبح جماح التطرف الذي تمارسه "الجماعة الإسلامية" وتنظيم "الجهاد"، وقد رأى الإخوان أن إيغال الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد في ممارسة العنف يزيد اعتدال الإخوان وضوحاً ولمعاناً. وأياً يكن الإطار السياسي، فإن الأخطر هو البرنامج السياسي. والمقولات السياسية التي انتهت إليها المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية ليست إلا عودة متأخرة لبدهيات السياسة الشرعية التقليدية، ولكنها لا تمثل - أبداً - رؤية سياسية معاصرة. رابعاً: المدخل المؤسسي، ويشمل "الجماعة الإسلامية" وغيرها، بما في ذلك النظام السياسي نفسه الذي يتذكر بين حين وآخر الحاجة الضرورية الى بناء دولة المؤسسات، أي دولة القانون لا دولة الأشخاص. وهي الحاجة التي طال انتظارها ولم تزل قائمة من دون الوفاء بها. وينطلق هذا المدخل من فكرة أن واحداً من العوامل الأساسية التي تصنع الفروق بين التقدم والتخلف: هو مهارة الابداع التنظيمي والمؤسسي المرن والمتواصل، الذي يجمع الابداعات والطاقات والمبادرات الفردية والجماعية، في أطر تتجاوز الفرد والجماعة وتتصل بهما في آن، وتكون قادرة على إحداث التراكم المستمر. وعلى النقيض، فإن غباء الأبنية التنظيمية والمؤسسية الجامدة والاحتكارية، يهدد إبداع الأفراد ويقتل المبادرات الجماعية، ويمنع التراكم الدافع الى الأمام، ويخلق الجمود. والخيار المؤسسي، أي عمل الأفراد من خلال مؤسسات رسمية أو أهلية، مطروح أمام مجموعة ال 15 ألفاً، لمن كان منهم يريد إطاراً للعمل العام، على أن ينطلق من مفهوم المؤسسة. فالدعوة الدينية، والاصلاح الاجتماعي، والجهاد، والقضاء، والنشاط الخيري، والسياسة، ومزاولة التجارة، كلها أنشطة مؤسسية، منها ما تنفرد به الدولة، ومنها ما هو متاح أمام المجتمع الأهلي والأفراد. والتحدي المؤسسي المطروح على "الجماعة الإسلامية" هو تحد فكري ومعرفي أساساً: فالدولة الإسلامية - في مجدها - هي دولة قرون وسطى، لم تعدم وجود المؤسسات الأهلية، ولكن يظل بناؤها المؤسسي بعيد الشقة من البناء المؤسسي للدولة الحديثة. والفكر السياسي الإسلامي في أحسن طبعاته هو فكر لصيق بدولة القرون الوسطى. إن إجتهاداً فكرياً سياسياً إسلامياً هو التحدي الذي لا يمكن نسيانه، حتى يتم ردم الفجوة بين الفكر القديم والمؤسسات الحديثة. ومن دون القضاء على هذه الفجوة، ستكون "الجماعة الإسلامية"، مثلها مثل الكثير من الجماعات، بل والكثير من الدول، ذات أشكال حديثة ومضمون قديم،. والجماعة الإسلامية ستواجه مأزق التحديث المؤسسي، فمن الصعب أن تتحول في وقت قصير إلى مؤسسة ديموقراطية حديثه. نظراً الى عوامل عدة: - الطبيعة ذات الروح العسكرية والقتالية التي أملت نموذجاً تسلطياً قيادياً. - الطبيعة التسلطية ذات الروح الفردية القائمة على مبدأ السمع والطاعة. - تشبع القيادة والقواعد بالثقافة التقليدية. - غلبة الروح الجماعية بصورة تقضي على المبادرة الفردية. وختاماً إن هذا الخيار المؤسسي، يمكنه استيعاب وإعادة إدماج مجموعة ال 15 ألفاً الذين يكونون مجمل عضوية الجماعة سواء من كان داخل السجون أو كان خارجها. إن قدراً أكبر من المرونة والانفتاح والديموقراطية، إذا تم إضفاؤه على مؤسسات الدولة ومؤسسات العمل الأهلي، يوفر مصدراً للعافية والقوة الايجابية للدولة والمجتمع، وهذا المصدر لا غنى عنه في السنوات المقبلة، حيث تحمل عواصف العولمة الكثير من التحديات والمخاطر على وجود "الدولة" وعلى تماسك "المجتمع". مثلما تحمل، في الوقت ذاته، الكثير من الفرص والمكاسب. وأخطر ما يمكن أن يواجه "الدولة" هو أن تكون في وقت واحد تحت ضغوط عولمة لا تعرف كيف تستجيب لها، وتحت ضغوط إجتماعية لا تعرف كيف تلبيها. * نائب مدير تحرير مجلة "السياسة الدولية" - مصر