رواية جمال الغيطاني الجديدة "حكاية الخبيئة" تفتح حواراً خاصاً مع نجيب محفوظ والمقريزي معاً. هنا قراءة: التقت الرواية العربية، بعد هزيمة حزيران يونيو 1967، بسلطة سياسية تهزم ذاتها، واتخذت منها مرآة تتأمل فيها التاريخ القريب والبعيد. وبعد أكثر من عقود ثلاثة، ظلت المرآة في مكانها، وبقيت الرواية تسائل موضوعاً عصياً على التغيير، دعاه الراحل هاني الراهب، ذات مرة، ب"الوباء". على ضفة أخرى، وقبل الهزيمة بعقود ثلاثة تقريباً، كان نجيب محفوظ، الرائي الذي لا تخذله البصيرة، قد عيّن السلطة موضوعاً روائياً بامتياز، منذ ان أبصر فيها شراً أصلياً، يلوث الطبائع البشرية البريئة، ويوطد شرور الأرواح المهيأة للفساد. بدأ ب"عبث الأقدار"، إذ الأقدار العابثة تمحو سلطة لا ينقصها العبث، وأعاد القول في "رادوبيس"، حيث نزوات الحاكم تفضي به الى الخراب. ومع أن الروائي لاذ بصمت ما هو بالصمت، بعد زوال الحكم الملكي، فقد عاد لاحقاً الى موضوعه الأثير، يهجو شراً ينسحب يوماً ويعود دهراً. العائش في الحقيقة بعيداً من بنية روائية لازمته طويلاً، على مقربة من حداثة متشائمة قال بها توماس مان ود ه لورانس وكافكا، ساءل محفوظ العدالة المستحيلة في "أولاد حارتنا"، مواجهاً حاضره السلطوي بزمن اسطوري، تذوب فيه الأزمنة جميعاً. وبعد أن استقر في تشاؤم مكين جابه السلطة في "اللص والكلاب" بتمرد ميتافيزيقي يحتفي بالموت الطليق، قبل ان يرى قاربها الخرب يميل الى الغرق في "ثرثرة فوق النيل". وكان عليه، بعد أربعين عاماً، أن يلقي على "العائش في الحقيقة" تحية أخيرة، محدثاً عن عدل مأسوي، لا يعرف النصر ولا يقبل بالهزيمة. وإذا كان اللايقين قد صاغ بداية "الثلاثية" الشهيرة ونهايتها. فإن يقين التشاؤم سكن محفوظ في "أولاد حارتنا"، فالسلطات القديمة أخطأت العدل، وما تلاها أعاد الخطأ وكاثره. ولعله لم يشأ ان يستقر في يأسه الصريح، فأعاد كتابة الرواية في "الحرافيش"، مستقدماً الأمل من "زمن يوتوبي"، تنكره الأرض وتحتاجه الأرواح. ولهذا أنهى الرواية بأناشيد مطمئنة، بعيداً من الخلاء الموحش الذي ختم "أولاد حارتنا". بعد 1967 استأنف جمال الغيطاني، الذي بدأ الكتابة الروائية بعد هزيمة حزيران 1967، هواجس محفوظ، فساوى بين السلطة المستبدة وهزيمة المستبدّ بهم. وبين سلطة الهزيمة والوباء. وما روايته "الزيني بركات"، التي تحيل على أزمنة قديمة وحديثة في آن، إلا تعبير عن هاجس ثقيل تلبّس الروائي الشاب، وزامله في أطوار عمره اللاحقة. وإذا كان محفوظ رجم السلطة مطمئناً الى وعي ليبرالي قديم، يحتفي بجمالية التعدد وفضائل الاختلاف، فإن الغيطاني، المنتمي الى جيل آخر، رأى وجوه السلطة بوعي مختلف. كان في "الزيني" ما يرثي أحلاماً ذاتية - جماعية، وما يلوم سلطة خذلت من آمن بها، وما يفصح عن احساس وجيع بهزيمة غير متوقعة. قرأ محفوظ السلطة بمعايير الحرية والعدل وتساوي البشر، وانتظر هزيمة كان ينتظرها، وقاربها الغيطاني بمقولة مؤسية متوالدة: "الهزيمة الوطنية". لا غرابة ان تتصادى الهزيمة في "وقائع حارة الزعفراني" و"التجليات" و"رسالة البصائر في المصائر". في روايته ما قبل الأخيرة "حكاية المؤسسة"، حقق الغيطاني حلماً راود محفوظ ولم يحققه، وان كان السياق المقلوب قد صرف "الموضوع" واستبقى "الفكرة الفنية". فأشار محفوظ، في حوار مع الغيطاني ورجاء النقاش، الى فكرة راودته، قديماً، بكتابة رواية ثورة 1919، تكون فيها الثورة شخصية وحيدة مسيطرة. أخذ الغيطاني، بعد عقود، بالفكرة القديمة، وجعل من المؤسسة المتسلطة في "حكاية المؤسسة" بطلاً روائياً شاسعاً، قوامه السلطة والفساد. والبطل الشاسع الأطراف يتكوّن من "خلايا بشرية"، شخصيات لها سيرها وفيها سيرة "المؤسسة" من دون أن تكون سيرة الأخيرة مساوية لسير من صنعها. ذلك ان السيرة المؤسسية هي سيرة البشر المقلوبة، التي تحوّلها المؤسسة وتبدلها وتقرر مصائرها، كما لو كانت خلقاً عجيباً، صدر عن جهد البشر واستوى مستقلاً، يطحن من يعارضه وينعم على من أطاع وامتثل وصمت. تتعين "المؤسسة" وحشاً هائلاً، تكدّره الفضيلة وتسعده الرذيلة والفساد. عودة الزيني بركات في روايته الجديدة "حكاية الخبيئة"، يستأنف الغيطاني ما بدأه في حكاية "المؤسسة"، متأملاً في روايتين متكاملتين معنى السلطة ومصائرها، التي تولد شابة في وعودها وتقوّضها، لاحقاً، فتنة الامتياز وتسقط في البوار. يأخذ الروائي بمجاز "البناء" المؤلف من اثني عشر طابقاً، حيث كل طابق مرتبة، وكل مرتبة سلطة، وكل سلطة مصلحة، وأعلى المراتب السلطوية ظلماً ما احتجب عن العين وصاغته الظنون، أي "الطابق الثاني عشر"، الذي يأتي من صفوف البشر ثم يلتهمهم. كأن الغيطاني استقدم مستبده القديم "الزيني" ووضعه في زمن العولمة والانترنت والثورة المعلوماتية، ليبدو أكثر نعومة وأناقة وأكثر وحشية وانحطاطاً في آن. ينفذ الغيطاني في "حكاية الخبيئة" الى جوهر السلطة، التي ينتظرها الفساد، والى قرار السلطة الفاسدة، متوسلاً المتخيل والواقعي والحدس والمعرفة والمعيش اليومي ومجاز "الزلزلة"، مجسداً التدهور الأصلي، وذلك في شرط عجائبي قوامه سلطة مترفة ورعية مبددة ومتسلط متغطرس في وطن مهان. بلغ الغيطاني قرار سؤاله، وهو يقصده من جهات مختلفة، يحاور فيها الروائي مؤرخاً مفرد الصوت، يقص ويعلق ويسخر، ويرفد فيها المؤرخ روائياً. يبني الشخصيات وينطق باسمها ويعبث بأناقتها الكاذبة. وإذا كان المؤرخ يقتفي وقائع "المؤسسة" في زمن خطي متتابع، فإن الروائي يلف الوقائع بسخرية لاذعة، كما لو كانت السخرية السوداء هي التعليق الوحيد على سلطة بائرة. لقد سخر محفوظ من السلطة في "أولاد حارتنا" معتمداً مبدأ التكرار، فما يبدو جديداً ساعة وصوله يتكشف قديماً في ساعة لاحقة، واستولد الغيطاني السخرية في "حكايات الخبيئة" من مفارقة متوالدة، تنصّّب "الصغير" عظيماً و"الماسخ" مسؤولاً و"المرذول" مرجعاً لمن لم يفقدوا فضائلهم. "في كل ما كتبته تجد السياسة والمرأة"، يقول محفوظ، والغيطاني، الذي حاور محفوظ واستولد منه سيرة ذاتية جميلة، يتابع قول الروائي العجوز في زمن "الألفية الثالثة"، إذ المرأة "مستوردة"، والسياسة حكر خالص ل"طابق" لا يراه أحد. قادت الأزمنة المختلفة الروائي الى تجريب روائي غير مسبوق، يسجل أحوال الأزمنة المتدهورة، ويستلهم محفوظ والمقريزي في آن.