عن دار الشروق في القاهرة صدرت رواية "حكايات الخبيئة" للكاتب الروائي جمال الغيطاني، التي تعد امتداداً لروايته السابقة "حكايات المؤسسة". وفي نظرة على العالم الداخلي للرواية، يبدو انه محكوم بحركتين متوازيتين: الاولى داخل الزمان، إذ تتردد الأحداث بين الماضي والحاضر، والثانية داخل المكان حيث تتردد بين مبنى المؤسسة والخلاء المواجه له. ومن خلال هاتين الحركتين تتحدد معالم الرواية، وتتشكل طبيعة شخصياتها. هنا قراءة في الرواية: اذا كانت "الخبيئة" - موضوع الرواية - تتعلق بالارتباط النفسي بين الماضي والحاضر، فإن الوجود المكاني له دور مؤثر في رسم حركة الشخصيات، بل وفي تحديد ردود أفعالها تجاه العالم. وبداية نرى ان المكان ينقسم الى شطرين: مبنى المؤسسة الذي يضم قوى النخبة، والخلاء الذي قد يحتله الهامشيون في شكل عابر، وبين الشطرين تقبع الفتحة الدائرية ذات التأثير الاسطوري في الهامشيين. وبينما تمثل تلك الفتحة حضوراً مكانياً، فإنها - في الوقت نفسه - تمثل حضوراً زمانياً، حيث يمتزج الماضي والحاضر في اعماقها السحيقة، ليشكلا التجسيد المعنوي للخبيئة. وعلى ذلك، يظل كل من الزمان والمكان في حال تراسل داخل الرواية، وتصبح الشخصيات تجليات متدرجة لتلك العلاقة الثنائية. وبينما تتحكم في عالم الرواية ثنائية الزمان - المكان، فإن ثنائية أخرى شكلت تناول الغيطاني للرواية من الناحية الفنية، وهي ثنائية الرمز - الاسطورة. ففي ما يتعلق بشخصيات مبنى المؤسسة تم استخدام الرمز، أما الهامشيون فتناولهم الكاتب بإضفاء بعض الملامح الاسطورية عليهم. ونحن نرى أن هذه الثنائية الأخيرة لم تكن مجانية، بمعنى أن مستوى الترميز أو مستوى الاسطورة كان جزءاً من رؤية العالم لدى الكاتب، بل ويمثل خلفية لإيديولوجيته، كما سنرى لاحقاً. مستوى الرمز: نظراً لأن الرواية تتحدث عن نوع من الصراع الاجتماعي، حتى وإن بدا ساكناً، فإن من المهم استدعاء مقولة جاك لينهارت التي يرى فيها ان "الطبقة الحاكمة - باعتبارها منظمة للقطاع الثقافي - تفرض نظاماً ايديولوجياً للخطاب الأدبي وتؤسس - بالتالي - كل شرعية أدبية". فما الذي يحدث حين تتحول تلك الطبقة داخل العمل الفني، كما في رواية الغيطاني، لتصبح موضوعاً له؟ إن الامر في هذه الحال يتطلب من الكاتب قدراً من الحيل، التي تبتعد برؤيته عن الواقع بغرض تحقيق هدفين: أولاً لكي يراه أوضح، وثانياً لكي يعيد انتاج تناقضاته في شكل أكثر بروزاً. كانت حيلته الاولى استخدام لعبة الترميز في ما يتعلق بشخصيات مبنى المؤسسة، ليس بهدف "التقية" ولكن لضرورة فنية. فالرمز طبقاً لنظرية الأدب هو موضوع يشير إلى موضوع آخر. لكنّ فيه ما يؤهله لأن يتطلب الانتباه اليه في ذاته، كشيء معروض. أما الغيطاني فاستخدم الرمز في شكل مختلف، كي يعكس الانتباه باتجاه الواقع الذي يشير إليه، أكثر مما يلفت الانتباه الى نفسه. ولتحقيق ذلك استخدم آليات عدة، منها الاشارة الى صاحب الشخصية طبقاً لموطنه الاصلي، من خلال اسم العائلة الذي يرتبط دائماً بمكان ما: الادفوي - السويسي - النمرسي - بحري - المنفلوطي.. فكأن المكان يأتي كشاهد ينوب بحضوره عن غائب، إذ تتحول الشخصيات - في هذه الحال - الى كائنات جغرافية. ويبدأ الترميز من خلال المكان، بالاشارة الى مبنى المؤسسة الذي يجعل حضور الاشخاص في داخله طاغياً، خصوصاً في طابقه الثاني عشر. وفي المقابل فإن كل من لا ينتمي الى هذا الرمز يصبح حضوره داخل الرواية هامشياً، إذ تصبح المؤسسة هي مركز الكون، بل ومبرر الوجود للشخصيات. لذلك فإن هذا المبنى يعج بالصراعات التي يقف منها الهامشيون موقف المتفرج، إذ يتحولون في داخله الى مجرد أدوات للصراع، من دون أن يصبحوا طرفاً فاعلاً فيه. أما من ينجح منهم في دخول المبنى والانتماء اليه، كما في حال الميدومي، فإنه يسعى على الفور للانسلاخ من ماضيه من خلال نزوع وجوده الهامشي، لكي يكون انتماؤه الى المكان الجديد. ولكن تجدر الإشارة الى أن رمز المؤسسة في رواية الغيطاني، يصنع نوعاً من التقابل مع "القصر" في رواية كافكا التي تحمل الاسم نفسه. إنهما يشتركان معاً في الجو الكابوسي والعبثي، خصوصاً في ما يتعلق بشخصية "سيادته" عند الغيطاني او "الجراف" عند كافكا. فالرمز قد لا يكون موجوداً على الاطلاق على رغم أن حضوره طاغ. إن كلتا الروايتين تؤكدان أن الانسان يمكنه أن يصنع نظاماً بسهولة، ولكن يصعب عليه أن يتمكن من تغييره، كأن يصبح النظام - لا البشر - هو العنصر المهيمن في الوجود الانساني كله. واذا كان إفصاح الرمز جزءاً من طبيعته، فإن وضوحه يتصاعد حتى يبلغ ذروته حين يتعلق الامر بشخصيات ثلاث: فيروز بحري - فريح المنفلوطي - الجلاديوس، ربما لأن الثلاثة اصبحوا يتصرفون في الخبيئة وكأنها متاع شخصي. وهنا، نكتشف أن الخبيئة - الى جانب تجليها المادي - لها حضور معنوي، فهي تراث قبل أن تصبح كنزاً. لذلك، يصبح غموض الرمز نوعاً من الخيانة: خيانة الماضي والحاضر معاً. على أننا نرى أن الغيطاني - تحت وطأة المسؤولية التاريخية - أفرط في التلميح، ما مال بالرواية - في بعض المواضع - الى التقرير على حساب الايحاء. أسطرة الواقع يرى فيشر أن النزعة الأسطورية في الأدب الحديث تمثل طريقة واعية للهرب من اتخاذ مواقف حاسمة، إذ تتحول الظروف الى "لا واقع" من خلال فعل الاسطرة. ويتمثل ذلك في حال من الثبات لا تخضع الى الزمن. وهنا، فإن الاسطورة تكون فكرة عامة عن "الكائن الانساني"، يتم فيها تقديم العالم على أنه كون مطلق، غير ملتزم بشيء. ونظراً الى ان هذا التصور صحيح في مجمله، التجأ الغيطاني الى الرمز في بعض المواضع، لكنه لجأ الى "الاسطرة" في مواضع أخرى، حتى يحدث توازناً ما بين التلميح والتصريح. واذا طاول الترميز الكائنات النخبوية داخل المؤسسة، فإن فعل الأسطرة اختص بالكائنات الهامشية وحدها. هذا الفعل خرج بهم عن حيز الزمن، وبالتالي احالهم باتجاه الخلود، حيث إنهم قائمون قبل المؤسسة، وممتدون الى ما بعدها. لذلك، فإن الأسطَرة - في هذه الحال - اذا كانت تمثل ضرورة فنية، فإنها ايضاً تشير الى خلفية ايديولوجية. يبدأ فعل الاسطرة بعم شرف سائق سيادته الذي كان يطلق عليه لقب "حمامة" لأنه لا يستقر في مكان، لكنه حين يرتبط بالمؤسسة يفقد قدرته على التحليق، ثم يتشيأ: "... كده ما انتهى اليه عم شرف، الجميل، قرين الحمام والبهجة والجدعنة، ظل محملقاً، مرفوع الذراعين في وضع ثابت، كأنه يقود عربة غير مرئية". حتى إن من يراه كان يظنه تمثالاً. فالمؤسسة - شأن الميدوزا - تمسخ كل من يتصل بها، وتحيله حجراً، وربما تنبض اعضاؤه، لكنه يظل خارج التاريخ. أما حمدون الصعيدي فإن فِعل الأسطرة يحيله باتجاه آلة الخصب الفرعوني، ينتقل به من كونه لوحة جدارية ليصبح تمثالاً حياً يربض على أرضية الواقع: "ما يقوم منه يماثل طوله، وتد منتصب نافر، الى درجة تجاوز جلبابه". وحين اكتشفته امرأة مصادفة، اصبحت كاهنة له، تستقبل زائراته، وتقوم بطقوسه، حتى اطلق عليها لقبها الكهنوتي: "أم العامود". أما هو "فيظل نائماً في الخلاء، يُعرف موقعه من شخيره، يتمدد على ظهره، عيناه الى السماء، كأن عضوه نابت من الارض، يتأثر ويؤثر بمعزل عنه". وبذلك، فإن المؤسسة تحيل الهامشيين إما الى التكلس كما في حال شرف، او النوم كما في حال حمدون، وكلتا الحالين نوع من التغييب، إذ تصبح مظاهر الحياة مجرد وهم خادع. على أن هناك الكثير من الشخصيات التي يطاولها فعل الأسطرة: عزيز الديرمواسي الذي رأى الملاك ميخائيل في المنام يأمره بالرحيل عن دير مواس وملازمة الدائرة المفتوحة حتى سمع النداء، فيقفز داخلها. وهناك نفيسة العمدة التي كانت تتسلق جدران المؤسسة، معتمدة على الافاريز النحيلة وبروزات المعمار. كما كان هناك البيروني الذي يفقد وعيه كلما ابتعد عن الدائرة المفتوحة، ويسترده كلما اقترب منها. علاوة على رهيف الدندراوي الذي يمثل الذاكرة الجمعية، من خلال محاولته تسجيل تراثه الذي لا يكتمل إلا بمجاورة الدائرة المفتوحة. ثم يتجاوز فعل الأسطرة الهامشيين المصريين، ليشمل العرب بل والافارقة. فالشيخ عبدالعزيز الادريسي ينسخ نسخة من المصحف على حبة قمح!!، فضلاً عن عبده السنغالي الذي كان يعرف بأمر الحفرة الدائرية، والذي كان - بتأثير قوة غامضة - نحوها، وعلى رغم اطلاق الحراس النيران عليه إلا أنه لم يعرف هل مات أم لا؟ لعل ما هو حاسم في الفن ليس نيات المؤلف اذ يتناول العمل، بقدر ما هو الدلالة الموضوعية التي اكتسبها النتاج، في معزل عن رغبة مبدعه، بل واحياناً ضد هذه الرغبة. ربما كان ذلك أهم ما في رواية "حكايات الخبيئة" التي تمكنت من الانفصال عن مؤلفها، لتنتمي - بدرجة اكبر - الى قارئها، ولتكتسب قيمتها الحقيقية ليس من خلال ما تطرحه، ولكن من كيفية الطرح ذاته، الذي أثراه الترميز والاسطرة. وهذا هو سحر الفن: أن يوحي أكثر من أن يصرح.