مناخ الهزيمة آخذ في ترتيب أو إعادة ترتيب مناخ القمع. وكما في عقود سابقة، وفي هزائم سابقة، هناك عودة تدريجية إلى ردود الفعل ذاتها، بالضغط على الداخل طالما أن الضغط الخارجي أقوى من أن يُقاوم أو يُتعامل معه بعقلانية وفاعلية، لا من الدولة ولا من المجتمع. حرية التعبير والإعلام تبدو أولى ضحايا هذا المناخ بمزيجه ال"ما بعد 11 سبتمبري" وما بعد اجهاز القوة العسكرية الإسرائيلية على الانتفاضة الفلسطينية. حرارة الحساسيات ترتفع باستمرار، حتى أن "الكلمة" عادت لتكلف صاحبها ثمناً أقله أن يُسأل ويُساءل وأكثره أن لا يُعرف مصيره، وبين الاحتمالين هناك طبعاً "محاكمات" ملفقة بتهم مفبركة ومضخمة ووفقاً لقوانين تسترشد "شرعة" حقوق الحكم ولم تسمع ب"حقوق الإنسان". كانت ظهرت اشارات إلى أن حرية التعبير شقّت لنفسها طريقاً بقوة الواقع، ولكن من دون حماية القانون أو الدستور، وأعطى الاسهال الكلامي على الفضائيات العربية انطباعاً بأن شيئاً ما يتقدم، وبسرعة، في هذا المجال. وبالفعل هناك أشخاص وفئات اتيح لها أن تظهر وتُسمع رأيها وصوتها وتحليلها للأوضاع، بل اتيح لها ذلك للمرة الأولى منذ وُجدت. لكن كثيرين من هؤلاء دفعوا غالياً ثمن ظهورهم وأحاديثهم. كما أن المحطات التي استضافتهم تعرضت للمضايقة والملاحقة وبلغ الأمر حد قطع العلاقات بين بلدان عربية، أي أن العلاقات والمصالح وضعت في كفة وظهور المعارضين وأصحاب الرأي في الكفة الأخرى. وهكذا أمكن للمشاهدين أن يبدأوا التعرف إلى "الرقابة الذاتية" المرئية - المسموعة بعدما نفروا منها مكتوبة ومذاعة. وإذ افترضت الرقابة الذاتية شيئاً من "الهامش" الاخباري الخام، المجرد من أي خلفية أو تحليل، فإنها باتت مدعوة أكثر إلى أن تكون رقابة بكل معنى الكلمة. وفي حين أن الإعلام مهنة تتطلب تدريباً وخبرة وثقافة وتعاطياً مع تقنية المعلومات، فإن الرقابة يمكن أن تلقّن بدرس واحد، فهي تتطلب حساً غريزاً بالممنوع والمسموح. وتوحي تصرفات بعض الأجهزة بأن العمل الوحيد لعناصرها أن يقرأوا الصحف سطراً سطراً وكلمة وكلمة. والسائد أن "رصد" الفضائيات أكثر سهولة، فهي عالم مكشوف لا حاجة فيه للقراءة بين السطور. لا يستطيع المتحدث على الشاشة اللجوء إلى الرموز والمجاز والتلميح إلا بمقدار يسير مخافة أن يبدو غير مفهوم فيفشل في مهمته، خصوصاً أن الوقت مداهم. والكلام المكتوب له حسابات أخرى، من جانبي المصدر والمتلقي. فحتى ما يُكتب بحسن نية كامل يمكن أن يُفهم بسوء نية كامل، وما يُكتب بدافع المصلحة العامة يمكن أن يُفسر بأنه ضد هذه المصلحة. يتاح للعديد من الصحافيين أن يتأكدوا مراراً من أن لهم قراء مواظبين لا يكلّون عن التنقيب في حروفهم. الهاتف الصباحي المبكر لا بد أن يكون من أحد "المعجبين" الرسميين. إنه يسعى إلى الاستفهام عن كلمة واحدة وردت في السطر الرقم ألف في العمود السادس، هل لها لزوم؟ وإذا تأخر الهاتف فلا يعني ذلك أن القراء المداومين في اجازة، بل سيأتون شخصياً: مطلوب مرافقتنا إلى الدائرة لمساءلة بسيطة. لكن هذه قد تدوم ساعات، أو تطول إلى اليوم التالي، أو تستمر أياماً، وقد لا تخلو من تعذيب مبطن، بل قد لا تخلو من عنف سافر، هذا يتوقف على سرعة تجاوب "المتهم" واعترافه بالذنب.