لأن الغرب يردد على ألسنة أو أقلام بعض باحثيه ومفكريه وساسته منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر ان العلاج الناجع للقضاء على التطرف والعنف والارهاب يكمن في عزل الدين الإسلامي في مجتمعات المسلمين عن السياسة، وبقية شؤون الحياة، لينصرف المسلمون الى ادارة معاملاتهم، وشؤون معيشتهم بحسب النسق الغربي العلماني، أو الديموقراطية الليبرالية بحسب فوكوياما،. ولأننا لا نحسن الظن كثيراً بمثل هذا القول، فقد بدأنا الحديث مع أصدقاء الحقيقة والباحثين المنصفين والمفكرين الموضوعيين، والسياسيين الواقعيين في الغرب عموماً وفي أميركا على وجه الخصوص، وقلنا إن المؤمل في رجاحة عقولهم أن تدرك أن من الحتمية بقاء الدين الإسلامي مهيمناً على الحياة ومجرياتها في مجتمعات المسلمين، لأن الإسلام بالنسبة اليهم - كما يؤمنون ويعتقدون بحق وصدق والتزام - هو عقيدة حياة بكل معنى هذا اللفظ. من أبرز الأخطاء في دعوة المسلمين للسير في ركاب الغربيين وأن يحذوا حذوهم في تطبيق العلمانية على مجتمعاتهم الإسلامية، قد يكون الظن ان ثمة جفوة أو فجوة بين المسلمين وعقيدتهم بالمقارنة مع الدين المسيحي كما كانت الحال في أزمة شعوب أوروبا مع محاكم التفتيش التي أقامتها الكنيسة لهم بعد أن تسلطت عليهم وظلمتهم قبل الثورة الصناعية هناك. ثم واصلنا الحديث مع الأصدقاء بعرض موجز لتاريخ العلمانية مع الأمة العربية حيث أشرنا الى التوجهات الفكرية الثلاثة التي سادت الساحة العربية خلال النصف الثاني من القرن الميلادي الماضي، وهي توجهات قد نجد أن بعض النخب العربية ما زالت تؤمن بها حتى اليوم، وشرحنا بإيجاز ما دار من صراعات بين تلك التوجهات التي عمت العالم العربي وعلا ضجيجها، لكنها في النهاية لم تأت بخير للأمة ولم تحقق تطلعات شعوبها في التطور والنهضة من وجهة نظرنا، وما يثبته الواقع اليوم... ونكمل الحديث. المحصلة من كل ما سبق هي أن التوجهات العلمانية التي سادت الساحة لم تترك أثراً يذكر في العقول والنفوس العربية التي استهدفتها باستثناء بعض النخب، ولم تحقق التوجهات أهدافها كما أراد لها أصحابها لأسباب عدة، نذكر منها: 1 - الأساس الهش الذي قامت عليه، بعد أن وضعت على المحك الديني والالتزام العقائدي للجماهير العربية، وكأنها شجيرات اجتثت من أرضها لتزرع عنوة في أرض غريبة عنها. 2 - غياب الفهم المجتمعي، والادراك الجماهيري لمعاني الكثير من الجمل والشعارات واللافتات التي رفعها أصحابها، إما للغموض الذي أحاط بها أو للسفسطائية التي حوتها. 3 - عدم قدرة بعض النخب العربية "المتأدلجة" على ردم الفجوات الكبيرة التي كانت قائمة بينها وبين تركيبات الشعارات التي رفعتها إبَّان توهجها، ومحتوى خطابها الفكري من جانب، وبين القطاعات العريضة من الناس البسطاء من جانب آخر. 4 - ضبابية الرؤيا عند أصحاب التوجهات من المثقفين "المتأدلجين" وارتباك أولوياتهم، ما عكس شعوراً عاماً عند غالبية الناس بعدم اقتناع الداعي بما يدعو اليه غيره، ففقدت النخب صدقيتها. 5 - عدم تطابق ما دعا اليه أصحاب التوجهات الايديولوجية مع الواقع المعاش للكثير منهم، وتعارضه مع أساليب حياتهم، بل حتى مع بعض أولياتها، ما قاد عامة الناس الى الاعتقاد أن النخب الفكرية لا تطبق على نفسها ما تدعو غيرها الى تطبيقه، ولا تجرب على نفسها ما تدعو الناس الى تجريبه، ففقد الدعاة ثقة غالبية الناس. قادت تلك الأسباب مع غيرها الى ارتباك في مسيرة حياة المجتمعات العربية في حينه، وانحرفت مركبة الحياة عن مسارها الطبيعي الذي ارتضاه الناس وهو نهج الله القويم، وترتب على ذلك هروب أصحاب التوجهات "المأدلجة" الثلاثة الى الأمام، واختيارهم العناد والاصرار طريقاً في فرض ما يدعون اليه كل بأسلوبه الخاص به، وبالطريقة التي ارتضاها، فاتسعت الشقة بينهم وبين الجماهير، ثم ما لبثت الجماهير ان تحولت فما عادت تكترث بهم أو تهتم بدعاويهم، وتدثرت علاقة الجماهير بالنخب المتأدلجة برداء المسايرة، واكتست أسلوب الترقب، ولجأت الجماهير الى الصبر عليها. ثم جاءت نكبة 1967 فكانت اليقظة في الضمائر لاكتشاف فشل تلك التوجهات العلمانية في تحرير فلسطين كما وعدت، وفقد العرب والمسلمون القدس، وباءت كل محاولات النهوض بالمجتمعات العربية بفشل مضاعف حال بطبيعة الحال دون الوصول بها الى حياة فاعلة ومنتجة ومطمئنة، كما التزم أصحاب التوجهات العلمانية ووعدوا الناس بذلك، وانتظرت الجماهير كثيراً، وصبرت طويلاً ولم يأت الانقاذ ولم تتحرر فلسطين ولم تعد القدس، فالتفت الناس - عامة الناس - الى دواخلهم ليكتشفوا فيها عقيدتهم وقد سكنت أفئدتهم فانحازوا الى إسلامهم وتمسكوا بقيمه وسميت تلك الفترة بالصحوة الإسلامية. واحتل الإسلام مكانه الطبيعي من العقول بعد أن سكن الأفئدة، وكان هو الحاضر الدائم في وعي الجماهير والمسيطر على مشاعرها، حتى عندما نجح اليسار واليمين في تغييبه عن مسارات الحياة لفترة، فكانت العودة الى نهج الله القويم بزخم جماهيري واعد ليجد المقاومة والتجبر والاستبداد من الغلاة، فكان الصدام بين كل من التزم في المشروع الإسلامي بصدق وبصيرة، وتحمس له بإيمان وحكمة، وبين أولئك المناوئين له عن جهل والرافضين له عن هوى، وكان ذلك الصدام أمراً طبيعياً. على أن من الإنصاف القول إن الساحة الفكرية العربية لم تخل منذ الاستقلال وخلال مراحل النضال من محاولات اصلاحية تزعّمها مفكرون وقادة اصلاح، من أمثال جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، وغيرهم، هدفت الى تبصير مسيرة الحياة في مجتمعات العرب الى ضرورة الانصياع لنهج الله، ووضع مسيرة الحياة على طريق التطور والنهوض من دون تفريط في ثوابت الدين، وبلا إفراط في الحداثة. كتب القدر لتلك المحاولات الفشل في تحقيق طموحاتها لأمر أراده الله، فلم تنل حظها من النجاح لأسباب مختلفة، لعل من أبرزها غياب القدرة على التنفيذ، إما لابتعاد القادة الحقيقيين للإصلاح من ممارسة السلطة، أو لعجز من كان منهم قريباً منها عن تنفيذ برامجه بفاعلية تذكر، أضف الى هذا غياب الأنموذج القيادي الحضاري الفاعل عن مواقع التأثير في المجتمع، الأمر الذي ساعد على فرض المناهج العلمانية ذات التأثير المعاكس للمبادئ والقيم في النفوس المسلمة على الحياة العامة. والقلة القليلة من تلك المناهج التي تمكنت من التأثير في صورة نسبية لاقت دفاعات قوية واصراراً مستميتاً من دعاة العلمانية الذين احتموا بالسلطة في بلدانهم، وبلغ الصراع ذراه حتى وصل في بعض الأمثلة الى حد التصفية الجسدية لبعض النماذج الحضارية المخالفة للتيار العلماني. لعلنا بهذا القول نجيب عن تساؤل قد يدور في ذهن البعض وهو: ولكن، أين كان التوجه الإسلامي من هذا الخضم وفي أثنائه. الاجابة عن السؤال لا تحتاج الى جهد، فباستثناء قلة من دول العالم العربي تمسكت بنهجها الإسلامي الملتزم، وأسست كياناتها على قواعده كالمملكة العربية السعودية، فإن الملاحظ في حينه ان غالبية القيادات الإسلامية الفاعلة كانت غائبة أو مغيبة خلف القضبان لأنها لم تحسن التعامل مع النظم الحاكمة عندئذ بأساليب الحكمة والرفق، واتباع السياسة الشرعية في تناول القضايا المهمة التي سادت الساحة حينئذ، وقبول الحد الممكن وعدم التمسك بالحدود القصوى من مطالب الإصلاح مهما كانت المبررات، لأن التدرج في تطبيق التشريعات الإسلامية في ظل التاريخ المثقل بالتأثيرات العلمانية والمحاولات الاستعمارية في انحراف الحياة عن نهج الله في دولهم كانت تقتضيه طبيعة الأشياء، وأُخِذ على التوجه الإسلامي استعجاله تطبيق الشريعة في مجالات الحياة. ذاك كان موجزاً لتاريخ العلمانية في الوطن العربي المعاصر، سردناه كما قرأناه وفهمناه، وكان الهدف من السرد الموجز توضيح الرؤيا لمن غابت عن أعينهم، ومن أولئك الأصدقاء الغربيين الناصحين لنا بتبني العلمانية نهجاً لحياة مجتمعاتنا، وكذلك كي تتجمع الصورة أمام القارئ العربي والمسلم لتعينه على متابعة الضغوط الفكرية والإعلامية الأميركية بخاصة، كي يتخلى عن التزامه بعقيدته في تسيير حياته على نهجها، بمطالبتهم له بأن يحبس اسلامه في المسجد ولا يزوره إلا في أوقات الصلاة إن استطاع وإلا فأيام الجمع تكفي، تماماً مثلما حبسوا هم دينهم في الكنيسة. ونحسب أن هذا الايجاز الذي لجأنا اليه لضيق الحيز لن يغني المتابع المهتم بقضايا العلمانية في العالم العربي عن المزيد من القراءة المتأنية والمتوسعة لتاريخها في المجتمعات العربية والمسلمة المعاصرة، للتعرف بإسهاب إلى المحاولات الحثيثة التي بذلها دعاة العلمانية لترسيخ توجهاتهم "الايديولوجية" الثلاثة في صورة حرفية وملاصقة لما هي عليه في ديار الغرب والشرق. وندرك ان في الاطلاع على تاريخ العلمانية في الوطن العربي ولو بإيجاز فائدة مزدوجة: إدراك الكيفية التي كان وما زال عليها الفكر العلماني في عقول بعض النخب، وتفسير بعض جوانب الاثارة التي لجأ اليها بعض المفكرين الغربيين بالحث والتحريض والابتزار - عقب أحداث أيلول - كي يتبع العرب والمسلمون طريقهم في إقامة المجتمع المدني وتطبيق العلمانية، وهو مطلب غربي قديم، ومتجدد مع كل حدث طارئ وأحياناً من دون حدث طارئ. * وزير الحج السعودي سابقاً.