السيدة المتشحة بالبياض تعود الى محبيها بعد طول انتظار. انتظرت فيروز إطلالة الصيف لتحيي، يومي 27 و28 من الشهر الجاري حفلتين في باريس. هي مقلّة في عملها، تنتقي ما تقدم وتطل لبرهة وجيزة، بين الفينة والفينة، على جمهورها. الصيف الماضي غنت في آب أغسطس في بيت الدين. الشهر الماضي كان آخر مواعيدها مع عشاقها. غنت في دبي. بينما كان هناك موعد لحفلة كبيرة في قطر ولكنها لم تحيها. وريما الرحباني، ابنة المطربة الكبيرة، اكتفت في ردها على أسئلة "الحياة" عن مبررات الإلغاء بالقول: "لا تعليق". محبّو صوت فيروز الذهبي، المرصع بأشعة الشمس الناعسة، وبريق السنابل التي تلونها أضواء الغروب، يلاحقونها أينما ذهبت. صحافي مخضرم، على عتبة الكهولة، لم يُخفِ دمعه في حفلتها الأخيرة. قال باندفاع: "حضرت حفلاتها الست الأخيرة جميعاً. وفي كل مرة أنصت اليها تغني أشعر بأن وهجاً من ذهب يملك علي قلبي وشغافه، فلا أتمالك نفسي عن البكاء". الذين يبكيهم الصوت الشجي كثيرون. الحفلة الأخيرة في مبنى الجامعة الأميركية في دبي كانت شاهدة على ذلك. وبعض الذين بكوا هم من أكثر الناس قرباً إلى هذه الفنانة العظيمة. "بكيت عندما سمعتها تغني: يا ربوع بلادي". مروان الرحباني شخص محب للمرح، ولكن الشجن غلبه. أضاف يقول: "الحفلة كانت رائعة. الست كانت أكثر من عظيمة. قلت لها: أنت كائن من نوع خاص". الموعد كان آسراً. كثيرون آخرون بكوا. في الصالة الكبيرة انحنت رؤوس كثيرة لتخفي دمعاً لم تستطع إخفاءه. تابع مروان يقول: "ما هذه الكاريزما وهذه الطلة على المسرح؟ دهشت بصدق، وأنا الذي أعيش في عالم الفن والغناء والمسرح لهذه الذاكرة القوية التي استعادت أغاني قديمة، عمر بعضها يتجاوز نصف قرن. هي غنت أيضاً قطعاً صعبة لم تغنها مباشرة على المسرح من قبل". القدس وفلسطين كانتا المفتاح السحري. أمواج الحنين تدفقت لتجتاح صدور الحاضرين. غنت "زهرة المدائن" في البداية. ثم "جسر العودة"، "جسراً خشبياً"، وغنت جزءاً من أغنية "سيف فليشهر"، و"غاب نهار آخر". كثيرة أغانيها وكبيراً كان تفاعل الجمهور. "تخلص الدني وما في غيرك يا وطني". وكل مقطع من الموسيقى كان ينبت في الأكف عواطف تشتعل تصفيقاً. كلما غنت كان الحاضرون يصفقون، وكأنهم يستأذنون لملء الوقت بين أغنية وأغنية. فيروز فيها كل ألق الماضي. صوتها المشع يخترق الوجدان، وكلمات أغانيها مفاتيح سحرية يكفي أن تنبري فيها رنة الصوت الذهبي حتى يصفق الحاضرون، وقد عصفت في قلوبهم خيالات الوطن والغربة ومشاعر حب قديم وعواطف تخطف الأبصار وترمينا في متاهات طفولة ضائعة وعائلة بعيدة تفرقت، وحكايات شباب زاهٍ لا تحيط الذاكرة بكل تفاصيله المنسلة. جوليا بطرس قالت ل"الحياة": "أنا متعصبة لفيروز. هذه السيدة صرح عملاق وجميل أبعد من الوصف. هي متميزة في كل شيء. كل ما في شخصها جميل: طريقة أدائها، شخصيتها، غناؤها ووقفتها". جوليا بطرس صاحبة الصوت الجميل متأثرة بفيروز. كثيرون غيرها سحرتهم فيروز. مئة صحافي وكاتب كانوا في حفلة فيروز الأخيرة. دعاهم "نادي دبي للصحافة"، في منتداه الذي جمع أهل الصحافة والكلمة في العالم العربي. في ضوء تلك الصالة الخافت، أشعلت فيروز بصوتها الدافئ، شعوراً من الشوق استباح عيون كل الحاضرين. معظمهم أخفى دموعه التي مسحها بكمه أو بأصابعه التي تعجن أفكار الناس. موسيقى الرحابنة عزفت في مساحات عالمهم ألواناً من المعاني وأدخلتهم في غيبوبة نشوة عميقة. جميعهم كان مستغرقاً في انصات كامل. فيروز التي تطلّ بعد أيّام على جمهورها الباريسي، جزء من تراث هذه الأرض. وهي أيضاً تعد لمشروع، سيكون الأول لها منذ سنوات طويلة، ويتضمن مسرحية غنائية على غرار حفلات بعلبك، لن تتجاوز مدة عرضها شهراً وحداً. المشروع الجدي تدرسه الآن مع رفيق الرحلة الرحبانية الطويلة منصور الرحباني. وفي انتظار أن يتحقق المشروع الجديد، على محبيها أن يتابعوا أخبارها ويحجزوا مقاعدهم من الآن...لأن النجمة الساطعة عمرها 70 عاماً، وكل جهد تبذله سيعني لها الكثير، وهو يستحق أيضاً الكثير من التقدير.