لحسن الحظ لم يسألني عن آخر مرة قذفت فيها الصنارة الى الماء، ولا عن المكان، لذلك وقّع على رخصة الصيد، وسلّمها لي متمنياً التوفيق. لم أكذب يوماً، وبالأحرى لم أكذب إلا نادراً، وهذه ال"نادراً" لم تحدث على وجه اليقين، فكانت السبل تنحني امام جهودي كلما عزمتُ على مسعى ما. بعد ان وضعت التضاريس المدهشة لخريطتي الجديدة، كان عليّ ان أُشغل جلسات الأصدقاء والمعارف بالأسئلة عن الأنهار والبحيرات العذبة في الجزيرة البريطانية، لمعرفة الضفاف التي تناسب طُعمي. ثم انقلبتُ على المجلات المختصة والكتب للاطلاع على المواسم الوافرة، ونسب الأعماق، ومتانة الخيوط اللازمة. من بين ملايين الناس الذين يتحركون في مراكز المدن، وعلى أطرافها، مثل الديدان المحبوسة داخل الزجاج، لا يوجد الا القليل ممن يعرفون متعة الوقوف امام المياه الساكنة، او الهائجة، بانتظار رعشة الخيط الأولى، الناعمة، التي تنقل من اطراف الأصابع الى القلب رغبة التحدي الصاعدة من الأعماق، بين الصياد والسمكة! إن سحر المناوشة في الصيد تتطلّب صبراً ومجالدة لا يتوافران إلا لدى الرجال الحقيقيين. ولأسطح المياه رهبة تفوق رهبة البراري، في ما يتعلق بخطر التيقظ! إحدى المرّات وقفت خلف عجوز انكليزي امتحنُ صبره على الانتظار. بعد فترة وجدتُ انه لا ينعش خيطه بجذبات متناوبة، ولا يرفع صنارته للتأكد من بقاء الطعم في مكانه، فسألت: "هل تثير الحركة حفيظة السمك في هذه البقعة؟". فأدار رأسه بوصتين ليعرف السائل، ثم اجاب: "ألا ترى انها بركة صغيرة من الماء الراكد!". قلت: "ماذا تتصيّد اذاً في بركة راكدة؟". قال: "الفضوليين من المارة". لم تعد في هذه الجزيرة أغوار تناسب الحبال الشديدة، ويتزاحم الصيادون على برك وأنهر ضحلة، يبكّرون لحجز موطئ قدم عليها، وهم في الغالب يعلّقون حشرات بلاستيكية في صناراتهم، تعلّم السمك تحاشيها حتى في ساعات جوعه، بينما كنت افكر بالديدان الأرضية، والدقيق المعجون بفتات السردين، وأبحث عن وجبات اكثر شهية، لأن لعبتي مع المياه تقتصر على الأحجام الكبيرة، فقد علمتني الحياة ان لا أضيّع الوقت من اجل الحلول الوسط، وعندما خيرتني زوجتي يوماً بين رعاية الأولاد لتبحث هي عن عمل، أو تلزم معهم البيت وأعود أنا الى الوظيفة، اخترتُ الطلاق. يقول سكان ويلز: "من يترك الفراش متأخراً، يفوته الصيد" وأنا أذهب ابعد مما يعتقده الويلزيون في انكلترا، لأنني افضل النوم على الضفاف، لأصحوا قبل ان ينهض السلمون البري من فراشه، وأُلاحق التونة، المعروفة بسرعتها، وهي في اول النعاس. لم يكن هدفي من الصيد دفن خياشيمي في المياه للتخلص من فقاعات الملل والرتابة، كما يفعل كثر، ولا الاستمتاع باللحوم البيضاء تُشوى وتؤكل على مقربة من الشواطئ التي تعكس خضرتها على الأمواج، لكن التقصي عن فحوى النظرة التي تجمع الصياد بطريدته يحرّك المياه في قيعاني. لقد تعلمتُ، قبل غيري، اسلحة السمك في الدفاع عن النفس، وسخرت من المعتمدين على قلة ذكائه، لأن أعماق الأنهر، وأمواج البحار، تخفي عن الأنظار الحسيرة الاعيب وفنوناً ماهرة في الحرب من اجل البقاء، وتعرف، دون غيرها، ضروب المفاجآت التي يقابل بها سكان المياه اعداءهم، من أشواك سامة، وأنوف رمحيّة، وأنياب قاطعة، أو صعقات كهربائية، وأشكال حربائية، الى التهام خاطف، تتبعه أغبره كثيفة للانسحاب، ولن نظلم اياً منهما، إذا قلنا: للسمك، مثل البشر، سموم خانقة، وحارقة، وقاتلة، ومعذّبة فحسب! لهذا الصيف، وضعتُ أنهراً جديدة في رأسي، تبدأ من عنق الجزيرة البريطانية العجوز، وتصعد الى سواحل وخلجان اسكتلندا. هناك يمكنك التزود بمهارات حديثة في الصيد، لأن الاسكتلنديين، اضافة الى حبهم للمعاشرة، هم تاريخياً شعب برمائي. أقول لكل محبّي هواية الصيد الشاقة: لا تلزموا مكاناً واحداً بانتظار الحظ، بل اذهبوا الى الشلالات ومنابع المياه، حيث العذوبة تغري السمك في استعراض قوامه الرشيق، وألوانه الأخاذة. لم يبق من جرف طيني، او صخري، في جبال وهضاب المملكة، او على شواطئها البحرية، لم أسبر غوره، فاكتشفت ان عوالم المياه لا تختلف كثيراً عن عوالم اليابسة، في الخلق كما في الطباع. هناك، ايضاً، يمشي القنفذ المائي ببطء والحصان في وثبات سريعة، وينطّ الجراد، وتتدلى شوارب البوري الى الأسفل لإظهار الثقة، ويتلوى الحنكليس عندما يواجه الموت، وتبتلع الحيتان آلاف الأسماك الصغيرة لتملأ معدتها، ويدور الشبوط لفترة حول الوجبة المعلّقة قبل ان يلتهمها، ولا يُقبل السلمون إلاّ على الطعم الدسم ليأخذه، بينما يتهافت الجرّي على اي غذاء يقع عليه نظره. لهذا، لن ترقى الى مرتبة الصيادين الكبار، ما لم تلمّ بعادات طريدتك! قبل يومين جرفتني تيارات الحنين الى مراتع الصبا، فتذكرتُ الصباحات التي نقتعد فيها الحجر، نرمي الشصّ بلقمة من العجين، جافة وبقدر حبة العدس، فتتصارع عليه الأسماك الصغيرة، هب! وتصعد واحدة ترفس وتلبط في الفضاء. الجوع ايضاً، طُعم شهي يغذّي السذاجة. امس تقدمتُ من ثلاثة شبان انكليز يشهرون صناراتهم بوجه الماء، وأنا أعرف الجيل الجديد، يقحم زعانفه في كل امر. سألتُ: "هل تقضون وقتاً ممتعاً في الصيد؟". اجاب احدهم: "نعم!". قلت: "لكنني ارى سلالكم فارغة! اي طُعم تستعملون؟". ردّ الشاب نفسه: "الفراشات!" "هذا هو السبب اذاً!" قلت، ثم اضفتُ، لأنهم عادوا الى التحديق في المويجات الصغيرة: "لو كنت مكانكم لاخترت الديدان الأرضية، لأن اسماك التورتة التي تجوب الأنهار الضيقة تصرعها رائحة الديدان". قال الثاني بتحد: "هل تراهن؟". قلت: "خمس جنيهات، في مقابل كل تورتة تعلّق في شصّي!" سأل ضاحكاً: "أين صنارتك؟" وتبعه رفاقه في الضحك. فوجئت بالسؤال، بعدها تمالكت نفسي لأشير الى سيارتي الواقفة على مبعدة، وأخبرتهم، لألوي عنق غرورهم، ان ثلاث صنارات بأحجام مختلفة موجودة فيها. قال احدهم: "وهل جئت لتصطاد بلسانك؟". صفعني هذا الكلام، وحين عدت الى البيت اشتكيت لزوجتي، الثانية، عن وقاحة المراهقين الإنكليز. قالت في برود غريب: "لأنك لا تسمع الكلام! قلت لك عدة مرات يجب ان تملك صنارة قبل كل شيء!". * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.