حين غنّت فيروز في غابة الأرز القريبة جداً من قريتي لم أذهب لمشاهدتها. كان ذلك في السبعينات بداياتها والمسرحية - على ما اذكر - كانت "هالة والملك". في الأرز كانت نوادي السهر قبلة أشواق أترابي... ذلك السبت لم نتردد بين فيروز والسهرة في مربع ال"إيسبا". تشدنا إلى ال"إيسبا" آخر واردات الموسيقى الراقصة، والحركة بين الحلبة والكراسي حيث تتعالى الوشوشات عن الشباب الأكثر وسامة بين الوافدين من بيروت لقضاء "الويك إند". كانت فيروز تغني الريف وكنا ريفيين نبحث بضراوة عن المدن. هي تخترع غواية البساطة في حياة القرى، ونحن نموت شوقاً للاتصال بالعالم المعقد الذي يُنسينا ضجرنا الفظيع من قرويتنا وحدودها الضيّقة. كانت فيروز موضوعة في إطار صورة لم تكن تعنينا في شيء، بل هي كانت مضادة لأشواقنا. كانت "صوتاً ملائكياً"، "سفيرة إلى النجوم"، تجاور القديسين طهارة وارتقاء... كانت جسداً لا يتحرك على المسرح علامة بائنة على رسوخ جديتها... لا ترتدي سوى الثياب الخالية من البهرج والتي لا تكشف عن أي من المفاتن، مستورة تماماً إلى الرقبة واليدين والكاحلين. ونحن، كنّا جيلاً يشد باتجاه الواقع، نستميت لنعي جسدنا ولنحقق له شيئاً من حرية الحركة... وصلنا إلى "الميني جوب" كمن يحقق انجازاً تاريخياً عظيماً. صرنا نسبح بالمايوه من دون حرج، نرقص مع الشباب من دون فضائح، نقرأ عن الثورة الجنسية وعن تحرر المرأة والشعوب ونتنهد... كنا مدعوين - ولو من بعد - إلى وليمة العالم السفلي وكانت صورة فيروز تذكّرنا بتعاليم الأهل وبوصايا الراهبات وأشواق الملائكة... إذاً... *** في نهاية السبعينات لم أكن كذلك "فيروزية الهوى"، كما كان - وما يزال - يحلو للشعراء المتعصبين لها أن يصفوا أنفسهم، يزايد الواحد منهم على الآخر في القدرة على الاطلاقات وعلى الاستعارات "السماويّة" و"الوطنية" التي تكيل من محيطات الانشاء والاطناب ما لا قدرة لي الآن على استرجاعه. ظلوا يبالغون في شعرانيتهم حتى أبعدونا عنها. ما عاد بالإمكان أن نحلم بالاستعاضة عن بلد محترق، منهار ومفتّت ب"ميس الريم"... صار التعصب ل"ميس الريم" من قبل بعض نصف اللبنانيين تعصباً لأفكار نصف الشعب في بلد يتحارب أهلوه - أي نصفهم الأول ضد نصفهم الثاني - حتى الموت والمحو، أو حتى الموت والامحاء، أي التقسيم... ميس الريم، كفرحالا، جبال الصوّان وضيع أخرى تكفّل بها زياد الرحباني، فلحقنا بزياد لكي نضحك ونبكي كالأبالسة. بدت أغانيها الوطنية "الجامعة" - عن قصدية ظاهرة - غاية في السذاجة وفي استعباط المستمعين... كان التغني بحب الوطن يبدو آنذاك - في عموميته وتبسيطيته - أشبه بالدعايات السياحية في بلد يفرّ أهله منه كالجراذين من سفينة في بحر هائج. حين كان يخف القصف ويحنو الليل قليلاً، كنّا نستمع إلى الغرباء الذين يأخذوننا بعيداً إلى أمكنة وإلى أزمنة أخرى... هكذا مثلاً كان يمكن الاستماع الى أم كلثوم والطرب لها، لأننا كنا نحسب أن زمنها مضى إلى غير رجعة وأن الصفة الأبدية للشعر الذي تغنيه لا يعني زماننا أو مكاننا في شيء... لم نكن مهددين بأحمد رامي أو بالطرابيش... بل كانت تعذبنا تلك الإمكانية الواهية بوجود "ميس الريم" أو بعودة أحلام ميس الريم إلى السكن فينا كما كانت سكنت أهلنا من قبلنا. لم أكن استمع الى فيروز في ليل البلاد نهاية السعبينات. ولم أكن استمع إليها هناك في الصباح حيث درجت الاذاعات على برمجة أغانيها في ساعات الصباح الأولى ؟! ذلك اني أكره الصحو باكراً... ولم تفهم "ضحى" حين رفضتُ دعوتها الى حضور حفلة فيروز في "بيت الدين" الصيف الماضي. اعتقدتْ أني سأكون سعيدة جداً لوجودي في لبنان في الفترة التي ستغني فيها فيروز. لم أستطع أن أقدّم لضحى الأسباب القابعة وراء رفضي دعوتها الثمينة... أنا نفسي لم أكن أتبيّن هذه الأسباب... لم أكن اريد أن "أعرف" هذه الأسباب. *** حين غنّت فيروز قبل أسابيع قليلة في باريس، ذهبت إلى الحفلة برفقة ابنتي ديمة. ذهبتُ لكي أكون مع ديمة لأنها رفضت أن تذهب وحدها، معتقدة اني إنما أضحي تضحية الأم الرؤوم التي تفضّل ابنتها على نفسها إن عزّت البطاقات وغلا ثمنها... ما ان اطلت فيروز على المسرح حتى داهمني البكاء. أقول البكاء بدموع غزيرة، لا تلك التي تغرورق بها العيون لثوانٍ يغلب فيها الانفعال القوي الطارئ. راحت ديمة تنظر إليّ باستغراب حين طال بي الأمر... ثم راحت تلكزني خفيفاً بما يشبه التأنيب ساعية إلى سحبي مما قد أورط نفسي فيه من سخافةٍ أمام الناس القريبة مقاعدهم من مقاعدنا. هل كانت دموعاً تشي بالندم المرّ؟ هل كنت حزينة إلى هذا الحد لإحساسي بأن ابنتي الصبية تشاهد فيروز للمرة الأولى كالغرباء، ولأنها لا تعرف فيروز، إذاً لا تعرف ما أعرف عن البلاد التي هي بلادي ولن تكون ربما بلادها في المستقبل... ولأن ابنتي قد تستمع إلى فيروز كما تستمع إلى المغنيات الاخريات و... قد لا تحب ما تسمع... قد لا تفهم كل ما تقوله فيروز بلهجتنا. كلّ ما يفصلني عن ديمة وأستميت لاسترجاعه أو لبنائه أو لاختراعه من بلادي وزمني، يحضر الآن ونحن نستمع إلى هذه السيدة الصغيرة القدّ التي أجد الآن اني أفعل ما فعله بها الشعراء المبالغون. ها أنا أحمّلها بلداً وأستبدلها به. أضعها في المعاني الكبيرة التي لا دخل لها بها وأُسقط عليها الاستعارات الثقيلة. ها أنا اردّها إلى السماء وإلى "ميس الريم"، لماذا يا فيروز لم تكوني لي؟ لماذا يا فيروز لم تتعمّر "ميس الريم" لي ولابنتي ولماذا لم تكن ممكنة؟ أنا أيضاً حمّلت فيروز وطنها كلّه وبأكثر ما يفعله الشعراء المبالغون. رددتها إلى الايديولوجيا التي لا فكاك لنا منها. لم أسمع الأغاني. لم أفهم كيف قالت بعض الصديقات إن صوتها تغيّر وتعب. سمعتها من داخلي حيث لا تتعب الأصوات ولا تشيخ. وقعتُ في الحنين الذي أكره... أبشع أنواع الحنين. رحت استعمل ذلك الحنين الذي طالما أثقله الانشاء الرديء وأقفل فيه المغنية التي لم أكن اتحمس لها كثيراً في بدايات السبعينات أو في نهاياتها. إنها امرأة وليست بلداً، لكنْ حين ترفع يدها الصغيرة تودعنا لتتوارى خلف العازفين، أفكر بابنتي بحزن وأقول لنفسي: لمن نأخذ أولادنا إن أصاب فيروز مكروه؟ أفضّل لديمة التي صفقت طويلاً أن تشبهني حين كنت أذهب إلى ملهى ال"إيسبا" للرقص وانتخاب أجمل الشباب من بين القادمين إلينا لقضاء عطلة الأسبوع. أفضل لنفسي أن أشبه أمي التي تتهيأ لحضور مسرحية "هالة والملك" وأن اعتني عناية كبيرة بلبس فستاني النيليّ ذي الوردة الأورغنزا البيضاء وسط الياقة الكبيرة التي تغطي الكتفين.