عقب اعلان نتائج الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، سأل المعلّق الصحافي يوسي هاليفي رئيس الوزراء ارييل شارون عن الوسائل التي يلجأ اليها قبل تكوين صيغة القرار النهائي؟ اجابه شارون 73 عاماً بلهجة الواثق قائلاً: "انا شخصياً لا احب اتخاذ القرارات المرتجلة تحت وطأة العمل اليومي المرهق. لذلك أتعمد ارجاء عملية صوغ القرار الى المساء بحيث يتسنى لي مراجعة الخيارات وانا متوجه بالسيارة نحو مزرعتي. وبعد زيارة قصيرة للحظيرة التي تضم انواعاً مختلفة من الثيران والماعز والغنم، أدخل غرفتي لأستريح. مرة ثانية، اي في الصباح الباكر، أعود الى الحظيرة، ثم أخرج منها وفي ذهني القرار السياسي او العسكري الذي أرغب في عرضه على الحكومة!". أراد شارون من وراء رسم هذه الصورة الكاريكاتورية المعبّرة الاعتراف بأنه لا يسترشد بآراء مستشاريه كما يفعل سائر القادة وانما يجد الراحة النفسية داخل حظيرة الحيوانات اثناء مشاهدة قرون الثيران وتيوس الماعز. هذه الخلفية المنفّرة ألقت بظلالها على سلوك شارون بحيث استحق لقب "الثور الهائج" و"الجرافة"، كما استحق وصف نبيل شعث لتحركاته المدمّرة وقوله: "انه بغل في دكان يحتوي على أوان خزفية وزجاجية". يقول أوزي بنزيمان، مؤلف كتاب "شارون، قيصر اسرائيل"، ان بطل عملية "الدفرسوار" في حرب 1973 يشعر دائماً بحسد رؤسائه، وبأنهم تعمدوا تجريده من كل انجازات الظفر. وهو يدعي ان موشى دايان وحاييم بارليف وديفيد اليعازر تآمروا لمنع وصوله الى منصب رئاسة الاركان. كما يزعم ايضاً ان مناحيم بيغن تخلى عنه بعد "مجزرة صبرا وشاتيلا"، فسمح بإقالته من وزارة الدفاع. ويبدو ان الاحساس بالاضطهاد قوّى في ذهنه هاجس الحصار الدائم بحيث انقلب الى عقدة نفسية يصعب التخلص منها. ويعزو اصدقاؤه الدوافع العميقة لتنامي هذا المرض النفسي الى جذور عائلية اكتسبها عن والديه اللذين عاشا في كيوبتز "كفر ملال" كشخصين معزولين. ذلك ان والده صموئيل، المهندس الزراعي، ووالدته فيرا، الطبيبة الهاربة من الثورة البلشفية، ربّياه على حبّ الوحدة والاستمتاع بالوحشة. والسبب انهما كان ينظران الى الجيران نظرة استعلاء ومكابرة لأنهم في نظرهما ادنى مستوى وأقل ثقافة. وكان من الطبيعي ان ينعكس سلوك الأهل على نظرة الطفل الممنوع من الاختلاط او معاشرة الآخرين، خصوصاً وانه كان يرى والده على خصام متواصل مع مهاجرين يختلف معهم على كل شيء: على تفسير العقيدة الاشتراكية، وعلى زراعة المانغا والافوكاتو متبجحاً انه اول من نقل ثمارها الى اسرائيل. وبلغ من شدّة احتقاره لسكان القرية، ان منع صموئيل في وصيته حضور اي من الجيران جنازته. كذلك حرصت زوجته فيرا على نقل مدفن صموئيل بعيداً عن المقبرة الجماعية، لإيمانها بأن عظامه ستتحرك سخطاً اذا جاورت عظام جيرانه. وعندما سئل ارييل ما اذا كان يتذكّر احد رفاقه من الطلاب، اجاب بالنفي لأن والديه زنّرا المنزل بسياج مقفل لمنع الاختلاط والمعاشرة. وقال انه حفظ عن ظهر قلب نصيحتهما المختصرة بأن "الحياة هي سلسلة حصارات متتابعة، منها الحصار الخارجي بواسطة الاعداء العرب... ومنها الحصار الداخلي بواسطة المنافسين السياسيين". وهكذا تكوّنت لدى ارييل شارون قناعات ثابتة مفادها ان العرب يمثلون العداء الدائم لاسرائيل، وان رؤساءه يتدخلون لمنعه من تحقيق طموحاته. ولقد لعبت زوجته "ليلي" التي توفيت العام الماضي دوراً كبيراً في لجم شراسته، خصوصاً بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، واظهاره في الرسوم الكاريكاتورية على شكل سفّاح يقطر الدم من اصابعه. واستمرت ليلي في ردعه وتأنبيه مطالبة اياه بضرورة تخفيف شنّ المعارك السياسية ضد حلفائه وخصومه. ولكي يبرر شمعون بيريز انضمامه الى الحكومة الائتلافية الاخيرة، ادّعى ان شارون تجاوب مع دعوة التحوّل، وخلع عنه جلد الذئب ليرتدي ثوب الحمل. لم تدم عملية التعمية والخداع اكثر من شهر واحد باشر رئيس وزراء اسرائيل من بعدها، في خلع جلده المموّه والظهور بمظهره الحقيقي. واتهم ياسر عرفات بالتخطيط لافتعال صدام دموي ينتهي بتدخل دولي، وقال في مؤتمر صحافي انه لن يسمح للانتفاضة بجني مكاسب سياسية. وعليه قرر ان يكون امن الاسرائيليين امانة في يده وليس منّة من عرفات، كما يوصي اتفاق اوسلو. وأتبع هذا التعهد باقتحام مناطق تابعة للسلطة الفلسطينية، ومن ثم تدمير جهاز الرادار السوري في لبنان. وحملت هذه المؤشرات العسكرية نذر نزاع متجدد، محدثة تغييرات ديموغرافية عميقة في سياق الخطوات المطلوبة لاسترجاع الطابع الصهيوني العرقي للدولة العبرية. وقال شارون في خطابه الاخير ان انهيار الاتحاد السوفياتي ساعد على وصول مليون مهاجر، وانه في صدد مواجهة خطر وجودي يمنع زيادة عدد فلسطينيي 1948 داخل الدولة اليهودية. لذلك قرر الرفض المطلق لمطلب حق العودة، واتخاذ وسائل عملية لتنشيط هجرة جديدة من بلدان اميركا الجنوبية واوروبا. وأتبع هذه الدعوة بإرسال وفود الى الارجنتين والبرازيل والمكسيك وفنزويلا وأوكرانيا وجنوب افريقيا بهدف حض اليهود على الهجرة الى اسرائيل. ولكن التقرير الاخير الصادر عن "الوكالة اليهودية" يشير الى انخفاض ملحوظ في عدد القادمين الى اسرائيل، في حين تزداد امام القنصلية الاميركية اعداد المطالبين بالهجرة الى الولاياتالمتحدة. والسبب ان مغامرة شارون ضاعفت من هواجس الخوف والقلق لدى السكان الذين يعانون من فقدان الامن وارتفاع موجة العنف. ويؤكد المراقبون الديبلوماسيون في تل ابيب ان شارون يجير للقادة العسكريين مختلف القرارات السياسية المهمة كأنه يدفع بالجيش الى السيطرة على مقاليد الامور. وترى صحيفة "يديعوت احرونوت" ان عودة المؤسسة العسكرية للعب دور مركزي تعكس عمق التحوّل الذي يخطط له رئيس الوزراء. وتشير الصحيفة ايضاً الى المخاطر المتوقعة خلال هذه السنة، والى الاستعدادات الحربية الطويلة في حال اتسعت جبهة المواجهة على الصعيد الاقليمي. ويبدو ان الرأي العام الاسرائيلي بدأ يتخوف من تصعيد عمليات العنف التي رحّب بها وزير البنى التحتية افيغدور ليبرمان، لانه يعتبرها القرينة المقنعة لإعلان وفاة جهود السلام بعد دخول الانتفاضة شهرها الثامن. ولقد تسلّم ليبرمان الشهر الماضي قرار الحكومة انشاء ثلاث مدن جديدة في منطقة "حلوتسا" في النقب المحاذية لقطاع غزة. ومثل هذا الاجراء الخطير ينبئ عن نيّة مبيّتة لإحباط فكرة تبادل اراض في هذه المنطقة مع السلطة الفلسطينية، كما اقترحت الحكومة السابقة. وكان باراك اثناء المفاوضات، وعد ياسر عرفات بتسليم خمسة في المئة من اراضي حلوتسا مقابل موافقته على ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية الى السيادة الاسرائيلية. والثابت ان امن المسوطنات يستأثر بأهمية قصوى لدى حكومة شارون التي نالت غالبية اصوات المستوطنين في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان. ولكي يدلل رئيس الوزراء على هذه الاهمية عقد الاسبوع الماضي اجتماعاً طارئاً للحكومة الامنية المصغّرة في مستوطنة "عفرا" داخل الضفة الغربية. وكان الاجتماع بمثابة دعم معنوي للاسرائيليين المستنفرين لمعاونة الجيش في عمليات الحماية. كما كان المنبر الذي أطلّ منه شارون على شاشات التلفزيون ليعلن بقاء وادي الاردن في ايدي اسرائيل الى الأبد، زاعماً ان هذه المنطقة تشكّل العازل الامني الحيوي الذي يفصل الضفة الغربية عن الاردن. وسيؤدي تنفيذ هذا المشروع الى اقتطاع شريحة من الارض بعرض عشرين كلم وطول 150 كلم ممتدة من بحيرة طبريا حتى البحر الميت. كما يؤدي من جهة اخرى الى محاصرة الدولة الفلسطينية المقطّعة الاوصال، وحرمان سكانها من الاتصال المباشر مع الاردن بواسطة جسر اللنبي. الوزير السابق يوسي بيلين انتقد شمعون بيريز بشدة لانه تخلى عن مواقفه السابقة، وارتضى ان يكون الواجهة السياسية الخارجية لشارون. وفي رأيه ان هذا السلوك يؤسس لنشر اجواء التشكيك وعدم الثقة حتى لدى الدولتين العربيتين الموقّعتين على اتفاقيات سلام مع اسرائيل: مصر والاردن. وكان بيلين بهذه الملاحظة يشير الى تغيّب سفير بلاده ديفيد عفري عن المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس مبارك في واشنطن 4 نيسان/ ابريل الماضي، وذلك بناء على رغبة رئيسه بيريز. علماً بأن المبادرة المصرية الاردنية لا تتحدث عن مفاوضات جديدة، وانما هي مجرد اداة سياسية للخروج من الأزمة الحالية. لكن شارون رفضها لأنها حسب رأيه تطالبه بوقف الحصار من دون ان تضع مسؤولية العنف على عاتق ياسر عرفات. وربما يكون هذا هو الشرط الخفي لقبول تخفيف الحصار، اي ازاحة الشريك الاساسي في مفاوضات اوسلو على اعتبار ان مشروع السلام قد مات. المراسلون العسكريون في اسرائيل يتحدثون دائماً عن استعدادات الجيش لمواجهة عسكرية طويلة الأمد قد تستمر ثلاث سنوات. وكتب بعضهم نقلاً عن مصادر رئاسة الاركان، ان القيادة أعدّت خطة متكاملة أطلقت عليها اسماً طريفاً هو "عملية برونز"، وهي خطة متعددة الاهداف ترمي اولاً الى تدمير البنية التحتية التي انشأتها السلطة الفلسطينية كأساس حيوي للدولة المزمع انشاؤها. كما تهدف في المرحلة الثانية الى تحقيق انسحاب اسرائيلي بعد مصادرة الاراضي التي يعتبرها شارون ضرورية لسلامة الامن القومي. وتضم هذه الاراضي ستين في المئة من مساحة الضفة الغربية، اضافة الى التلال ذات الطبقة المائية التي تؤمن ما نسبته ثلث كمية مياه الشفة. ويقول المراسلون ان "عملية برونز" بدأت تُمارس فعلياً منذ منتصف آذار مارس الماضي، اي عندما حاصر الجيش الاسرائيلي مدينة رام الله التي يعتبرها عرفات العاصمة الادارية لفلسطين. ويتوقع وزير الدفاع بنيامين بن اليعيزر نشوء منطقة عازلة بين رام الله والمستوطنات تكون المسرح لصدامات متواصلة تجبر المواطنين الفلسطينيين على النزوح عن قراهم القريبة. وربما يؤدي هذا الوضع المتقيّح الى ارتفاع حدّة النزاع، والى اتساع رقعة القتال والعنف بطريقة تحول دون حماية المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية. ويبدو ان حرص ياسر عرفات على نشر قوة مراقبين دوليين في الاراضي المحتلة كان مبنياً على مثل هذه التوقعات المخيفة، أي اعادة مسرحية مجازر 1948 بحيث يهيئ شارون الارضية الاعلامية الصالحة لتحقيق مشروعه القديم "الاردن هو فلسطين"، علماً بأنه اعرب عن ندمه منذ سنة، وكتب في صحيفة "جيروزاليم بوست" مقالاً يعترف فيه بأن اسرائيل اخطأت عام 1970 لأنها منعت الفلسطينيين من الاستيلاء على السلطة في الاردن. وسألت "الحياة" احمد جبريل امين عام الجبهة الشعبية القيادة العامة عن احتمال استخدام شارون سفينة الاسلحة حجّة للتصعيد ضد سورية، فأجاب: "ليست لسورية علاقة بالشحنة. ولكن مناحيم بيغن وشارون استخدما محاولة اغتيال السفير في لندن أرغوف لتبرير اجتياح 1982 واحتلال بيروت". في اي حال، لقد اعتمد شارون استراتيجية النزاع الدائم مع الدول العربية لأن المجتمع الاسرائيلي الفسيفسائي في رأيه، لا ينتظم ويقوى الا في ظل الشعور بالحصار والخطر. وهو حالياً يجمع الذرائع المضلّلة مثل "سفينة الاسلحة" وتصريح الرئيس بشّار الاسد الذي يساوي بين الصهيونية والنازية، لكي يستخدمها ذريعة لرفض مشروع السلام واختلاق المبررات للقيام بعملية عسكرية جديدة. * كاتب وصحافي لبناني.