ربما لم يتوقع مهندس المجازر ان تواتيه الرياح الى هذه الدرجة. حين تولى رئاسة الوزراء ارتفعت اصوات تقول ان اسرائيل ارتكبت خطأ فادحاً. ذات يوم بخلوا عليه برئاسة الاركان لأن سلوكه في المعارك اتسم بالتهور وتخطي الاوامر. وحين سلّمه مناحيم بيغن حقيبة الدفاع اطلق حرب اجتياح لبنان فانتهت بكارثة. لكن شارون كمن وعاد. وحين تولى رئاسة الحكومة قال خصومه ان اقامته في منصبه لن تطول. وتوقع ياسر عرفات ان تبحث اسرائيل عن رئيس آخر للوزراء بعد مئة يوم، لان شارون سيفشل في تحقيق وعوده الانتخابية خصوصاً لجهة اعادة الامن. كم يبدو المشهد مختلفاً اليوم. رئيس السلطة الفلسطينية مُحاصَر في خرائب المقاطعة في رام الله. والحصار مزدوج. الاول فرضه شارون وكان يمكن لعرفات النجاة منه. والثاني فرضه جورج بوش وهو ما يجعل الفكاك من الحصارين متعذّر او باهظ على الاقل. وفي المشهد ما هو أشد إيلاماً. صحيح ان دول العالم تدعو اسرائيل الى سحب قواتها من مناطق السلطة لكن الصحيح ايضاً هو ان الاولوية اعطيت عملياً، لدى الدول الكبرى، لاصلاح السلطة الفلسطينية. صار ياسر عرفات متهماً بممالأة الارهاب او على الاقل بالتردد في قمعه. كان يمكن ل11 ايلول سبتمبر ان يكون يوماً مكلفاً لاسرائيل. كأن تقرر الادارة الاميركية ان محاربة الارهاب تمر بإنهاء النزاع العربي الاسرائيلي وان تطالب الدولة العبرية باتخاذ "قرارات مؤلمة". لكن نجاح شارون في استدراج المنظمات الفلسطينية من الانتفاضة الى الحرب الشاملة والمتكئة خصوصاً على الهجمات الاستشهادية داخل اراضي 1948 بدّل الصورة تماماً. واليوم يقدم شارون احتلاله الجديد كعامل ضغط مساعد لتحقيق الهدف الاميركي وهو اصلاح السلطة وإزاحة قيادتها الحالية. وبديهي ان يشعر شارون بالارتياح حين يحدّق في مؤتمر حزب العمل ومداولاته. لقد اخذ حزب رابين معه في حكومة "الوحدة الوطنية" وفي مرحلة الحرب التي انتهت بتحطيم اتفاق اوسلو الذي يحمل توقيع رابين وحزبه. ووظّف شارون الى أقصى حد رفض عرفات "سخاء" ايهود باراك تحت رعاية كلينتون. بدا الضياع مخيماً تماماً على مؤتمر حزب العمل. يشارك في الحكومة ويغطي سياسات شارون ويخشى الخروج منها لان "البلد في حرب". انها مأساة فعلاً ان ينجح مهندس المجازر في تحقيق جملة اهداف: تدمير اوسلو والسلطة والانتفاضة ودفع الولاياتالمتحدة الى محاصرة الرئيس الفلسطيني وابقاء حزب العمل شريكاً ضعيفاً في الائتلاف الحكومي يعجز عن لجم سياسات رئيس الوزراء ويعجز في الوقت نفسه عن مغادرة المقاعد الحكومية. وهي في النهاية نجاحات لا تقود الاّ الى تمديد المأساة ودفع المنطقة الى ما هو أدهى.