لا بد من العودة مرة بعد مرة الى اسرائيل ووسائل اعلامها ومعاركها مع الاعلام الدولي. ومع ان الاحداث اليومية تقدم فيضاً من الدلالات على تراجع حرية الاعلام في الدولة العبرية، فان الرجوع الى هذا الموضوع تعود اسبابه الى "عولمة" التردي الاعلامي كاحدى نتائج الصراع العربي الاسرائيلي وسياسات حكومة شارون الغاشمة. وهنا لا بد من التوضيح ان سوء الاعلام العربي وترديه لا اثر لهما على العالم غير العربي لأنه لم يكن يومياً، مع بعض الاستثناءات المحدودة زمنياً كمحطة الجزيرة خلال حرب افغانستان، مصدر معلومات للاعلام الدولي او مثالاً يُقتدى به في العمل الصحافي. فاسرائيل التي غدت، حسب وزيرها السابق اليساري يوسي سريد، "أكثر الدول عنصرية ضمن مجموعة الدول الديموقراطية"، ما زالت تحتجز من دون محاكمة خمسة صحافيين فلسطينيين: اثنين من صحيفة "القدس"، ومسؤولا من اذاعة "الحرية"، وتقنياً من "رويترز" ومصوراً من "وكالة الصحافة الفرنسية". واذا كنا قد اعتدنا على الاعتداءات الاسرائيلية على العاملين في الحقل الصحافي الفلسطيني، فان التعرض لصحافيين من وسائل اعلامية غربية لمجرد كونهم من اصل فلسطيني، او عربي، خطوة جديدة في الضغوطات المستهجنة على الاعلام العالمي. ومن ابرز ضحايا هذه السياسة لا بد من ذكرى رُلى امين من "سي. ان. ان" التي أضحت محط انتقاد في الاعلام الاسرائيلي. كذلك فالتعدي على مراسلين من دول عربية أقامت سلاماً مع اسرائيل كالأردن، او قليلة العدائية كالمغرب، مثل إغلاق مكتب الاذاعة والتلفزيون الاردني في رام الله، او مضايقة صحافيين ومطالبتهم بالادلاء بمعلومات كما جرى مع مراسلي محطة تلفزيون 27 المغربية، سمات جديدة للواقع الاعلامي الاسرائيلي الذي كان يشجع الاعلاميين العرب على الوفود الى ربوعه "الديموقراطية". وفي هذه الظروف الملبدة قررت اسرائيل اصدار محطتها الفضائية باللغة العربية للرد على المحطات العربية الفضائية التي يتابعها الجمهور الفلسطيني وجمهور الدول العربية. والبث الذي ابتدأ منذ 25 حزيران يونيو الماضي لا يخرج، بعد اسابيعه الاولى، عن منطق هذا التردي. فعلى رغم تصاريح رعنان كوهين المسؤول عن البث السمعي المرئي في الحكومة الاسرائيلية، والذي اكد ان المحطة المذكورة لن تكون اداة دعاية لصالح الحكومة، بل ستكون موضوعية مع درجة مرتفعة من المصداقية. وعلى رغم بيان يوسف بينيا، مدير المحطة، من ان هذه المحطة لن تكون الناطق باسم الحكومة، الا ان الامثلة عديدة في تكذيب هذا النوع من الكلام. فالرقابة الذاتية والمصطلحات التوراتية وغياب الحس النقدي، كل هذا يضع هذه المحطة اشواطاً وراء الفضائيات العربية. اضف الى ذلك غياب امكانات مادية جادة لتقديم نوعية مقبولة من البرامج. فالتوجه الاسرائيلي الى العرب، لكي لا تتربى اجيالهم على كراهية اسرائيل، لا يخلو من عنصرية الذي يظن انه بإمكانه تقديم اي شيء لمشاهده بقالب سيء ومضمون اسوأ. والفلسطينيون كانوا قد صرّحوا مراراً بأنهم يفضلون مشاهدة نشرة الاخبار الاسرائيلية باللغة العبرية عوضاً عن النشرة العربية على شاشة التلفزيون، نظراً "لموضوعية" الاولى وتحلّيها بشيء من التعددية في الآراء. وهذا الرأي لن يتبدل مع بداية المحطة الجديدة. اسرائيل التي تود دخول المنازل العربية عبر محطتها الجديدة ادخلت محطة "فوكس" الاميركية في باقتها السمعية البصرية كرد غير مباشر على "انحياز" محطة "سي. ان. ان" للجانب الفلسطيني. فمنذ تصريح تيد تيرنر حول الارهاب الاسرائيلي والاسرائيليون ينتظرون بلهفة بداية محطة روبرت مردوخ، أي "فوكس"، حتى ان "هآرتس" كتبت ان هذه المحطة لم تحلم يوماً بتوقيت افضل لبدايتها في اسرائيل من الظرف الذي نشأ بعد تصريح تيرنر. و"فوكس"، على غرار الاعلام الاسرائيلي، تؤكد انها لن تكون منحازة او غير موضوعية، بيد ان كل ما تقوم به وتقوله احياناً يعاكس تماماً قواعد الموضوعية. فبعد 11 ايلول سبتمبر صرّح احد مسؤولي المحطة، وبما يذكّر بالجملة اللبنانية الشهيرة "وطني دائماً على حق"، بأن "كل ما يفعله بوش جيد". وتشاء الصدف ان يبدأ بث هذه المحطة في اسرائيل يوماً واحداً قبل ابتداء عمل المحطة الاسرائيلية باللغة العربية. أما طاقم "فوكس" الاسرائيلي فمؤلف من صحافيين اشتهروا بصداقاتهم لأرييل شارون وهم، رغم ادعاءات الموضوعية، لم يخجلوا من القول ان "اصحاب محطتهم غير مهتمين بالمعاناة الفلسطينية" و"ان اختلافهم مع سي. ان. ان يعود الى عدم فهم المحطة الاميركية خطر الارهاب والى الحساسية الاسرائيلية". الا ان الضغوطات الاسرائيلية وضوضاءها وتهديد المشاهدين بقطع اشتراكاتهم بالكايبل اذا ظل يبث محطة تيد تيرنر، حملت "سي. ان. ان" على "فهم الحساسية الاسرائيلية". فمنذ التصريح الشهير لتيرنر الذي لم يهاجم اسرائيل بل قارنها بالوضع الفلسطيني، والمحطة تفتح ابوابها على مصراعيها ل"الألم الاسرائيلي" و"الضحايا الاسرائيليين" و"الحقائق الاسرائيلية"، حتى ان احد الاعلاميين العرب تمنى لو ان تيد تيرنر كان هاجم العرب في تصريحه وبقيت "سي. ان. ان" على شيء من الموضوعية…