في الأعداد السابقة من "تيارات"، وفي هذه الزاوية، أشير مراراً الى ظاهرة التساؤلات في الشارعين العربي والاسرائيلي حول فشل سياساتهما الاعلامية، وعدم نجاحها في استقطاب الرأي العام العالمي الى جانب أحد الطرفين، أو بالأحرى كيف ان كل طرف يزعم ان عدوه، الطرف الآخر، هو الفائز في هذه الحرب الاعلامية. هذه الظاهرة تبدو في بداياتها، والانخراط فيها والتعليل ب"الفذلكة" الاعلامية لكسب المعارك يخفيان ما يريد كل من الطرفين طمسه من تناقضات وعدم وضوح في الرؤى والسياسات المتبعة. فالفلسطينيون والعرب بشكل عام متأكدون من انهم خسروا فلسطين نتيجة عدم اتقانهم قوانين الاعلام وتقنياته، كما بفعل نفوذ الحركة الصهيونية في الشبكات الاعلامية الدولية، وهذا ما يدفعهم اليوم الى التوجه بكثافة الى الاعلام. وهذا ما يصل في بعض الاحيان الى المغالاة والمبالغة، بحيث يعود فينقلب عليهم، كما حصل عقب مأساة جنين التي أراد عرفات تسميتها بجنينغراد، تيمناً بستالينغراد حيث لاقى الملايين حتفهم خلال الحرب العالمية الثانية. هكذا لم يعد أحد يهتم بعشرات الضحايا الذين قتلوا في المخيم الفلسطيني، وغدا الكلام يتركز على التضخيم الفلسطيني للحدث وأكاذيبه. أما الطرف الاسرائيلي ومؤيدوه في العالم، فلم يهدأوا طوال الاسبوعين الفائتين اللذين شهدا عدداً من التلعثمات الكلامية التي لحقتها على الفور اعتذارات من كل من لورا بوش وشيري بلير وتيد تيرنر. والوكالة اليهودية التي كان دورها حتى الآن يقتضي تشجيع هجرة اليهود من العالم الى اسرائيل، قررت ان تزيد على ادوارها مهام جديدة، وتبدأ في تدريب آلاف الشبان من اليهود على ان يكونوا "سفراء" لاسرائيل في العالم أمام الرأي العام أو السلطات السياسية. فإذا كانت العدسات الدولية تظهر أطفال فلسطين في خضم المعارك، فعلى الاسرائيليين ابراز اطفالهم ايضاً. وهكذا أصدرت الوكالة اليهودية تعليمات لاستقطاب الاعلام الدولي عبر وضع جوقة من الاطفال يرتلون في مآتم ضحايا العمليات الانتحارية. ومن استخدام الاطفال الى اللجوء الى أهالي الضحايا، قامت الوكالة بإرسال وفود الى أوروبا مؤلفة من عائلات اسرائيلية ثكلى فقدت ذويها في عمليات انتحارية. والنتيجة، حسب الوكالة، كانت ايجابية اذ اهتم الاعلام الايطالي بالوفد القادم الى روما بشكل استثنائي. واعتبرت الوكالة هذا النوع من النشاط، المنافي لأدنى معاني الحشمة والذي غدا يستهوي الاعلام العالمي، ضرباً ناجحاً في الاعلام! ولم يتوقف "الدماغ" الاعلامي الاسرائيلي عند هذه الأساليب المسيّلة للدموع، فطرح فكرة أوعز بها المستشار الإعلامي الأميركي لحكومة شارون، ألا وهي اللجوء الى الفتيات الشقراوات ليكنّ الناطقات الرسميات باسم الدولة العبرية. ونتشار هذا الخبر الذي نفته وزارة الخارجية الاسرائيلية، حمل آلافاً من الشقراوات على التقدم الى الوزارة، وبينهن المئات من الوافدات منذ اشهر قليلة من دول الاتحاد السوفياتي السابق. بيد ان السلاح الذي يتقنه الاسرائيليون ببراعة يظل توطيد عقدة الذنب وملاحقة شعور العداء للسامية "المتغلغل في نفوس شعوب العالم". استطلاع يهودي في اميركا اظهر ان 17 في المئة من الشعب الاميركي معاد لليهود. كذلك تصريح مؤسس سي. ان. ان تيد تيرنر حول الارهاب والارهاب المضاد، حيث وضع جنباً الى جنب الفلسطينيين والاسرائيليين، ما أدى الى حملة شعواء ضد المحطة الاميركية التي غدت في أعين الاسرائيليين ناطقاً لاسامياً يجب مقاطعته واستبداله باحدى محطات التايكون الاسترالي روبرت مردوك. الا ان محاكمة سي. ان. ان لم تطل اذ أصدرت صحيفة "يديعوت احرونوت" مقالة عنونتها "سي. ان. ان قديسون مقارنة ب بي. بي. سي" التي، حسب الرأي العام الاسرائيلي، غدت منحازة لأطروحات الجانب المتطرف الفلسطيني. وتحت عنوان "العالم بأجمعه يقف ضدنا"، حاولت الصحيفة بطريقة تربوية بدائية افهام قارئها ان ما قاله تيد تيرنر ليس عداء لليهود أو لاسرائيل، بل تحليل تتقاسمه شعوب العالم سراً أو علناً، ألا وهو ان طرفي الصراع يلجآن الى شتى أصناف الارهاب والارهاب الفكري. والتساؤل عن أسباب هذا التركيز على الاعلام ورصد الطاقات البشرية والمادية الوكالة اليهودية أو الجامعة العربية يعيدنا الى ما يريد الطرفان عدم البوح به. فأية رسالة ستوجهها الجامعة العربية الى العالم بالعشرين مليون دولار التي خصصت لهذه الحملة؟ الا يجدر الاعتراف، كما بدأ يحصل لدى عدد من المثقفين الفلسطينيين الشجعان، بأن اساليب انتفاضة الأقصى حملت للشعب الفلسطيني هزيمة عسكرية هو في غنى عنها، وجعلت مؤيدي هذا الشعب ينفرون من العمليات الانتحارية، قبل ان نبدأ بتحسين الصورة والرسالة؟ اما في ما يخص الطرف الاسرائيلي الذي لم يتعوّد حتى السنوات الاخيرة سوى على صورة اسرائيل "واحة للديموقراطية تروي الصحارى"، أفلم ينتبه الى ان هذا الأمر انتهى، وان التذكير يومياً بالمحرقة لتبرير سياسة تل ابيب لا يجدي مع أجيال جديدة وأجيال قادمة من شعوب وحضارات لا تعني لها السامية والعداء لها سوى القليل؟ وان العقل البشري لا يقبل، مهما عظمت وسائل الاعلام، ان يرى في الطرد والتعذيب والعقوبات الجماعية والقتل والتشريد وهدم البيوت سوى اعمال اجرامية سبق ان دانها في جنوب افريقيا وفي شمال ايرلندا، فلماذا تُستثنى من ادانتها اسرائيل؟