كلمة الأب تعني اكثر من كلمة الوالد، فلها ابعاد نفسية وروحية، تطاول بداية التاريخ وعلاقته باللغة - فليس مصادفة ان "أب" تشكّل بحرفيها بداية الأبجدية، اي بداية اللغة ومرجعيتها، لا سيما ان الأب في مجتمعنا العربي، لا يزال يتمتع بالسلطة، ويشكل الركيزة الأساسية للبنية الفنسية، فهو الاسم وبداية الكلمة والمعرّف الأساسي بهوية الذات. وهنا نشير في ضوء التحليل النفسي، الى التمييز ما بين الأب الواقعي الذي نتعامل معه في حياتنا العائلية، والأب الخيالي الرمزي بما يحمل من قيم تعود الى بداية التاريخ. فكل حدث يطاول موقع الأب في نفوسنا، لا بد ان تنتج منه إفرازات في المجتمع العربي قد لا يمكن حصرها الآن، ولكن يتبين لنا من القراءة الأولى، ارتباط هذا الأب وما يتعرض له، باسم القائد المخلّص "القائد المنتظر"، الذي نحلم به، ونأمل ان يعيد الى هذه الأمة كرامتها بعد ان فشل الجيل المعاصر في مواجهة الواقع المرير. هذه العلاقة بين القائد المنقذ والأب، تشير إليها احداث كثيرة، وجدنا من الضرورة هنا اختيار اربعة منها وتحليلها، لكي نتمكن من توضيح الرواية. الحدث الأول: في 9 حزيران يونيو 1967- بعد نكبة 5 حزيران. توجه جمال عبدالناصر الى الجماهير مخاطباً - ليعلن استقالته من رئاسة الجمهورية، وتحمله مسؤولية هزيمة الجيش المصري امام الجيش الإسرائيلي. وعلى رغم الصراحة التي ابداها والشعور بالمسؤولية بأنه قد هزم امام العدو فمن الواجب ان يستقيل ويترك المجال لشخص آخر يحتل القيادة محله. لكن الشعب لم يتحمل الحقيقة. لأن الهزيمة سميت نكسة وهي في الواقع كارثة وسقوط القائد عن حصانه اكبر من تحمّل الجماهير، فإذا بها تتظاهر في شكل عفوي لم يسبق له مثيل ولا تصوّر، لدى اي جهاز من اجهزة الاستخبارات. خرجت الجماهير الى الشارع، تنادي بصوت واحد بعودة القائد الى الحكم الحلم. "المذلة"، بدت بوضوح، اكبر بكثير من الهزيمة، فالأولى تطاول المثل الأعلى، وهو لا بديل عنه، اما الثانية فحدث عابر يأخذ مكانه في مسار التاريخ. وهنا تجب الإشارة الى خصوصية المجتمع العربي وقدرته على تحمل مسؤولية الأحداث. فعلى سبيل المثال عندما استقال الجنرال ديغول بعد خيبة امله في الاستفتاء العام في فرنسا سنة 1966، لم يثر الشعب الفرنسي، ولم ينزل الى الشارع، على رغم ان ديغول يعتبر بطل الاستقلال ومُنقذ الشعب الفرنسي من عبودية الحكم النازي. الحدث الثاني: بداية الانتفاضة - المشهد: الطفل محمد الدرة يحتمي وراء والده، في تصور بمثل هذا العمر ان الأب درع لا يخترق. ما دام في حماية والده فلا خطر عليه. الأب يصرخ ويشير بيديه لكي يعلن نياته السليمة. الابن يبكي. الخوف والرعب على وجهه من خطر مداهم. العدو جاثم امامه بلا رحمة، وحماية الأب انهارت وبدا إذلاله على مرأى من عينيه. كأن العالم قد انهار بأكمله، قبل ان يغيب نهائياً عن هذا العالم الظالم. الصورة كما نعرف هزّت المجتمع العربي بأكمله، واستفردت من كل الأحداث والمآسي لتصبح نموذجاً، فلم يبق عربي إلا وفي نفسه لوعة وحسرة. السبب هو ان الحدث خاطب كل ذات في لاوعيها قبل ان يدرك الوعي ابعادها. فصورة الأب الذي نتخيله في فترة من طفولتنا مثالياً - اي الأب الذي يحتمي وراءه الابن، الأب الذي يجد فيه الابن الدرع الواقي من مخاطر الحياة، إذا به فجأة ينهار، ليس فقط لأنه لم يؤمّن الحماية لابنه الطفل، بل لأن هذا الانهيار ترافقه صورة اذلال الأب التي بدت واضحة على مرأى من الجميع، وهو ملتوي الرأس الى جانب جثة ابنه في حضنه. فتحطمت كل مشاعر الأبوة والتي تماهى بها كل عربي ممن شاهدها، فشعر انه مستهدف. المثل الثالث: هو ايضاً من الانتفاضة الأخيرة. قد يختلف الفلسطينيون والعرب مهما كان انتماؤهم على صلاحية او افضلية ياسر عرفات كقائد. ولكن الحدث المدهش: ان عرفات بعدما تعرّض للحصار والإهانة من الجيش الإسرائيلي إذا به يقفز من التأييد الجزئي الى التأييد الشامل فيتوج كقائد عربي. الإهانة التي احاطت به، جعلت الجماهير العربية والفلسطينية على اختلافها، تتناسى مدى صواب سياسته، نجاحه او إخفاقه، لكي تجمع على نجدته وتتويجه كقائد تقف وراءه. ولكن، يبدو ان عرفات لم يدرك اهمية هذا الموقع الاستراتيجي، فكان المطلوب منه المزيد من الصمود والتضحية، لكنه فضّل التكتيك على حساب الاستراتيجية، فإذا به يتراجع الى الظلمة بعدما استقطب الأضواء. المثل الرابع: نشرت احدى الصحف ما قبل الانتفاضة صورة على اثر اغلاق المعابر امام العمال الفلسطينيين. آلاف الأبناء والآباء واقفون في طابور طويل: يصرخون ويهددون، ويطالبون السلطات الإسرائيلية بفتح المعابر. ولكن ما هو مطلبهم؟ ان تسمح لهم اسرائيل بأن يخدموا - بأن يكونوا عمالاً لإسرائيل؟ نحن من جهتنا نتفهم ذلك لأن إعانة الأطفال على الحياة وكسب الرزق لهما الأولوية على المطالبة باستعادة الأرض. ولكن، الاستنتاج الحاصل من هذا المشهد: هو ان صورة الأب المهان الذي يقف سائلاً امام الأبواب الإسرائيلية طلباً للرزق، لقد انتهى به المطاف الى المطالبة بخدمة اسرائيل بدل المطالبة بتحرير الأرض - اي ان الحاجة طغت على المبادئ والحق. كيف يمكن ان نقرأ هذه الأحداث وما تأثيرها في الشباب العربي في تطلعاته الى المستقبل؟ هنا لا بد من الإشارة الى ان العمل التحليلي يسير باتجاه معاكس لما هو معروف في الحقل العيادي، اي اننا ننتقل من الظواهر السيكولوجية الجماعية الى سيكولوجية الفرد. أول ما يبدو لنا بروز طرفين: الأول: القائد المثالي - المنقذ، والحاجة الشعبية إليه. الثاني: الأب المهان وردود الفعل العنيفة - التي قد تذهب الى حد الاستشهاد. بالنسة الى القائد، وانطلاقاً من البنية الاجتماعية لمؤسستي الجيش والكنيسة، فإن الجماهير بحاجة حياتية إليه لكي يقودها ويوحدها. فالقائد يستمد قوته وشرعيته من تماهي افراد الجماعة به، اي انه يحتل في نفسية كل مواطن مكانة مثال الأنا، الذي تتطلع إليه الجماهير لكي يحقق اكتمالها - وإلى جانب ذلك هنالك تماه أنقى مقارنة بهذا التماهي العمودي ما بين الجماعة. هذا التماهي كما يحدده فرويد هو من النوع الليبيدي المثلي، ولكنه مجرد من غاياته الجنسية - اي ان التماهي يحصل على حساب هذا الاقتناع، يربط كل هذه القوى المجتمعة، من طريق التماهي بالقائد الأعلى، الذي يعكس تكاملها ووحدتها. هذا القائد بحسب تصور الجاهير هو غير الرجل الذي يحتل مكانه، فهو من صنع الخيال، اي من كل ما ينقص الأنا من صفات القوة، والدعم، وتحقيق الأماني والبأس والجرأة والشجاعة، اي ان الانسان يتطلع الى هذا المثال الأعلى كنقطة التقاء مع الآخرين لكل ما يفرزه الخيال من إدراك لضعف الأنا ووهنها. هذه الحال النفسية على رغم كونها ظاهرة مميزة عند المواطنين الراشدين تعود في تكونها الى مرحلة الطفولة عندما يفتح الطفل عينيه على العالم بكبره ومخاطره، ويرى في المقابل ضعفه الجسدي والفكري في مواجهته، فيجد في الأب الترس الواقي، والقوة الحامية، فيسقط عليه من مصادر خياله ما يسمى بالأب المثالي، صورة انعكاسية للأنا المثالي. يتبين من الاستنتاج الأولي ان العلاقة ما بين المواطن والقائد: هي في الأساس علاقة نرجسية، هي بمثابة سراب نرجسي تكويني لا يمكن التخلي عنه إذا بقي الفرد حبيس هذه الدعوة التكاملية مع الأنا الأعلى. ويتبين ظهور الحاجة الى هذا المثال الأعلى عندما يبدأ الطفل في إدراك واقع هذا الأب وحدوده وضعفه، لا سيما وهنه إذا تعرض للإذلال، فتنفصل عندئذ الصورة المثالية عنه لكي تفتش في فضاء الرمز عما يمكن ان يجسدها في الواقع. وفي هذا الانتقال، لا بد من المرور بالتركيبة العائلية المتمحورة في مجتمعنا حول الأب وسلطته، وهي ما تسمى العقدة الأوديبية. ومن نتائج إذلال الأب الواقعي وانفصاله عن الأب المثالي: سواء نتيجة الحقبة الاستعمارية، او ما بعد ظهور اسرائيل المغتصبة للأراضي المقدسة - سأتناول ظاهرتين افرزهما هذا الحدث النفسي، وقد تكون هنالك افرازات اخرى غيرهما لكنهما في نظري تحتلان صدارة المجتمع العربي. الأولى: الدعوة المستمرة الى القائد المثالي. والثانية: الاستشهاد. وهما مرتبطان في ما بينهما بخطوط نفسية قد لا تبدو للعيان. الأولى: تجسدت في ظهور القائد جمال عبدالناصر الذي كما نعلم، توجه الى جميع ابناء المجتمع العربي بشعاره المعروف: ارفع رأسك يا أخي. وكانت اهدافه الأساسية: في تحرير الأمة العربية من عبودية الاستعمار. وفضح المتعاملين والمتواطئين تجسيداً لطلب الأبناء في تحريرهم من مذلة الآباء. ويتبين من خلال موقع السلطة، انه على رغم الإيجابيات في التوعية ونشوة النصر باللقاء اخيراً مع القائد المنتظر، القائد المنقذ، كان لذلك بعض السلبيات التي لا نزال نعاني آثارها حتى اليوم. فغياب عبدالناصر المبكر ترك فراغاً، وأمنية كل قائد أو حاكم ان يحل مكانه: باعتبار ان هذا النموذج للرجل والحاكم اصبح امنية وطموحاً لتحقيق مثالية الحكم. والتركيبة العائلية في المجتمع العربي بعدما كانت قبلية في الماضي، ظهر فيها مفهوم الأمة - الأم - مرادفاً للقائد - الأب - والمواطنين الأبناء كبنية اساسية تشمل كل المجتمع وتدعو الى الانصهار بها ونبذ الفوارق والاختلافات، والتخلي عن البنية القبلية التي كانت سائدة. والقائد عندما يتوجه الى الجماهير يخاطبها: "يا أبنائي"، اي ان شرعيته اصبحت مستمدة من صفة ابوية تخوله السلطة المطلقة على الأبناء. وهؤلاء اصبحوا بالضرورة قاصرين امام القائد المثالي، الذي يعرف ما هي مصلحتهم، ويتكفل بإضفاء قوة ونفوذ على ضعفهم وقصورهم الفكري. هذا اضافة الى ان صفة الأب تضفي عليه اي القائد شرعية مستمدة من السلطة السماوية، فأي معارضة لهذا الأب المثالي تصبح معارضة لأحكام إلهية. فقدسية الأب منحة من السماء، اي ان هنالك معادلة سائدة في اللاشعور الجماعي: مفادها ان عصيان الأب هو عصيان الله، ورضى الله من رضى الوالدين. نتيجة هذا الفسخ ما بين موقع السلطة المتمثلة في القائد حصلت هوة نراها تكبر مع الممارسة حتى تؤدي الى الانهيار. فالمجتمع المدني يعامل في مثل هذه الحال على غرار نموذج الحاكم والمحكوم، وهو بحكم هذا الموقع السلبي، لا يرى بداً من الاستسلام: اولاً لأن الحاكم غير مسؤول امامه - هو هبة من الله ويستمد سلطته وهيبته من موقعه ولا حساب إلا امام الخالق. ثانياً: ارتباطه النرجسي بصورة الأب المثالي يضع الأبناء حكماً في صورة القاصرين عن إدارة شؤونهم بأنفسهم، فيتعطل الذكاء، وكما يقول مصطفى صفوان: عندما ينام الذكاء تستيقظ العفاريت. الظاهرة الثانية: الانتفاضة بصيغتها الأولى وبصيغتها الثانية. من هم اصحاب الانتفاضة؟ اي من هم المنتفضين؟ هم ابناء آباء 1948. اي اذا صح التعبير هم ابناء اب المخيمات - اب اللاجئين - وهما صفتان لا تكرّمان الأب ان لم تضفيا عليه صفة الإذلال. الابن ثائر: وثورته تتعدى حدود المطالبة بالأرض لتصل الى المقدس كونه الحقل الرمزي الذي يستمد منه هويته. هي ثورة ضد المغتصب: من ناحية لإعادة الحق ورفع الظلم ومن ناحية ثانية لإعادة الاعتبار للأب المهان الذي فضّل اللجوء على الكفاح، الأبناء يحملون في طيات انفسهم النكبة النفسية لأحداث 1948، التي اضطرت الآباء الى ترك الأرض واللجوء الى الخيم - فهذه الخيمة اصبحت شعاراً للذل والإهانة يحمّلون الآباء مسؤوليتها. الابن يجد نفسه امام احتمالين لرفع الذل عنه وإعادة الاعتبار الى الأب: - اما الاعتماد على القائد المنتظر، ولكن بعد غياب عبدالناصر بدت الساحة فارعة. وكاد ياسر عرفات ان ينجح عندماكان محاصراً، لو استطاع ان يذهب الى آخر الشوط، فالإجماع عليه كان شاملاً على الصعيد الشعبي، وعلى صعيد الحكام على رغم ان جزءاً منهم كان مناوئاً لسياسته، فذلك كان يتطلب المزيد من التضحية ما لم يكن في قدرة عرفات. هذا الفراغ الذي احاط بالشعب الفلسطيني وخيبته الكبيرة من الحكام العرب، جعله يلجأ الى الدين، يفتش عن نموذج تاريخي له الصفة الروحية والدينية لكي يصبح نموذجاً لقيادته. والاستشهاد كان جواباً من الأحفاد على تخاذل الأجداد المستشهدون من الجيل الثالث. والملاحظ ان الكثير من اسماء القيادات مستوحاة من اسماء الصحابة وأسماء القادة المنتصرين: امثال صلاح الدين وخالد بن الوليد وغيرهم. ماذا يعني ذلك؟ يعني الاستعانة بالتاريخ بعد ان فشل الحاضر في تحقيق الأماني. وهنا يكمن الخطر، فإما إعادة التاريخ لإلغاء الحاضر، وهذا سيؤدي حتماً الى نكبات جديدة لأننا نكون قد تخلفنا عن معطيات العصر، وإما إلغاء التاريخ واعتماد الحاضر، ما يعني إلغاء الهوية والاستسلام المطلق لمنطق القوة. في مثل هذه الحال يخرج الدين كساحة رمزية للهوية ويصبح الاستشهاد المخرج الوحيد امام الأبناء لإحياء وإعادة كرامة الأب المثالي عبر التماهي به في عملية تلغي الحياة. فتعريف الأب المثالي في التحليل النفسي انه من صنع حقل المخيال، على رغم تداخل المحرمات الرمزية التي تكوّن الأنا الأعلى. وهو موجود في بنية كل نفس. وما يميزه في الحياة السوية: هو المسافة المتباعدة التي تفصله عن الأب الواقعي. وأهمية مكانته: انها تنطلق من اب ميت - اشبه بتمثال مركّز على منصة عالية، اي بمعنى آخر - تمثال الأب بعد موته. وهو اعمى - متحجّر - لا يلقي التفاتة الى رغباتنا. اهميته، تكمن في النرجسية التي نسقطها عليه. وفي تجريده من كل دافع جنسي. وإذا تماهى القائد بالأب المثالي وهذا ما يحصل عادة عند الحكام، عندئذ يرى صورته معكوسة في الجمهور الذي يدين له - صورة متكاملة ويوهم الشعب بأنه يحقق للشعب في كماله ما ينقصه. الخطورة في الموضوع: انه عندما يرى الشعب في القائد النموذج للأب المثالي، يعلن في الوقت نفسه استقالته من اية مسؤولية مدنية، لا سيما اذا ربط الحاكم وجوده بالسلطة السماوية. فإن كان خيراً ومنقذاً يعتبر تحقيقاً لقدرة إلهية، وإذا كان مستبداً وطاغية يعتبر عظة من الله لكي نهتدي وندفع ثمن خطايانا. ففي كل الأحوال تقع المسؤولية على الجماهير. وتكون النتيجة امام هذا القائد المنتظر: قصور ذهني - شعور بالدونية - استسلام لمشيئة القدرة - رفض للديموقراطية لأن المشاركة تصبح انتقاصاً من كمال الأب المثالي اي القائد وأخيراً... الكارثة. * بروفسور. محلل نفساني - باريس.