يُعتبر أورهان باموك اليوم نجم الرواية التركية. هذا كاتبٌ يجمع ثقافة شرقية ابن عربي، جلال الدين الرومي، ألف ليلة وليلة الى أخرى غربية بورخيس، دانتي، ريلكه، كالبوسفور الذي يقسم اسطنبول الى قسمين: آسيوي وأوروبي. اكتشفه الغرب مترجماً الى الانكليزية عام 1990، مع رواية "القلعة البيضاء" الصادرة في تركيا عام 1985. الترجمة الفرنسية تأخر ظهورها عن دار غاليمار الى 1996. بعد "القلعة البيضاء" يكتب أربع روايات: "الكتاب الأسود" 1990، تُرجمت الى الانكليزية عام 1994 والى الفرنسية عام 1995. "الحياة الجديدة" 1994، تُرجمت الى الانكليزية عام 1997 والى الفرنسية عام 1999. "اسمي أحمر" 1998، تُرجمت أخيراً الى الانكليزية والفرنسية، اضافة الى لغات أخرى بينها العربية دار المدى، 2000. أما روايته "ثلج" الصادرة في اسطنبول مطلع هذا العام فلم تغادر دائرة اللغة التركية بعد. الكاتب الكردي المقيم في النروج نزار آغري قرأها في التركية وكتب عنها هنا - انظرْ الإطار في الأسفل. "اسمي أحمر" في ترجمتها العربية لا تقدم المدخل الأفضل الى عالم هذا الكاتب. هناك أكثر من سبب. أولاً الترجمة المذكورة ضعيفة. ثانياً الرواية ذاتها لا ترقى الى مستوى أعمال باموك السابقة. وقد يكون المدخل الأفضل الى عالم باموك الروائي الفصل الثاني من "الكتاب الأسود": "يوم يجف البوسفور". يُمثل البوسفور محوراً رئيساً في مخيلة أورهان باموك. هذا المضيق الذي يفصل بين تركيا الآسيوية وتركيا الأوروبية، يصل البحر الأسود ببحر مرمرة المفتوح على البحر المتوسط عبر مضيق الدردنيل. يشكل البوسفور إذاًَ عقدة طرق بحرية يتقاطع عندها الشرق والغرب. ويصلح بالتالي استعارة لانقسام الهوية التركية بين ضفتين وعالمين. يكتب جلال قبل اختفائه الغامض في "الكتاب الأسود" نصاً رؤيوياً عن جفاف البوسفور في زمنٍ آتٍ. ما يراه جلال لا يقع في المستقبل فقط ولكن في الماضي أيضاً. وفي الحاضر - نقطة تقاطع جميع الأزمنة. جلال، كاتب العمود في صحيفة Milliyet التركية، يقرأ - أو يزعم انه قرأ - في مجلة فرنسية مختصة بالجيولوجيا ان مياه البوسفور تتراجع وأن المعبر مقبل على الجفاف بعد سنوات. يبدو ان حرارة مياه البحر الأسود آخذة في الارتفاع، وان حرارة مياه المتوسط تبرد رويداً رويداً، وهذا يسبب هرب المياه وارتفاع قعر البوسفور تدريجاً. يكتب جلال في عموده انه نزل الى المرفأ وقابل صياد سمك أخبره ان القارب بات يعلق في أماكن من البوسفور كانت قبل زمن قصير عميقة المياه. من دون أن يغمض عينيه يستطيع جلال قارئ دانتي ولويس كارول وناتانيل هوتورن وادغار آلان بو وتوماس دي كوينسي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي وكولريدج أن ينظر الى مياه البوسفور تلمع فضية في نور القمر وأن يراها تتبخر وتتلاشى، تهبط وتهبط الى أن يظهر قعر المعبر الذي يعطي اسطنبول الحياة. يجف البوسفور فيظهر التاريخ السرّي لهذا العالم. طبقات لا تحصى. وحل وأحذية قديمة وسيارات وهياكل عظمية وبيوت غارقة وسفن محطمة وحيوانات ودلافين. يرى فرقة صليبية كاملة غرقت بينما تعبر البوسفور في القرن الثاني عشر للميلاد. هياكل عظمية لفرسان مدججين بالدروع والرماح والسيوف، على هياكل عظمية لأحصنة علقت حوافرها في وحول وأعشاب وبقايا علب بلاستيك وصناديق خشب وحديد. الفرقة الصليبية الغارقة تبدو - في ضوء القمر الذي يغمر اسطنبول المستقبل - كأنها تحرس سيارة بويك سوداء غطت الأتربة والطحالب عجلاتها. تهرأ مطاط العجلات وبقي المعدن يغطيه صدأ بلون الياقوت. جلال يخبر قراءه انه طالما أراد العثور على سيارة البويك هذه. يخبرنا انه في زمن الشباب، أول دخوله عالم الصحافة، كان مراسلاً في الشارع يتبع أخبار رجال العصابات في أحياء اسطنبول السيئة السمعة وشوارعها الخلفية. آنذاك، لم تكن توجد في اسطنبول غير ثلاث سيارات من هذا الطراز. الأولى هذه التي ترقد في قعر البوسفور - كان يملكها رجل العصابات الأكثر شهرة. الثانية امتلكها صاحب سكك الحديد. الثالثة اقتناها ملك التبغ، السيد معروف. رجل العصابات قفز بسيارته الى مياه البوسفور، والى جانبه عشيقته، فاراً من الشرطة. حدث هذا قبل زمن بعيد. جلال يتخيل نفسه ماشياً على وحول البوسفور، يعبر بين أحصنة الصليبيين، ثم يخرج قلماً من جيبه. بالقلم الذي يسطر هذه الحكايات، يقشر الطحالب الخضر القاتمة عن زجاج الكاديلاك فيرى هيكل عظمياً يلتحم بهيكل آخر. رجل العصابات يقبل عشيقته، والجمجمتان تلتحمان، بينما السيارة تغرق في البوسفور. يتخيل جلال مستقبل مدينته بينما يحكي لنا - مع باموك - قصص حاضرها وماضيها. في "القلعة البيضاء" نقرأ عن اسطنبول الباب العالي والعلاقة بالغرب ممثلاً بمدينة البندقية الايطالية خلال القرن السابع عشر. "اسمي أحمر" ترجع الى زمن أبعد. "الحياة الجديدة" عن اسطنبول الآن وزمن العولمة وباصات تقطع البرّ الأناضولي وتربط مدناً حديثة بقرى نائية ما زالت تقيم في العصور الوسطى. لكن "الكتاب الأسود" يتفوق على هذه الروايات جميعاً. الحبكة شبه بوليسية. يختفي جلال ثم تختفي رؤيا ويجد غالب زوج رؤيا نفسه مضطراً للبحث عن الاثنين في شوارع اسطنبول ومتاهة عالمها. رحلة البحث عن جلال تصنع الرواية. أو نصف الرواية. النصف الآخر تصنعه مقالات جلال المنشورة في صحيفة Milliyet قبل ان يختفي. يدرك أورهان باموك معنى البوسفور في أدبه. عام 1998 كتب في مجلة Granta الانكليزية نصاً لافتاً عنوانه: "الفتى الذي راقب السفن تعبر". حين يوقظ هدير البوق البحري سكان اسطنبول في نصف الليل، يدركون ان الضباب يغطي وجه البوسفور وأن السفن العابرة تعيش خطراً قاتلاً في هذه اللحظات. ينقل باموك من صحف عام 1963 خبر اصطدام سفينة روسية تنقل وقوداً بأخرى أميركية أو بلغارية تحمل قمحاً وذرة. اندلعت النار وغطّت البوسفور. اشتعل النهر كلّه. الذرة فرقعت. في الليل توهجت المياه بلون أصفر. السكان عند الضفتين فرّوا من بيوتهم متسلقين التلال مع بطانيات الصوف. بعد انفجار مدوٍ تحطم زجاج البيوت في اسطنبول كلّها. كانت الشظايا المحترقة تتطاير من ضفة الى أخرى وتحرق بيوتاً في آسيا وأوروبا. في 15 تشرين الثاني نوفمبر 1991 غرقت سفينة تعبر البوسفور آتية من رومانيا. كانت تحمل 20.000 خروف، وترفع العلم اللبناني. الخراف القليلة التي قفزت من السفينة الغارقة سبحت الى الضفة. هناك أنقذها سكان اسطنبول. كانوا - قبل لحظات فقط - يقرأون الصحف ويشربون الشاي جالسين على شرفات مقاهٍ وبيوتٍ تشرف على البوسفور. هذا العام يبلغ أورهان باموك الخمسين. هل يُعطى في سنوات آتية أن يكتب روايات تشبه "الكتاب الأسود"؟ المستقبل درب احتمالات لا تُعد. وها نحن أمام كاتبٍ آخر بعد الياباني هاروكي موراكامي والتشيكي ايفان كليما يستحق ان يُترجم كاملاً ويُقرأ ويُعرف في اللغة العربية.